"الشبكة العلمائية الدمشقية".. القصة الكاملة من النشأة حتى التفكك 2

ملخص التحقيق :

في هذا التحقيق، وبالاشتراك مع عبيدة عامر، وبالاعتماد على المقابلات والرصد الميداني بجانب الأدبيات والبيانات يحاول موقع ميدان تحديد العناصر الفاعلة في "الشبكة العلمائية الدمشقية" كياناتٍ وأفرادًا وتفكيك علاقات هذه الشبكة من ناحيتين: خارجية؛ علاقة الكيانات ببعضها، وداخلية؛ علاقة الأفراد داخل الكيان الواحد. ثم رصد ما طرأ على الشبكة من تفرعات وانقسامات، ثم محاولة فهم دينامياتها الداخلية وصولًا لاستشراف مستقبلها المرتبط بالضرورة بمستقبل سوريا اجتماعيًّا وسياسيًّا؛ بما تمثله وتحمله من رمزية دينية وأهمية ومكانة اجتماعية.

*نص التحقيق* 

*الحلقة الثانية* 

*على حافة الضوء* 

ربما كنت لتبدو ليلة الـ27 - المعتقد أنها ليلة القدر – من رمضان 2011م؛ ليلةً عاديّةً كسابقاتها من ليالي مسجد "عبد الكريم الرفاعي" بمنطقة "كفرسوسة" الدمشقية الراقية؛ حيث يتجمهر الآلاف من دمشق لا من تجارها أصحاب الصلة الوثيقة بالعائلة المشرفة على المسجد فحسب بل من عامة أهل دمشق وريفها وبعض المحافظات لصلاة التراويح خلف إمامي المسجد بلال أسامة الرفاعي، وطه سكر في ليلة خير من ألف شهر، ولالتماس بركة الليلة كاملة ضمن برنامج عبادة -كما المعتاد سنويًّا- يشمل الصلاة والأوراد والإنشاد والتسابيح والتهجد والدعاء ليُختم بسحور جماعيٍّ متبَرَّع به من تجار دمشق، الذين اشتُهر سارية الرفاعي بلقب متصل بهم "شيخ التجار" حسب الباحث بيريه.

إلا أن الليلة لم تكن غير عادية فحسب بل كانت مفصلية في تاريخ المسجد وأئمته؛ فرغم سيرورة البرنامج على ما هو عليه إلا أن الدعاء الأخير الذي عرّج على ذكر المعتقلين هيج عواطف المصلين، فانهار حاجز الدموع وبدأ الناس في ساحة المسجد الممتلئة يرددون: "يا الله" بعد كل دعاء بما أوتوا من قوة الصوت والكبت، غير آبهين بأمن النظام السوري المتربص حول المسجد ترقّبًا لأي حراك من الجموع الغفيرة على غرار ما يحدث يوم الجمعة بعد الخطبة. بعد انتهاء الدعاء وتوزيع السحور غادر قسم من المعتكفين المسجدَ سراعًا بعد تعالي شائعة بأن الشباب سينهون الليلة بمظاهرة كبيرة، وبالفعل تراصت الصفوف وبدأت الهتافات واحدًا واحدًا والكل يأمل أن معية الله معهم في الليلة الفضيلة وبأنهم من موقعهم هذا سيسقطون الأسد، فللمرة الأولى وفي وسط دمشق ومسجد الرفاعي هتف الناس: " الشعب يريد إعدام الرئيس"، الأمر الذي أسعر الأمن فحاولوا اقتحام المسجد بغطاء من وابل رصاص حيٍّ وغازٍ مسيل للدموع يتهاطل على ساحة المسجد المفتوحة، وقناصات موجهة إلى زجاج المسجد وإنارته؛ حوصرت الناس وتحوّلت المظاهرة إلى اعتصام، بحسب ما تروي رواية "على حافة الضوء" المكتوبة عن تلك الليلة فقط.

