الإسلام في أفريقيا 49

فقيه إفريقية

أحمد بن نصر بن زياد الهواري

العالم المتقدم بأصول العلم، الحاذق بالمناظرة فيه، الحسن الحفظ، الفقيه الصدر، الجيد القريحة، الحسن الكلام في علم الفرائض والوثائق، الصحيح المذهب، الشديد التواضع، السليم القلب.

كان لا ينظر ولا يتصرف في شيء من العلم غير مذهب مالك، فإذا تكلم فيه، كان فائقاً راسخاً حاضر الجواب. 

كان علمه في صدره، من الفقهاء المبرزين، والحفاظ المعدودين، لا يدانيه في ذلك أحد في زمانه.

قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله: نزلت بالقيروان مسألة، وذلك أن امرأة سقت زوجها شيئاً فجذمته فاضطرب علماء القيروان فيها، فسئل عنها أحمد بن نصر، فقال لهم: المسألة في المدونة، فقالوا له: أين هي؟ فقال لهم: قال مالك رحمه الله: في كتاب الجراح في السن إذا ضربها رجل فاسودت أو اخضرت فقد تم عقلها ووجبت فيها الدية. لأن السن إنما يراد منها بياضها وجمالها فإذا ضربت فاسودت أو اخضرت فقد ذهب جمالها ووجبت فيها الدية وكذلك الإنسان إنما أريد منه جماله وحسنه فإذا تجزم ذهب حسنه فوجبت فيه الدية، فإن قتل بعد ذلك ففيه دية أخرى وكذلك السن أيضاً.

وقال: ذكر أن قاضياً كان في زمن أحمد بن نصر كانت له أحكام خطأ فكان أحمد ينبه على خطئه ويتكلم في أحكامه، فدخل القاضي على عبيد الله فقال: هاهنا رجل من البربر مطاع وله ذكر ونحن لا نأمنه - وكان يتوقع أمر أبي يزيد الخارجي - فوجه وراءه وسجنه وقيده، وكان يعتريه الإسهال، فلما جعل القيد في رجله دعا الله عز وجل أن لا يبتليه في السجن بالاختلاف فارتفع عنه الإسهال طول إقامته في السجن.

فلما تبين لعبيد الله أنه ليس قبله شيء مما رمي به أمر بإخراجه فلما وصل إلى داره عاد إليه الإسهال. أقام في السجن تسعة أشهر ثم سعى أبو سعيد الضيف عند عبيد الله في إطلاقه فأطلقه.

قال رحمه الله: حبست في بيت الدم مع السُراق وأصحاب الدماء وكنت أخرج في كل جمعة يفتقد قيدي، أقمت على هذا شهرين ثم أخرجت بعد ذلك من ذلك البيت إلى الموضع الذي يحبس فيه جميع الناس.

قال: ثم أخرج قدمه وضرب بيده عليه قال: وجعل الحبل فيه شهرين على غير ذنب ولا جناية، والله ما سرقت ولا زنيت ولا كان ذلك إلا على محبة صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم.

قال تميم بن خيران الموثق: أتى رجل إلى أبي جعفر أحمد بن نصر فقال له: أصلحك الله جئت أشاورك في شيء؟ فقال له: ما هو؟ فقال له: لي ولد وليس لي غيره، وقد خطب إلى قوم فقالوا له: إن أعطاك والدك داره زوجناك وإلا فلا، وهي - أصلحك الله - دار شريفة لها قدر. فقال له أحمد: لا تفعل، فمضى الرجل فاطرح كلام الشيخ وكتب الدار لولده وتزوج إلى القوم الذين خطب إليهم، فما كان إلا مدة يسيرة حتى أقبل الأب إلى أبي جعفر وشكا إليه ما هو فيه من الحاجة وشدة الفقر، فقال له أحمد بن نصر: قد نهيتك فلم ركبت ما نهيتك عنه. ثم أنشأ رحمه الله يقول:

إذا احتاج البنون إلى أبيهم … أتوا بالبر والفضل الجزيـل

وإن احتاج والدهم إليهم  … يقاسي الهم في الليل الطويل

فأحسن والد لم يعط شيئاً  … وعاش بماله حتى الرحيـل

قال الشيخ أبو الحسن الفقيه ابن الفارسي رحمه الله: قال أحمد بن نصر: امرأة معها ألف دينار تُعطاك بدرهم واحد غالية، ثم أنشد:

لا يعجبنك يا فتى … حسن فرش ومتكا

إن للعرس فرحـة… بعدها النوح والبكا

قال الشيخ أبو الحسن: وكان أحمد بن نصر يقول: تزوجت امرأة حافظة لكتاب الله عز وجل وحفظت الموطأ، ولقد توفي لها ولد أكله السبع فلما بلغها ذلك، توضأت وجلست تقرأ، ولم تعبأ بما طرأ عليها، ولم تحزن، وعلى هذا كله مادام لي معها سرور ثلاثة أيام متوالية قط.

قصة محنة أحمد بن نصر

قال ابن حارث: دارت على ابن نصر محنة من ابن أبي المنهال سنة (308هـ/920م) وذلك أن ابن نصر كان يجلس في مسجد رحبة القرشيين، وكان يجلس إليه من أتاه. فخطر به صاحب المحرس يوماً ومعه بعض المشارقة، فاستعظموا جلوسه واجتماع الناس حوله، فوكل صاحب المحرس عليه وعلى من كان معه الشرط، وسار إلى علي بن إسحاق الطبيب فأعلمه بخبره - وكان يخلف صاحب القيروان إذ ذاك - فأبى أن ينظر في أمره. فسار إلى ابن أبي المنهال، فأرسل إليه جماعة من العدول فوقفوا عليه، ثم أمر به إلى السجن من غير أن يدخله إلى نفسه، وأوصل من كان معه إلى نفسه واستنطقهم رجلاً رجلاً، ثم كتب بخبرهم إلى عبيد الله. فأعرض عبيد الله عن خبرهم. فبقي في السجن حتى عنى به أبو سعيد الضيف، فأمر بإطلاقه. فلزم بيته حتى مات.

توفي الفقيه الجليل أحمد بن نصر رحمه الله في ربيع الآخر من سنة (317هـ/929م). وكان مولده سنة (235هـ/849م). وصلى عليه أبو ميسرة الفقيه سراً في داره، في جماعة من أصحابه، خوفاً ممن يصلي عليه من قضاة الوقت، فلما خرج به، وكفاه الله ذلك، أعاد الصلاة عليه مرة ثانية.

وسوم: العدد 802