((يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا))

هذه الآية الكريمة عبارة عن تنبيه إلهي ساري المفعول ما دامت الدنيا ، ويتعلق بالغفلة التي تكون من بعض الناس الذين يخطئون الحساب والتقدير في الحكم على فقراء يتعففون عن المسألة فيظن أنهم أغنياء .

ولقد وصف الله عز وجل من يكون هكذا حسابه وتقديره بالجهل ، والجهل يحتمل أن يكون نقيض العلم ، ويحتمل أن يكون بمعنى التصرف  بحمق ودون روية كما عبر عن ذلك الشاعر الجاهلي بقوله :

كما أنه يحتمل أن يجتمع الجهل بالمعنيين ، ذلك أن الذي يحسب الحساب الخاطىء، فيرى الفقير المعدم الذي لا يستطيع الضرب في الأرض أو السعي فيها غنيا، يكون جاهلا بحقيقة حاله، وقد يكون عالما بها، ولكنه يجهل عليه بحكم  جائر لا روية فيه، مسيئا الظن به ،وزاعما أنه خلاف ما هو عليه من فقر وفاقة .

ولقد نبّه الله عز وجل إلى كيفية معرفة حال هؤلاء الفقراء بالإشارة إلى ما يدل عليها، وهي امتناعهم عن المسألة والإلحاح عليها . ولقد ذهب بعض المفسرين إلى أنهم لا يسألون الناس أصلا لأنه بمجرد المسألة يحصل الإلحاف أو الإلحاح أو الإصرار ، وتنتفي  حينئذ العفة ، بينما ذهب البعض الآخر إلى أنه قد تحصل منهم المسألة لكن دون إلحاف ، فيكتفون بالتلميح دون التصريح أو تكشف أحوالهم عن تعففهم عن المسألة ،وتلك هي العلامة الدالة على فقرهم واحتياجهم .

ولا شك أن القراء الأفاضل سيرد على أذهانهم سؤال منطقي وهو : ما الغرض من هذه الوقفة مع هذه الآية الكريمة ، والجواب عنه كالآتي :

ابتلي ابن إمام مسجد بمدينة وجدة، وهو صبي دون العقد الثاني من عمره  بمرض عطل حركة قدميه ويديه ، واقتضى علاجه مبلغا ماليا ضخما قدره مائة ألف درهم عجز عن  أدائه  والده الذي لا دخل له سوى ما يتقاضاه عن الإمامة . وبالرغم من حرصه على أن يلتزم بما يتلوه بين الحين والآخر، ومنه قول الله عز وجل (( لا يسألون الناس إلحافا )) فإنه اضطر أمام حال ابنه الصحية المحرجة إلى المسألة دون إلحاف قاصدا من لا يجهل حاله ،ومن يعرف سيماه ، فتحرك بعض أهل الإحسان لمساعدته، فلجئوا إلى جمعية تعنى بعلاج الصبية من مال هبة ملكية ، فاستجابت الجمعية  مشكورة ، فوفرت الشطر الأول من العلاج ، ولكنها اشترط على والد الصبي أن يساهم في دفع نصف تكلفة الشطر الثاني من العلاج على أساس أن تدفع هي النصف الآخر ،علما بأنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلا .

والمؤسف أن بعض أعضاء هذه الجمعية ظنوا جهلا منهم أن الإمام قادر على تسديد نصف تكلفة الشطر الثاني من العلاج لمجرد أنه يقتني سيارة ، وأنه شوهد بلباس عصري ،وقبعة ،ونظارة شمس ، ولم يظهر بمظهر بؤس ،علما بأن غالبية أئمة المساجد فقراء بحكم ما يتقاضونه من أجر زهيد مقابل ما يؤدونه من واجب لا يوجد أقدس منه ولا أشرف ، وعليهم ينطبق قول الله عز وجل : (( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله  لا يستطيعون ضربا في الأرض  يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا )) فأئمة المساجد أحصروا في سبيل الله أي حبسوا للقيام بواجب الصلاة المفروضة  ، وهم بذلك في حكم المرابطين  والمجاهدين في سبيل الله  لقيامهم بأمر الصلاة التي هي عمود الدين ،والتي بحفظها يحفظ الدين ،وبضياعها يضيع الدين ، ولا يرقى إلى حبسهم في سبيل الله حبس سواهم إلا أن يكون جهادا في سبيل الله لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى انتظار الصلاة إلى الصلاة رباطا ، وأئمة المساجد أكثر الناس رباطا في بيوت الله  وأدومهم على انتظار الصلاة إلى الصلاة ، وحسبهم هذا سمة دالة على حاجتهم وعلى تعففهم وعدم سؤال الناس إلحافا .

وقد يقول قائل إن الوزارة الوصية على الشأن الديني قد وفرت تغطية صحية للأئمة ، والحقيقة أن هذه التغطية لم تفد الإمام المصاب في فلذة كبده شيئا لأنها لا يمكن أن تسدد مبلغ علاجه الباهظ، لهذا طرق باب جمعية خيرية عسى أن يجد عندها ما لم يجده في التغطية الصحية  الشكلية التي تولت أمرها الوزارة الوصية على الشأن الديني ، وقد وجد عندها ضالته بالنسبة لسداد تكلفة الشطر الأول من العلاج لكنها خيبت أمله بالنسبة لسداد تكلفة الشطر الثاني حين جعلتها مناصفة بينه وبينها ،وهو عاجز عن أداء نصفها ،الشيء الذي سيجعل ابنه عرضة للضياع .

وكان الأجدر بأعضاء هذه الجمعية الأفاضل ألا يتأثروا بمن ضلّلهم فيما يخص وضعية الإمام البائس الذي ظنت به القدرة على علاج ابنه وهو أعجز ما يكون عن ذلك .

 وإذا كان  مصدر إنفاق هذه الجمعية هبة ملكية ،فليس من سداد قرار أعضائها  أن يحرموا ولد الإمام من الاستفادة منها لأنه لم يختر أن يكون علاجه باهظ الثمن ، ولا يمكن أن يتذرعوا بأنهم لا يمكنهم الإنفاق على مريض واحد كل هذا المبلغ لأن الهبة أعطيت أصلا لتنفق عند  أمس الحاجة إليها كما هو الشأن بالنسبة لهذا الصبي الذي لم يعد يقوى على الوقوف على ساقيه ، وهو مهدد بإعاقة دائمة بسبب مبلغ لا يتجاوز خمسة وعشرين ألف درهم، وهو المبلغ الذي تطالب الجمعية المذكورة ولد الصبي بدفعه ،وهو عاجز عن ذلك .

ولا يجب أن يفهم أعضاء هذه الجمعية الفضلاء أننا نعرض بهم من خلال هذا المقال بل القصد هو تنبيههم إلى أن ما ظن بقدرة والد الصبي على تسديد نصف كلفة الشطر الثاني من العلاج هو محض توهم وسوء ظن نربأ بهم الوقوع فيه حتى لا يقعوا فيما يقع فيه الذين يحسبون الفقراء المحصورين في سبيل الله أغنياء من التعفف، بسبب امتلاك بعض ما الأمور التي هي من الضروريات كامتلاك هذا الإمام سيارة أو ارتدائه  لباسا  نظيفا أو وضعه نظارة على عينيه ، وكأنه لا بد أن يمشي راجلا ، وأن يلبس الأسمال ، ولا حق له في وقاية عينيه من أشعة الشمس  .

ونختم بالقول : اللهم ارحم من لا راحم له .

وسوم: العدد 796