وكانت ساحة المسجد الخلفية الواصلة بينه وبين مصلى النساء يومَها مسرحًا لحدثٍ مهم ضُرب فيه شيخ الجماعة أسامة الرفاعي من قبل الأمن، بينما كان يهم بمحاولة تهدئة الناس، وشاعت رواية حينها بأن دم الشيخ الثائر سال على المحراب ما منحه التصدّر الدائم لفترة قادمة على الساحة الثورية والإعلامية[11].

وبعكس الضوء الذي وُقف عند حافته تلك الليلة؛  تخلت الجماعة عن سياستها بالوقوف على حافة القرار وعدم إعلان موقفها صراحة، وامتدادًا لخُطب أسامة الرفاعي التي انتقدت عنف النظام وحملته المسؤولية ودعته للإصلاح بدا أن قيادة الصف الأول بها تخلت أخيرا عن إستراتيجيتها الكلاسيكية التاريخية "لننتظر ونر"،  دفعا لا رغبة؛ دفعا من قاعدتها وصفها الثاني الذي لم يعد يحتمل الانتظار، ومن النظام الذي تخلى عن تقاربه معها وسلّط شبيحته لضرب شيخ الجماعة أسامة الرفاعي، الدفع الذي يفسر عدم استخدام الجماعة لحظوتها وحضورها بين التجار لحشدهم في مواجهة النظام، ولم يعملوا لتفعيل شبكاتهم الاجتماعية والدينية داخليا وخارجيا للتأثير ثوريا، بل ازدادوا انزواء على أنفسهم وحاولوا ترويض شباب الصف الثاني الذين كانوا أكثر انخراطًا وثوريةً كالطبيب محمد حمزة الذي مازال معتقلًا عند النظام، وباسل هيلم الذي اعتقل وكان من شروط الإفراج عنه خروج سارية الرفاعي وأسامة الرفاعي من دمشق إلى خارج سوريا، وإشغال من بقي من الصف الثاني بقضايا ومناصب إدارية واجتماعية بعيدة عن الفاعلية الثورية[12]، ولم تكن جماعة زيد وحدها تترنّح على حافة القرارات ويغلي أبناؤها من امتداد موجة الثورة لهم، بل كان هذا حال الجماعات الدمشقية كلها مؤسسات وأفراد، ومساجد سلّطت الثورة عليها ضوئها.

فعلى بُعد 4 كم من مسجد الرفاعي، وتحديدًا في "المزة" أكثر مناطق دمشق "أرستقراطية" أخذ نجم "مسجد الشافعي" يسطع مع بدء الثورة، مسجدٌ يتربّع بين عدة سفارات ويقرب من مركز "الأمانة السورية للتنمية" الذي ترأسه أسماء الأسد، ويؤثر خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس حينها أن يصلي الجمعةَ فيه دون غيره؛ لقربه من منزله ولعلاقته الطيبة مع خطيبه محمد أبو الخير شكري[13]، كما يشتُهر المسجد -الذي قيل إن أبا محمد الجولاني القائد العام لهيئة تحرير الشام- جبهة النصرة سابقًا كان يصلي فيه-  وبارتياد أبناء حماس له بانتظام، الأمر الذي جعل أبناء المسجد يحتكون مباشرة بتجربة حركية سياسية مختلفة عمّا اعتادوا عليه، تجربة انتهت في دمشق بنهاية الإخوان أوّل الثمانينات.

هذه التجربة الحركية مقرونةً ببُعد طيفٍ واسع من الصف الأول للمسجد كـ "بشار تللو" و"عاصم الباشا" عن الحالةِ المشيخيةِ جعلت أبناء المسجد مهيئين لحمل بذورٍ من العمل الثوري المختلف عن غيرهم، بذور نضجت بعد وقت يسير من بدء الثورة.

