سورية بين نظام سادي وثورة شعب 9

الحلقة التاسعة

سورية تعيش على صفيح ساخن وقيادات الجيش تتخبط 

أمام هذه الاضطرابات الخطيرة التي عصفت في البلاد، تنادت القيادات العسكرية الرئيسية لمختلف الاتجاهات، بهدف تجنيب البلاد ما هو أسوأ، ووضع حد لإراقة الدماء.

فقد عقدت مختلف الاتجاهات العسكرية الرئيسية اجتماعات مكثفة ومتتالية في مدينة حمص من أجل الخروج بحل سريع لهذه الأزمة الجديدة. ونتج عن هذه الاجتماعات ما عرف (بقرارات مؤتمر حمص) التي أقرت أهم النقاط التالية(1):

-إبعاد عبد الكريم النحلاوي وأنصاره من البلاد في أسرع وقت ممكن.

-إعادة تنظيم القيادة العامة للقوات المسلحة.

-دراسة مسألة الوحدة بين مصر وسورية ضمن إطار الجمهورية العربية المتحدة على أسس سليمة وديمقراطية. -تشكيل حكومة جديدة مؤقتة.

ولكن الأوضاع - سواء منها العسكرية أو الشعبية – تفاقمت، فقد قامت مجموعة من العسكريين تحت قيادة العقيد جاسم علوان - ناصري - رافضة جملة وتفصيلاً قرارات حمص باحتلال مبنى إذاعة حلب والإعلان في بيان للعقيد جاسم علوان الناطق الرسمي باسم الجيش الأول - السوري - عن استمرارية وحدة الجمهورية العربية المتحدة بإقليميها الشمالي سورية والجنوبي مصر، برئاسة جمال عبد الناصر.

لقد كان تحرك جاسم علوان الانفرادي خطأً فادحاً وهفوة تكتيكية ارتكبتها العناصر العسكرية الناصرية. حيث كانت النتيجة هي هروب العقيد جاسم علوان. (تولى اللواء لؤي الأتاسي قيادة الجيش في الشمال، ولكنه لم يلبث أن ألقي القبض عليه وحقق معه، ثم عين ملحقاً عسكرياً في السفارة السورية في واشنطن)(2). ترتب على إخفاق حركة جاسم علوان أسوأ النتائج بالنسبة إلى مجموع الضباط الناصريين والبعثيين على حد سواء. فقد ألقي القبض على كثير منهم وسرح البعض من الجيش والبعض الآخر أرسل في بعثات دبلوماسية في الخارج. (سرح العقيد محمد عمران من الجيش ثم ألقي به في السجن في آب 1962م، وكذلك اللواء أمين الحافظ سمي ملحقاً عسكرياً في السفارة السورية في الأرجنتين). حينذاك أخذ العقيد الحذر والكتوم (صلاح جديد) على عاتقه إعادة تنظيم المجموعة البعثية القليلة العدد داخل الجيش(3). على أثر هذه الاضطرابات العسكرية والشعبية، تشكل مجلس جديد لقيادة القوات المسلحة يضم أربعين ضابطاً، كما تألفت قيادة جديدة للأركان العامة تتكون من العناصر المستقلة (غير المسيّسة) والتي ليس لها وزن داخل الجيش، وهم: (اللواء عبد الكريم زهر الدين قائد الجيش، واللواء نامق كمال رئيس الأركان العامة، واللواء وديع المقعبراني نائب رئيس الأركان، واللواء هشام آغا رئيس المكتب الثاني، واللواء محمود صبري السيد رئيس الشعبة الثالثة، واللواء خليل موصلي رئيس شعبة الضباط، واللواء أكرم الخطيب رئيس الإدارة والتنظيم). هذه القيادة العسكرية الجديدة وضعت بنظر البعثيين (تحت رحمة الضباط الصغار الذين يكونون القوة الحقيقية في الجيش، ويمسكون حقيقة الأمر الوحدات العسكرية) ومعظم هؤلاء الضباط ينتمون لحزب البعث(4). في الثالث عشر من نيسان عاد ناظم القدسي إلى تسلم عمله كرئيس للجمهورية، وبدأ عمله باستدعاء العديد من الوجوه السياسية المختلفة، حيث تم عقد اجتماعات متتالية بين ممثلي هذه الاتجاهات، وكان في مقدمتهم: (أكرم الحوراني، وصلاح البيطار - بعثيان - رشاد برمدا - حزب الشعب - عصام العطار - المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين - مزهر الشربجي - ناصري - اسعد كوراني وبشير العظمة - مستقلان - فريد زين الدين - موظف كبير في السلك الدبلوماسي). ونتج عن هذه اللقاءات والمساومات خلال بضعة أيام وبكثير من الصعوبة تشكيل وزارة بشير العظمة في نيسان من نفس العام، التي اعتبرت في حينها معتدلة نسبياً، حيث احتل البعثيون مقعدين وزاريين(5). (يظهر من قراءة البيان الوزاري لحكومة العظمة قراءة دقيقة أن البعثيين شاركوا مشاركة فعالة في صياغته. بل ويمكننا أن نعتبر هذا البيان بمثابة ترجمة لخطهم السياسي والحكومي). وبعد أن رفضت حكومة العظمة في بيانها التيار الانفصالي وانتقدت التيار الوحدوي الفوري على حد سواء. أكدت أن ما تبغيه في هذا المجال هو (قيام وحدة اتحادية تتلاءم مع ظروف البلاد العربية). وتعلن أنها (ستباشر بإجراء اتصالات مع مصر من أجل التعرف على وجهة نظرها ومن أجل الاتفاق بالتالي على صيغة نهائية لمشروع الوحدة، يطرح بعد ذلك على الاستفتاء الشعبي)(6).

