هل صار العالم قرية صغيرة حقا؟

استحال العالَم قريةً صغيرة، وفق مقولة رائجة تجري على الألسن منذ عقود، تأسيساً على ما استشرفه المنظِّر الإعلامي الكندي مارشال ماكلوهان في أواسط القرن العشرين من إرهاصات "القرية الكوكبية". لكن؛ هل صار العالمُ قريةً حقاً، أو هل سيؤول إلى هذه الحتمية الموعودة بالفعل؟ إنها "القرية الكوكبية"، التي وُصفت أيضاً بأنها "قرية كونية" في تعبير ضمني عن استعلاء البشر على الكوْن بحياله وتصوّر مركزيّتهم فيه، وهي مفهوم نهض على وعود الانفتاح المنعقدة على آفاق التواصل العابر للجغرافيا. قد تبدو الوعود شاخصة في الواقع البشري الراهن، فأجيال الحاضر تُمارِس التخاطب والترائي والتشبيك والمعايشة عبر الشاشات والشبكات والأجهزة في تطوّر مذهل تخطّى قدرة الأسلاف على تصوّر حصوله. وقد يعجز الذين وُلِدوا بعد خواتيم القرن العشرين عن إدراك شكل الحياة التي كانت بلا عالم شبكي أو أجهزة محمولة أو مواقع تواصل أو صور ذاتية أو بثّ مرئي.

تقارب بلا تفاهم؟

تتسارع العجلات في اندفاعها، ولعلها مسألة وقت حتى يشمل نطاق التغطية التواصلي الجديد أقاليم الأرض بلا استثناء، وإن لم تتكافأ الأمم والمجتمعات في حظوظها فيه وحضورها ضمنه. لكنّ اتساع الرقعة التقنية التي تتيح التواصل لا يكفي وحده لإحراز التفاهم المرجوّ من خلاله أو تمثُّل سمات القرية في الواقع المُعولَم. فمن وجوه الخلل في وعود "القرية الكوكبية"، كما تعرضها مقولة "تحوّل العالم إلى قرية صغيرة"؛ الافتراض بأنّ التقارب التواصلي يؤدي إلى التفاهم بين البشر؛ دون ملاحظة كيف يصير الاقتراب في بعض وجوهه عبئاً على فرص التفاهم المتبادل أو كيف تتواصل الفجوات بين المكوِّنات البشرية.

قد تتفاقم المعضلة إن انساحت المؤثِّرات الثقافية عبر الأمم، بما تشكِّله، بالتالي، من ضغط على الوعي الذاتي بالهُويّات. فسؤال الهُويّة، بما يستبطنه من بحث عن الذات أو سعي إلى تحديد نطاقات تعزلها عن غيرها؛ يعلو ضمن شواغل المرحلة في بعض المجتمعات؛ كما يتجلّى في بيئات أوروبية عدّة مثلاً. تعبِّر المجتمعات عن إحساسها بأزمة هُويّة بتعبيرات متشنِّجة أحياناً لا تفتقر إلى السذاجة. تتملّك القوم الحيرة عندما يلحظون تحوّلات واقعهم وتغيّرات محيطهم فينتابهم إحساس بفقدان السيطرة على الموقف وتستولي عليهم هواجس المستقبل، وقد يُبالِغ بعضهم بالانشداد إلى ماضٍ مُتخيّل رغم أنه لن يعود كما هو مُتخيّل.

ليس مُفاجِئاً، إذن، أن يصعد دونالد ترمب محفوفاً بشعارات الرِّدّة إلى الماضي، أو "كي تعود أمريكا عظيمة مجدّداً" كما قيل في وعوده الانتخابية، وهو منحى تتقمّصه الحمّى الشعبوية في أوروبا التي تريد الارتكاس بأقوامها في قرون مضت. إنه الماضي الذي يستحضره الحنين الحالم جميلاً ووديعاً دون أشلائه وأنقاضه وحرائقه وأسواره وأشواكه. أمّا حملة التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فأذكت نزعة رِدّة ماضوية ورفعت شعارات العودة إلى ما كان، وهذا لأجل "استعادة استقلالنا من جديد". لم يحتمل بعض البريطانيين أن تتكامل هُويّتهم مع نسق أوروبي مشترك يُفترَض به أن يجسِّد في ذاته الوحدة والتنوِّع، فأنّى لهم الرضوخ لمفهوم الانضواء ضمن قرية بحجم كوكب، والانصياع لتأثيرات تواصلية مفتوحة.