ومن جامع الحسن حيث دفن شيخ الميدان الثائر "حسن حبنكة الميداني" في منطقة المَيدان، وبنزق الثّوّار ونَفَسِ مجاهدي الميدان كان "شيخ القراء" كريم راجح آخر من بقي من جماعة الميدان يخطبُ الجمعة بالشباب حاضًّا إياهم علانية على المشاركة بالمظاهرات وعدم التواني عن الانخراط بأي حراك ثواري، وعدم الإذعان لسلطة النظام، غيرَ عابئٍ بمئات "الشبيحة" المسلحين المحيطين بمسجده المتربصين بجموع المصلين، وهو المشهد الذي ألفوه.

أما في الجامع الأموي، درّة مساجد دمشق وعمدتها، كان المشهد مختلفًا والخطاب مغايرًا؛ حيث وقف خطيب الجامع محمد سعيد رمضان البوطي في الأيام الأولى للمظاهرات في دمشق، تحديدا في 25 مارس/ آذار 2011، خاطبًا بآلاف المصلين الذي يقصدون المسجد الأكبر والأشهر في دمشق محذَرًا الشباب من مغبة الانخراط بأعمال الشغب كارثية المآل، متبنيًّا رواية النظام حرفيًّا في وصف ما يجري على الأرض، في خطابه الذي تمسك به في مقابلاته على التلفزيون السوري، وفي دروسه الأسبوعية بمسجد الأيمان، إذ لا يفتأ البوطي "كاهن القصر الرئاسي" يتحدث عن "مؤامرة كونية" و"أيادٍ خارجية" وعن ثلة من الشباب غير المؤمن الذين "ينتعلون" المساجد تحقيقًا لأجندات خارجية[14].

لم يكتفِ البوطي بالتصدي وتجريح الشباب المنخرطين بالمظاهرات، بل كان مشرعنًا للنظام الذي استخدم البراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي، والذي يراه البوطي قائدًا لـ " دولة إسلامية "، وتجسيدًا لـ "مكانةٍ سامقة في الإسلام "، متمترسًا وراء جيشه " العقدي" الذي يتمتع ببسالة آتية من المدد الإلهي كما يحلو للبوطي أن يوصّف.

بقي البوطي على حالة الاصطفاف الصلبة هذه إلى جانب النظام حتى وافاه الأجل في "تفجير انتحاري" حسب الرواية الرسمية للنظام يوم الخميس 21/ 3/ 2013م بمسجد الإيمان في قلب العاصمة دمشق، أثناء درسه الأسبوعي، مما أدى إلى موت 42 شخصا في المسجد من بينهم حفيد البوطي، الانفجار الذي ترجح الروايات أنه من تدبير النظام السوري للتخلص من البوطي بعد أدائه المهمة المطلوبة منه.

وعلى مقربة من جامع الإيمان في كلية الشريعة التي كان البوطي عميدًا لها، كان شباب الكلية المحتشدون من شتى محافظات سورية مرجلًا يغلي لما يجري في دمشق من مظاهرات وتخاذل شبه رسمي من الطبقة الدينية؛ وكانوا ينتظرون شيئًا من دكاترتهم الذين اتهموا على مدى طويل بأنهم يحرّضون ضدَّ النظام[15]. وعلى المستوى العملي كان الدكاترة متناحرين في موقفهم من النظام؛ فبينما يصف توفيق البوطي نجل محمد سعيد رمضان البوطي ونائب عميد كلية الشريعة حينها بمجالسه الخاصة الفتيات المشاركات في المظاهرات بـ "العاهرات"[16]، كان الدكتور "محمد زكريا النداف" في القاعة الـ "8" بالكلية يحاضر الطلاب في مادة التاريخ الإسلامي ويُنشد شعرًا على الملأ يقول فيه: لن أشحذ الحقَّ من لصٍّ ومغتصبٍ .. هذي السياسة حاميها حراميها[17] الحادثة التي تكررت منه وأدَّت إلى اعتقاله مع زوجه، ووفاته تحت التعذيب في سجون الأسد.