لقد حاول البعثيون منذ الانفصال في 28 أيلول 1961م إظهار أنفسهم على أنهم كتلة واحدة، بالرغم من المواقف الفردية المتباينة، حيث كان ينطق باسمهم في اللقاءات والمحادثات السياسية، أكرم الحوراني وصلاح البيطار. ولكن حقيقة الأمر، داخل الحزب، تشير إلى أن الصراعات كانت تأخذ طابع العنف والقوة من أجل بسط الهيمنة والنفوذ على الحزب. فقد كان كل اتجاه من اتجاهات الحزب المتعددة يقوم بحساباته الدقيقة ويعد مؤيديه ويعمل على بلورة خط سياسي أو إيديولوجي لحسابه ومن ثم فرضه على الآخرين. وكانت أهم هذه الاتجاهات: اتجاه يقوده العسكر متمثلاً بالثلاثي (صلاح جديد ومحمد عمران وحافظ الأسد)، واتجاه يقوده (أكرم الحوراني والبيطار) واتجاه يقوده (عفلق).

لقد طفت هذه الخلافات لتظهر جلية واضحة عند تشكيل وزارة بشير العظمة. حيث كان هذا يلح على ضرورة اشتراك البعثيين في وزارته وقد عرض عليهم خمس حقائب وزارية بالإضافة إلى اختيار عدد من رجال السياسة الذين يرغب البعثيون في أن يتعاونوا معهم. وعلى أثر هذه العروض انقسم الرأي داخل الحزب إلى اتجاهين حول اشتراك الحزب في وزارة العظمة(7):

1: وجهة نظر القيادة القومية وعلى رأسها (ميشيل عفلق)، وكانت ترى أن الظروف السياسية ليست مهيأة بعد ليتحمل الحزب مسؤولية المشاركة في الحكم، ولدعم رأيها هذا اعتمدت السببين التاليين: الأول: أن الحزب في سورية لم ينظم بعد وعلى مختلف المستويات، وليست له قيادة قطرية تمثله رسمياً وتعبر عن خطه ونهجه السياسي.

الثاني: فإن القوى الانفصالية كانت تسعى بكل قواها إلى قطف ثمار النزاع الحاد الحاصل بين البعثيين والناصريين. ومن أجل ذلك ترى القيادة القومية الابتعاد عن المسرح السياسي مؤقتاً، والتوجه كلية إلى إعادة تنظيم الحزب، والانتظار ريثما تخف الحملة التي يشنها الناصريون إعلام القاهرة ضد حكومة العظمة. (كانت وزارة العظمة من خلال بيانها الذي أعلنته تعيش بين فكي كماشة البعثيون والناصريون من جهة يتهمونها بتكريس الانفصال والعمل على إدامته ومن جهة ثانية الانفصاليون حيث يخشون الارتماء في أحضان عبد الناصر مرة ثانية).