ينهمك بعض الأوروبيين في التنقيب عن هُويّات ذاتية مُتصوّرة، دون الاعتراف بأنّ الهُويّات ليست بطبيعتها أحافير متكلِّسة أو مومياوات محنّطة في توابيت لا تتنفّس من فضاءات عالمها. تكشف جولة واحدة في أي مطبخ أوروبي أو مطعم أو مقهى، زيفَ السرديات الثقافية النمطية التي تقوم على النقاء والعزلة، فالمراجعة الفاحصة تُفصِح عن تبادلات ثقافية عريقة ومتعددة المستويات جرت عبر العهود مع العرب والترك والفُرس والصينيين والهنود وغيرهم، وتركت أثرها على ما يجري على الألسن من مفردات وعلى ما ينساب إلى الجوف من أشربة وأطعمة وعلى أنماط اللباس ومواصفات البناء وتطبيقات الفنون وذوقيّات التصرّف؛ وعلى حصيلة المعارف والعلوم والفلسفات بالأحرى. من القسط الاعتراف بأنّ العالم كان من هذا الوجه على الأقل قريةً كبرى؛ ترابطت أطرافها عبر طريق الحرير وبحيرة المتوسط ومسالك أخرى.

قلق الهويات والبحث عن "الآخر"

تتشابك الثقافات وتتضافر، وهي إن لم تتنفّس من فضاءات بعضها بعضاً تختنق أو تذوي. لكنّ "الآخر" في الخطابات الثقافية والاجتماعية النمطية يبقى تصوّراً لا يُطابق المُتصوّر في حقيقته غالباً، و"الآخر" وصف لا نهائي في واقع البشر الذين يَسعَوْن إلى تشخيصه ونحته وربما اختراعه وإعادة إنتاجه بشكل متجدِّد؛ من المحيط الاجتماعي الضيِّق إلى النطاق العالمي الرحب. فتشخيص المُغايرة، أو افتعالها بالأحرى، هو حاجة إنسانية متأصِّلة يقع فرضها بأنماط تفكير سائدة وقوالب نمطية تتفرّغ عنها أحكام مُسبقة.

إنّ نحت "الآخر" يُفضي بمكوِّن معيّن لأن يُعَدّ مُفارِقاً للذات الجمعية التي هي "نحن" وقد يُعرَض خصيماً لها؛ فهذه "الذات" تميل إلى تبرير خصوصيتها بافتعال "هُم" عبر تشخيص سمات تفترق عن "نحن" مع تجاهُل سمات المشابهة والالتقاء غالباً، أو كما قالت العرب "بأضدادها تُعرَف الأشياء". ولا يُلاحِظ البشر عادةً أنّ هذه القطبية التي تعرِّف الذات تصوّرياً من خلال تحديد "الآخر" كما في مسألة الهُويّات؛ تجعل هذا "الآخر" لازمةً وجودية للذات لا غنى لها عنه.

لا يتفاهم البشر دوماً عند تقاربهم، فقد يتدابرون ويتشاحنون، وبعض هذا متعلِّق بتدافعات متأصِّلة وصراعات مصالح، وبعضه يعود إلى مواقف نفسية تتذرّع بالهُويّات التي تنشد تعريف ذاتها القَلِقة وسط التغيّرات. يجري هذا بوضع الذات في قالب هُويّاتي متحجِّر يفترض ثباته عبر الزمن وانغلاقه دون غيره، وهنا تعود لعبة المُغايَرة مجدّداً إلى البحث عن تشخيص "الآخر" لأجل تعريف "الذات" من خلاله، أي ثنائية "نحن" و"هم" التي يشتدّ الطلب عليها في زمن العولمة مع تداخُل الثقافات والمجتمعات كما لم يحدث في التاريخ. 