وعلى خطاه السابقة كـ "مقاول فرعي" كان أساتذة "معهد الفتح الإسلامي" ومديروه يروغون طلابهم بيد ويصافحون النظام بأخرى مستفيدين من أن المعهد يوازي ويحاكي عمله عملَ الثانويات والجامعات؛ مما جعلهم أقدر على ضبطه من قدرة جماعة زيد على ضبط طلابها، حتى كان يوم الاستفتاء على الدستور السوري في الشهر الثاني من عام 2012م عندما قام طلاب المعهد من المرحلة الإعدادية بحركة هزلية حوّلوا فيها حاويات القمامة في المعهد إلى صناديق اقتراع، أحدهما كتبوا عليه "نعم"، والثاني "لا"، الأمر الذي جعل "عبد الصبور الكيالي" الأستاذ برتبة موجه - في الفتح سابقًا والإداري في معهد عبد ارزاق الحلبي في اسطنبول حاليًّا - يستشيط غضبًا ويتناحر مع الطلاب ويتسبب بتوبيخهم من مدير المعهد "عبد الفتاح البزم" مفتي دمشق، وبفصلهم من المعهد نهائيًّا.

اللغة الناعمة التي استخدمها عبد الفتاح أمام طلاب المعهد جميعهم في تعليقه على الحادثة، مع لغةٍ أخرى وصفها الطلاب بالـ "السوقية" والتي وبّخ بها الطلاب المعنيين في مكتبه، لم تكن رادعةً لطلّاب المعهد عن التعاضد والاعتصام في الساحة الداخلية للمعهد احتجاجًا على موقف الإدارة عمومًا من الثورة ومن سياستها تجاه الطلاب خصوصًا، الاعتصام الذي انتهى بهتاف طلاب المعهد في وجه عبد الفتاح وحسام الدين الفرفور: "يا فرفور قيم اللفة وحط قرون"؛ مما دفع الإدارة إلى إعادة الطلاب بعد فصلهم.

وبعد الواقعة التي كسرت الخوف، نظم الطلاب مظاهرة كبيرة في ساحة المعهد وداخله، مظاهرة ترفرف فيها أعلام الثورة لأول مرة في المعهد، الأمر الذي دفع الأمن إلى مواجهتهم ، حيث اعتُقل مَن اعتُقل منهم قبل لجوئهم  إلى داخل المعهد، فحاصرهم الأمن  ولم يدخل المعهد  إلا بمعية ابن حسام الدين الفرفور الذي سمح لهم بمشاهدة تسجيلات فيديو كميرات المعهد ليعرفوا المتورطين الأساسيين بتأجيج المظاهرة، حادثة فاصلة وشارخة للمعهد طلابًا وأساتذةً، وتعد بدورها انعكاسًا لما آلت إليه أمور المعهد من دعم إدارته العلنية للنظام متغافلين عن الشهداء والمعتقلين من طلابهم وبعض أساتذتهم[18].

سياسة إدارة معهد الفتح نفسها تبعها ورثة "المقاول الفرعي" الثاني كفتارو مفتي الدولة، غير أن مظاهر الحراك الثوري داخل مجمع أبي النور كانت شبه معدومة، اللهم إلا محاولات شبه يتيمة لحشد خارجي من أفراد درسوا في المجمع، وأطلقوا على أنفسهم اسم: "أحرار مجمع كفتارو".

*أدوار جديدة* 

في آخر أيام حصار الغوطة الشرقية برًّا وازدحام سمائها بسلاح الجو السوري والروسي طلع علينا في الشهر الثالث من عام 2018 شيخٌ شاب بلحية سوداء كثة ولبس غوطاني وعتاد عسكري، متوسطًا جموع الرجال وخاطبًا بفصاحته المعتادة ونبرته الأجشة، لعل كلمة حق صادقة تكون سببًا بثبات الناس وتصبيرهم في ظل الهجمة السورية الإيرانية الروسية غير المسبوقة عنفًا واتِّساعًا على الغوطة التي استمرت أكثر من 50 يومًا انتهت بمئات الشهداء وقصف كيماوي وتهجير أهل الغوطة إلى الشمال السوري.