يقول العظم في مذكراته ص(281-282/3): (ولم أهتم بكل هذه التعديلات بقدر اهتمامي بموقف الحكومة تجاه الوحدة مع مصر. فقد كانت البيانات الثلاثة حافلة بتعابير تدل على رغبة قائلها بالتقرب من مصر العزيزة، ومصر الشقيقة، ومصر الحبيبة، مما جعلنا نتحسب من أن يلقوا بنا مرة ثانية في أحضان التسلط المصري). أما وجهة نظر الحوراني والبيطار، فقد كانت النقيض تماماً، فقد كانت تبدي تأييداً لمشاركة الحزب مشاركة فعلية في الحكم. ويتلخص رأيها في أن حكومة العظمة حكومة مؤقتة، تنحصر مهمتها الأساسية في إعادة قوانين التأميمات وقانون الإصلاح الزراعي وإلغاء المشاريع التي صدرت منذ 28 أيلول 1961م، وأن مشاركة البعثيين في الحكم واستلامهم حقائب وزارية، يسمح لهم بأن يوجهوا دفة نظام الحكم في سورية في الاتجاه اليساري، ويعيدوا إلى اتحاد نقابات العمال القيادات التي أبعدت في عهد الوحدة، ويعملوا على إعادة الضباط البعثيين المبعدين إلى قطعاتهم العسكرية. ومن هذا المنطلق كان هذا الاتجاه يلقى التأييد من غالبية قادة البعث السوري. توصل الفريقان إلى حل وسط لإبعاد حدوث انشقاق داخل الحزب حيث تم الاتفاق بينهما على قبول اشتراك بعثيين اثنين في وزارة العظمة: عبد الغني قدور وزيراً للداخلية وعبد الله عبد الدايم وزيراً للإعلام. (بعد مضي وقت قليل، قدم الوزيران البعثيان استقالتهما من حكومة العظمة. فعبد الغني قدور كوزير للداخلية، عرقلت مساعيه لإعادة الضباط الذين تطلق عليهم عموماً صفة (الوطنيين والتقدميين)، إلى صفوف الجيش. وكذلك عبد الله عبد الدايم كوزير للإعلام، بعد أن سمح للصحف والمجلات المصرية أن تدخل سورية، أصدر المقدم مطيع السمان، مدير عام قوى الأمن الداخلي، أمراً بمنعها، متحدياً بذلك قرار الوزير، وأصبح عبد الدايم من جراء ذلك هدفاً لحملة تشهير مركزة، اتهم فيها بتعاطفه مع الناصرية وبأنه الناطق باسم عبد الناصر في الإذاعة والتلفزيون السوري)(8).

في حقيقة الأمر لم تكن الخلافات حقيقية حول اشتراك الحزب في الحكم أو عدم مشاركته، إنما كانت القضية الأساسية شيئاً آخر، ألا وهو موضوع إعادة تشكيل الحزب وتحت أي شكل سيعاد تنظيم البعث في سورية وبمعنى أدق، من هي الفئة التي سيكون لها السيطرة على الحزب؟ وهذا هو السؤال الذي كان حقيقة الخلاف حول الإجابة عليه!!

لقد كان الاتجاه العام هو دعوة قيادات الحزب السابقة إلى اجتماع موسع لدراسة مسألة إعادة تنظيم البعث في سورية. ويجب أن يتم ذلك قبل التئام المؤتمر القومي، التي أخذت تلح الظرف على التعجيل في عقده، حتى يسمح لهذه القيادات المشاركة في أعماله. وكانت الغاية الأولى لعقد المؤتمر القومي هي دراسة الظروف الجديدة التي حدثت في سورية على اثر الانفصال وتحديد خط جديد لتحديد موقف البعث بالنسبة للنظام الناصري، مع الاستفادة من تجربة الوحدة السابقة.

هذا كان رأي الاتجاه العام في الحزب. أما ما كانت تفكر به القيادة القومية وبالذات (ميشيل عفلق) فقد كانت ترتأي بإعادة تنظيم الحزب بعد انعقاد المؤتمر القومي، وعلى ضوء السياسة العامة التي ستتقرر فيه، خاصة وأن الأوضاع والظروف الداخلية والخارجية للحزب ناضجة ومهيأة لإبعاد بعض القياديين البعثيين السوريين وعلى رأسهم (أكرم الحراني) ومؤيديه.

-المراجع-

وسوم: العدد 799