التمحور حول الذات

يواجه التعايش في "القرية الكونية" المُفترَضة تحدِّيات سوء الفهم والتأويل الذي يبحث عن شواهد إثبات ومقتطفات مصوّرة كي يتذرّع بها. وهكذا تتّضح الفجوة بين موجة الانفتاح التواصلي التقني ومنسوب التفاهم الإنساني، فالبشر حافظوا في الزمن الجديد على نزوعهم المتأصِّل للتمحور حول ذواتهم التي يتصوّرون تمايُزها عن غيرها، ولهذا صلة بمنشأ الاجتماع الإنساني وسيرورته، منذ مأساة ابنيْ آدم التي يُعادُ إنتاجها كلّ لحظة بأدوات العصر وذرائعه.

وإن اضطرمت الصراعات فيما مضى على اتساع الكوكب بيابِسِه ومائِه؛ فإنّ التقارب التواصلي التقني يضع الإنسان في مواجهة أخيه الإنسان بما يُنشئ أواصر جديدة أو يحرِّض على التزاحم والاشتباك وإذكاء المنافسات والصراعات. وتتجسّد معضلة التقارب التواصلي في ضغطها على الإحساس بالهُويّة التي يُفترَض بها حسب تقاليد البشر أن تأتي نمطيةً مُقَوْلبة، وبصفة مفتعلة غالباً.

تجسّدت المعضلة، مثلاً، عندما طوّرت أوروبا الموحّدة وعياً ذاتياً بهُوية مشتركة، قائمة في بعض ملامحها على الافتعال والتضخّم فوق مخزوناتها الواقعية. أُريد للقبارصة والصقليين والمالطيين أن يروا أنفسهم ضمن سردية ذاتية واحدة مع شعوب البلطيق واسكندنافيا، وأن يعرِّف الأوروبيون الغربيون أنفسهم في أسرة مشتركة مع الشعوب السلافية في شرق القارة والبلقان. بدا ذلك عسيراً في بعض الأوساط التي تفاعل حنينُها إلى الذات الجمعية التائهة في بحر الانتماء الأوروبي، فرأت في الهوية القارية الموحّدة تهديداً لأصالة هُويّة وطنية تقليدية أو زعزعة لروح جهوية في إقليم بعيْنه أو تجاهلاً لخصوصية فرعية ضمن نطاق محلي.

وإن احتدم سؤال الهُويّة صار البحث عن توصيفها موضوعاً للمزايدة، فيسعى بعضهم إلى إبرام توصيف الذات بحيلة تصنيف "الأغيار"، أي بالبحث عن النقيض أو افتعاله. يُستدعَى "الآخر" في هذا السياق أو يُنمَّط لتكريس مفهوم مُسبَق عن "الذات"، وحبّذا لو كان هذا "الآخر" بغيضاً وذميماً وموصوماً بالتخلّف والشرور كي يبدو نقيضاً مثالياً للذات الجمعية التي يُفترض بها ما يُعاكس ذلك تماماً.

قد يُدفَع بالقِيَم لتكون ذريعة استعمالية فضفاضة لهذا التصنيف، فتُشهَر هراوات قيمية في وجوه من يتمّ وصمهم بالمروق القيمي لأنهم لا ينصاعون لما تسمّى "قيم الجمهورية" في فرنسا أو لما تُعَدّ "القيم البريطانية" أو "السويدية" أو "الدانمركية" وغيرها، وفق خطابات الاستعلاء والوصم والإقصاء التي تستهدف أقليات أو مكوِّنات "غير أصلية" أو مجموعات التحقت حديثاً بمجتمعات أوروبية.

سطوة القوالب النمطية

يمنح التقارب التواصلي إطلالاتٍ مباشرة نسبياً على أمم وثقافات ومجتمعات وأوساط، لكنها قد تجري بالتلصّص على جزئيّات انتقائية دون إحاطة وافية بملابساتها. يفعل منطق الصورة والمشهد فعله في هذا المجال، بما يقوم عليه من الانتقاء الاستثنائي والاجتزاء من السياق ثم منْح الانطباع بأنّ هذا المُجتزَأ يمثِّل السياق ككلّ. يأتي مقطع مرئيّ من ركن قاصٍ من الكوكب ليُظهِرَ سلوكاً غرائبياً أو تصرّفاً متوحِّشاً أو نَوْبة غضب أو موقفاً ساخراً؛ دون إرفاقه بتوضيحات كافية لفهمه كما ينبغي، وقد يُسقَط المقطع على سياق متخيّل يزعم تمثيله بأن يصير في الأذهان معبِّراً ضمنياً عن أمّة أو مجتمع أو ثقافة أو بلد أو إقليم أو وسط مخصوص.