كان الجمع حول الشيخ كبيرًا وكانت الآذان مصغية له والعيون شاخصة إليه، في مشهد استثنائي لشاب استثنائي لم يتجاوز عمره الـ 36 استطاع بنفوذه أن يهيمن على جمع من الشباب البسطاء المتعلقين به كمخلّص أوحد، لم يكن ذلك الشاب إلا "أبو محمد الفاتح" خريج الأزهر وتلميذ "نعيم العرقسوسي" والقائد السابق لـ "كتائب شباب الهدى" ثم "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام" ثاني أكبر فصائل الغوطة الشرقية بعد جيش الإسلام في وقته، قبل اعتزاله المشهد المسلح باستقالته من قيادة أجناد الشام في 30/ 11/ 2015، الذي كان قائدًا له منذ تأسيسه في 2013 من اندماج عدة فصائل؛ هي: "ألوية الحبيب المصطفى، تجمع أمجاد الإسلام، كتائب الصحابة، كتائب شباب الهدى، ولواء درع العاصمة"، هذه الاستقالة التي قيل إنها إثر "فضيحة مالية" لأجناد الشام المتوزع جغرافيًّا في الغوطة الشرقية، والقطاع الأوسط: داريا والمعضمية، وقطاع الجنوب: القنيطرة ودرعا، وقطاع الشمال: حماة، وقطاع الغوطة الغربية: يلدا وببيلا والقدم.

تمثل "الأجناد" تحوّلًا جوهريًّا بطبيعة العمل العلمائي الدمشقي؛ ذلك أنه الحالة الأولى التي دخل فيها العلماء بدعم عمل مسلّحٍ منظّم مرجعيةً وتوجيهًا وتمويلًا، على اعتبار أن جماعة زيد مسؤولة مباشرةً عن تمويل الأجناد، وخصوصًا في "القطاع الأوسط" تحت إشراف خارجيٍّ من بكر العمري الذي كان يتلقى أوامره من أسامة الرفاعي[19]، في حين يذكر حاضرون أن تشكيل "اتحاد أجناد الشام" كان انعاكسًا لفكرة "جيش دمشق الأشعري" بردٍّ دمشقيٍّ على الفصائل والجيوش السلفية التي يُخشى من سطوتها على دمشق[20]، وعلى رأسها "جيش الإسلام"، القوة السلفية العسكرية الكبرى في الغوطة، والذي يليه عددا وعتادا وتأثيرا "فيلق الرحمن"، المشكّل على أنقاض "الأجناد" والقائم على طلاب المساجد والمعاهد الدمشقية، أو ردا "إسلاميا" على "الوجود العلماني"، كما في تجربة ثانية بداريّا؛ تجربة "كتائب الصحابة" التي دعمتها جماعة زيد وأصرت على هيكليتها رغم انعدام الكفاءة؛ بدافع أن الهيكلية القائمة قادرة على مواجهة المد العلماني المتمثل بـ "مجلس داريا"[21].

    

كان القائد العسكري للأجناد هو الفاتح، لكن الأب الروحي، كما يقول شباب الأجناد، هو "خالد طفور، أبو سليمان" القريب من جماعة زيد والمعروف بنشاطه الديني والاجتماعي في مدينة دوما بالغوطة الشرقية قبل الثورة، والذي شكّل مع أبي محمد الفاتح حالة "مهيمنة" داخل أجناد الشام مما جعلهما على تماس دائم مع الشباب الساعين للتغيير من داخل الأجناد، إذ تذكر مصادر لميدان أن طفور والفاتح توافقا بصفة الاختفاء المفاجئ عن الساحة لإشعار من حولهم من مريدين ومناصرين بمدى الأهمية والحاجة لهم. 