وتتولّى ثقافة تدوير المحتوى الصادم أو الطريف عبر العالم انتقاء الصور والمقاطع والأنباء والمزاعم وشحنها بتفسيرات غير دقيقة، وقد تأتي في تأويلها مزيّفة تماماً؛ أو مشبّعة بالخلط الساذج أو التدليس المحبوك، بما يسدّ سبُل الفهم والتفاهم ولا يُمهِّدها. وهكذا تختلق المجتمعاتُ تصوّراتها الساذجة عن مجتمعات أخرى بما يوافق قوالب نمطية وأحكاماً مُسبَقة يعود بعضها إلى أزمان سالفة وقد تغترف من ضغائن دفينة، ثمّ تدفع بهذه "البراهين" المصوّرة لتأكيد قناعاتها المتأصِّلة وتعزيزها.

تتحرّى بعض الإطلالات المشهدية ملامحَ المغايرة والافتراق، كما في الثقافة السياحية الساذجة التي تتعقّب الأساطير والمفارقات والغرائب كي يعود بها السائحون إلى مواطنهم ويجعلونها مادة حكايات عجائبية مشحونة بالتشويق. إنه التقليد الراسخ الذي دأب عليه بعض الرحّالة في أزمان خلت، وصوّرته لوحات عمد فيها رسّامون أوروبيون إلى اختراع الشرق بمداهنة توقّعاتهم المسبقة منه. ثم انضمّت الصورة الفوتوغرافية في بواكيرها إلى هذا المنحى فتواطأت مع تزييف الواقع بالإتيان ببراهينها المرئية المزعومة، عبر حيلة افتعال المشاهد التي تُحاكي التوقّعات المرسومة في الأذهان أو بممارسة التحيّز في جزئيات الالتقاط ومواصفاته. وطوّرت السينما هذا المنحى ومعها الرسوم المتحركة بأن قدّمت للأجيال أقواماً وثقافات بمواصفات لم تنفكّ عن القوالب النمطية والأحكام المسبقة التي أطلّت برأسها مجدداً عبر نوافذ الإعلام المتزايدة.

لم يتمرّد الزمن الشبكي على هذه التقاليد وإنما واصل تغذيتها. فالصنعة انفلتت من أيدي المحترفين لتتداولها مجتمعاتٌ مرتهنة لقوالبها وخاضعة لأحكامها ووَفِيّة لنزعاتها، واتّسعت نطاقات التداول وتعاظمت وفق استقطابات حادّة جاء بعضها بذرائع ثقافية أو تشبّعت بنزعات عنصرية ودوافع الرُّهاب المَرَضي غير المُبرّر.

صارت الشبكات فضاءات لبثّ الأحقاد أيضاً، وتطوّرت للكراهية صناعاتٌ مختصّة بالتشويه والتحريض تشغِّل خطوطَ إنتاجٍ نَشِطَة عبر العالم. نشأت منصّات مكرّسة لجمع ما تبدو "شواهد إثبات" مُتاحة لاستعمال الجهود الدعائية المضادّة وإغراق المحتوى الشبكي بها، ومن أمثلتها منصّة "ميمري" الشبكية التي تُعدّ منذ تأسيسها مطلع القرن الحادي والعشرين مرجعاً مركزياً لصناعة الإسلاموفوبيا، فهي بمنشئها الصهيوني مكرّسة لتوثيق مقتطفات مرئية لعدد غفير من المتحدثين العرب والمسلمين بمواقف مستلّة من الشاشات والشبكات على طريقة "من فمك أُدينُك"، وقد صارت هذه ومثيلاتها مدرسةً في تغذية مدافع التشويه والتحريض بالذخائر المتجدِّدة.

أين روح "القرية"؟

ظلّت "القرية الكوكبية" شعاراً بازغاً دون إسقاط روح "القرية" وثقافتها على العلاقات الدولية. فرغم انتعاش ظواهر واتجاهات ونزعات مُعَولَمة، وتبَلْوُر مجتمع مدني عالمي وإن ظلّ غربياً في مراكز ثقله وتقاليد عمله، وتعاظُم نفوذ الشركات متعددة الجنسية، والاتجاه المتزايد إلى سنّ مواثيق مرجعية أممية في مسائل القيم والمعايير الاجتماعية والسلوكية؛ إلاّ أنّ السياسات الخارجية والعلاقات الدولية لم تتطوّر إلى مرتبة "سياسة العالم الداخلية" وظلّت خاضعة لنُظُم وتقاليد سُنّت على أنقاض الحرب العالمية الثانية.

تتراكم الأشلاء وتسيل الدماء وتعلو الأنقاض وتتأجّج الحرائق دون أن يحظى بعضها بالتفاتة تعاطف من العالم أو حتى بإدراكٍ كافٍ لأبعادها، في ما الجمهرةُ المُعولمة منشغلة بالضحايا المحسوبين على نبلاء العصر أو الواقعين في بُؤَر مضاءة في الوعي الأممي. ويغرق آلاف البشر سنوياً في البحر المتوسط دون أن يُكترَث بهم؛ لأنهم ليسوا أوروبيين ببساطة. أبحر هؤلاء صوب الشمال بعد أن داعبتهم وعود العولمة فاندفعوا إلى تجريب حظوظهم فيها غير آبهين بالمخاطر، ثم قيل لهم إنّ الفردوس الأرضي موصد دونهم. أدرك الغرقى في مشهدهم الأخير أنّ "القرية" التي سعوا في طلبها استثنتهم من حظوتها وألقت بهم إلى التهكلة دون أن تبكي عليهم.

يُفترَض بالقرية أن تقوم على استشعار وشائج الصلة وأواصر القربى وإدراك المصير المشترك والمسؤولية الجماعية، لا أن تتقاعس عن الامتثال لالتزاماتها المقرّرة في "الأهداف الإنمائية للألفية" مثلاً أو في التصدِّي للعبث البيئي والاحتباس الحراري وهدر الموارد وسياسات الاستغلال. وبعيداً عن مواثيق الأمم وأعمال هيئاتها؛ تتجلّى القريةُ الموعودة للناظرين غابةً تحكمها السطوة ويُهَيمن فيها القوي على الضعيف.

تقدح هذه السمات والتطوّرات في مقولة "القرية الكوكبية" ووعودها، فالتقارب التواصلي المُعولَم يأتي من بعض وجوهه عبئاً على التفاهم البشري الذي يُتوقّع من مفهوم "القرية" المترابطة والمتآلفة والمتضامنة في شكلها التقليدي. إنّ التقارب التواصلي الحاصل، رغم إيجابيّاته المتعدِّدة، هو أيضاً مجال خصب لإذكاء صراعات على خطوط التماس التي تتذرّع بالهُويّات، بتوظيف قلق تعريف الذات وأزمة الهُويّة المُفتعَلة في زمن تَداخُل المكوِّنات وانسياح المؤثرات، بما يُغوي بالإقدام على منحى افتعالي يقوم على تشخيص "الآخر" النقيض؛ ليجري تعريف الذات الجمعية من خلاله تقابلياً.

يقتضي العيش في قرية صغيرة الاعتراف بتحديات جسيمة تفرض استحقاقات والتزامات لا يصحّ التنصّل منها بذريعة سحر الشعار. فتقارب المكوِّنات البشرية تواصلياً أو عيشهم جنباً إلى جنب في حيِّز واحد لا يقضيان بتعايشهم أو يضمنان تفاهمهم كما ينبغي؛ فقد يؤول المشهد إلى مجتمعات موازية يُعرِض بعضها عن بعض. وقد تتفاعل الحالة بصفة عكسية؛ بأن تمنح تربةً خصبة لمناحٍ استغلالية واستقطابات تعلو فيها خطابات "نحن" و"هم" المتنافرة، التي تضيق ذرعاً بأي مفهوم رحب للذات الجمعية، وتتعالى على الاعتراف بوحدة الأصل الإنساني التي يفترض بها أن لا تتنكّر للتنوّع المنبثق عنه؛ بما يقتضيه من التعارف والتفاهم والاصطفاف القيمي والالتزام الإصلاحي.

وسوم: العدد 796