    

لم يقتصر الامتداد العسكري للعلمائية على جماعة زيد، بل برز أيضًا كامتداد أساسي لعمل بعض أبناء الصف الأول في "مسجد الشافعي" كـ "عاصم الباشا" الذي كان رئيس "حركة أحرار الشام" في الغوطة الشرقية، مع عدد من أبناء المسجد تحت قيادته، إضافة لقلّة أخرى من المسجد آثرت الانضمام إلى "هيئة تحرير الشام" منهم شرعي الهيئة "عبادة العبسي"، ومن أبناء الصف الأول للشافعي الذين برزوا في الساحة العسكرية للغوطة الشرقية وسرعان ما نتحّى عنها إلى العمل التوعوي "أبو أبي تللو" الذي اشتهر بفيديوهاته التوعوية على منصات التواصل الاجتماعي بعنوان "رسائل نحو غوطة واعية" وبسيارته السوزوكي التي يجوب بها الغوطة في محاولة لنشر حالة توعوية بطريقة قريبة من الناس [22].

لكن هذا التشظي الواسع لشباب جامع الشافعي داخل العمل المسلح والتوعوي على حد سواء داخل الغوطة لم يمنع من حدوث مشادّات بينهم، وعدم رضا القاعدة الطلابية على عمل الصف الأول الثوري، ووصفه بأنه "غير مواكب" لمتطلبات اللحظة الثورية.

أما معهد الفتح الإسلامي فقد شارك أبناؤه في التجربة العسكرية بحالات فردية كانت من بعض أساتذة المعهد وطلابه على حد سواء؛ كرياض الخرقي، ابن جوبر في غوطة دمشق الشهير بأبي ثابت، وأستاذ مادة الحديث في المعهد وأحد مشايخ المسجد الأموي، الذي ساعدته كاريزميته في الظهور نخبويًّا كمرجعية دينية والانتشار شعبيًا كمؤثر قريب من الناس، وكان من مؤسسي "رئيس الهيئة الشرعية في دمشق وريفها" التي تعد المرجعية الشرعية لفصائل الثورة السورية في الغوطة، و"الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام"، ثم القيادي في "فيلق الرحمن" ، وعضو مجلس أمناء "المجلس الإسلامي السوري"، والذي قُتل بتفجير عنصر من "تنظيم الدولة" نفسَه عقب خروجه من اجتماع عسكري عام 2015. [23]

أسس الهيئة الشرعية مع "أبو ثابت" معاصره في الفتح "سعيد درويش"؛ شابٌّ عرف بجذريته المتناقضة في اتخاذ المواقف والاصطفاف مع الفرقاء؛ فبعد أن كان واجهة الأشعرية في قتال السلفية متمثلةً بـ "جيش الإسلام" انقلب على الأشعرية ومرجعيتها "الهيئة الشرعية" ليصبح قياديًّا وشرعيًّا لجيش الإسلام وواجهته في حراب الأشاعرة أصدقاء الماضي، رغم تورّط جيش الإسلام في محاولة اغتيال له قبل انضمامه إليهم[24].

ولم تتوقف النزعة العسكرية لأبناء معهد الفتح على "الخرقي" و"درويش" إنما امتدت إلى "رضوان الكحيل"، خريج معهد الفتح وإمام مسجد علي بن أبي طالب في "ببيلا" بجنوب دمشق التي لُقّب فيها بـ "شيخ المجاهدين" أثناء حصار النظام لها في 2013 – 2014 كما عمل الكحيل إضافة إلى ذلك رئيسًا للمحكمة الشرعية في دمشق وريفها قبل تركه العمل العسكري وعودته إلى العمل الديني وسفره إلى إسطنبول، وتأسيسه هناك "معهد الإمام أبي حنيفة النعمان" [25].

وعلى ضفّةٍ أُخرى من العمل العسكري، ظهرت في آخر أيام الغوطة الشرقية ما سميت بظاهرة "الضفدعة" نسبة إلى المدرس في معهد الفتح الإسلامي والتلميذ المباشر لمؤسسه صالح الفرفور والمرشّح السابق لعضوية مجلس الشعب قبل الثورة "بسام ضفدع" الشيخ الصوفي المعروف بكثرة مريديه في "كفربطنا وسقبا وزبدين وحزة"  في الغوطة الشرقية، والذي بدأت قصته مع أولى أيام الثورة حيث تبنى موقف البوطي من المظاهرات وحكم الخروج فيها، قبل انعزاله مع مريديه في مسجده "العمري" بعد منع ثوار الغوطة له من إمامة "الجامع الكبير" في كفربطنا للأذكار والعبادة، عزلة دينية واجتماعية في آن حيث كانوا منبوذين من المناصب الإدارية والمحلية وإغاثية بسبب التشكيك بثوريتهم، رغم أن طائرات النظام استهدفت بيت بسام ضفدع في غارةٍ لها. 

عاد ضفدع مع مريديه للظهور عند احتدام الصراع في الغوطة بين "المدرسة السلفية" المتمثلة بالهيئة الشرعية العامة ومشايخها والذراع العسكري لها "جيش الإسلام"  و"المدرسة الصوفية" المتمثلة بالهيئة الشرعية لدمشق وريفها ومشايخها وذراعها العسكري "فيلق الرحمن" ؛ حيث بدأت الصوفية تحشد الصوفيين بغض النظر عن انتمائهم الثوري لمواجهة السلفية، ما أعاد "ضفدع" لواجهة العمل الديني الواسع في الغوطة كرمز ديني صوفي يتصدر المجالس ويقدم الدورات الشرعية لمقاتلي فيلق الرحمن والتركيز على خطورة المد السلفي والوهابي وتحذير المقاتلين من تفكيرهم الذي يهدد الإسلام في الغوطة ودمشق، الأمر الذي جعل فيلق الرحمن يتخبط في طريقة تعامله مع "ضفدع" كفربطنا أثناء حملة النظام الأخيرة على الغوطة الشرقية التي أدت إلى تهجير أهلها خصوصًا أن أطرافًا من عدة بلدات على جنبات الغوطة بدأت تتواصل مع أطراف مقربة للنظام بدمشق لإيقاف الحملة ومصاحبة ذلك بخروج مسيرات مؤيدة للنظام داخل الغوطة واجهها فيلق الرحمن بالرصاص واعتقلً بعضًا من مريدي ضفدع ولم يعتقله مع قدرته على ذلك، مما يوحي بوجود صراع داخل الفيلق أدى إلى انشقاق شباب من الفيلق بأعداد كبيرة وانضمامهم إلى أصوات منادية بخروج الثوار من كفربطنا، مشهد انتهى بتسليم "ضفدع" كفربطنا للنظام وخروجه مع من انشق من الفيلق تحت حماية الجيش السوري. [26]

لم تكن ما سميت بـظاهرة "الضفدعة" في الغوطة مقتصرة على "بسام ضفدع"، فعلى مقربة منه وتحديدًا في منطقة "حمورية" في الغوطة الشرقية، وأثناء الحملة العسكرية الأخيرة؛ خرجت المسيرات المؤيدة للنظام السوري مطالبة بدخول الجيش السوري وخروج الثوار وذلك بتنسيق بين "عبد العزيز كوكي" الشيخ الموجود في دمشق ووجهاء حمورية مقابل إيقاف الحملة على البلدة والسماح بالخروج الآمن لمن يريد. وبالفعل لم يطلع صباح اليوم التالي إلا وحواجز النظام مفتوحة بشكل آمن في وجه أهالي حمورية الذين خرجوا بالمئات أشخاصًا ومؤسسات وعلى رأسهم "مؤسسة زيد بن ثابت"، التابعة للشيخ أسامة الرفاعي في الخارج، التي خرج أغلب أعضائها وعلى رأسهم أعضاء مجلس إدارتها: أبو ياسين نبراس[27]، في ما وصفه شباب مقاتلون خرجوا من الغوطة مؤخرا بأنهم "ضفادع" دينية داخل الغوطة وخارجها ساهموا بتعجيل إسقاطها وتهجير أهلها منها.

يتبع…

وسوم: العدد 789