الأزمة السودانية: الأسباب والحُلول!

يعيش السودان في الفترة الأخيرة على صفيح ساخن، حيث يعاني من أزمات معقدة ومتداخلة، وأهمها المشكلة الاقتصادية التي صارت معضلة بعد أن طال عليها الأمد فقست واشتد بطشها بعامة السودانيين.

▪ أعراض الأزمة:

للأزمة الاقتصادية أعراض كثيرة لا تخطئها العين، وأهمها;

1 - شُح الخدمات وكثرة الطوابير عليها:

تعاني كافة الخدمات من شح شديد، فقد غزت الطوابير كل شيئ نتيجة الخلل الكبير بين العرض والطلب، حيث تجد طوابير الخبز تضم عشرات الرجال والنساء في كل مخبز، في صورة محزنة لا يخلو منها أطفال وشيوخ وأناس من ذوي الحاجات الخاصة، تراهم تحت لهيب الشمس في عزّ الظهر وفي زمهرير البرد قبل أذان الفجر، في حين أغلقت مخابز أخرى أبوابها، حتى أن معظم الأسر باتت بالكاد تتناول وجبة واحدة في اليوم! وهناك طوابير لمئات السيارات أمام محطات الوقود، نتيجة شحة المشتقات النفطية المدعومة من قبل الدولة، وتجد الناس يتنقلون بين محلات بيع الغاز وكثيرا ما يعودون خاليي الوفاض أو يعودون بأنبوبة غاز بعد أن ابتلت الأجساد بالعرق، نتيجة الوقوف الطويل والتزاحم الشديد!

ولقد أصبحت الطوابير عادة سودانية بارزة، حيث يتم الوقوف أمام البنوك للحصول على شيئ من المرتبات الشحيحة أو المدخرات التي تم ادخارها لليوم الأسود، غير أن اليوم الأسود ازداد سوادا حينما عجز الناس عن الحصول على نقودهم؛ نتيجة شح السيولة التي أصابت كل البنوك، ووقف رجال الاقتصاد عاجزين عن تقديم تفسير لكمية النقود الضخمة من العملات المحلية التي اختفت رغم القيام بإنزال طبعة جديدة قبل شهرين!

2 - جنون الدولار وسُعار الأسعار:

كان سعر الدولار قبل عامين يساوي 13 جنيهاً وعشية اندلاع التظاهرات كان الدولار قد وصل إلى عتبة السبعين جنيها وزاد عن الثمانين جنيها في الشيكات الآجلة، بمعنى أنه ارتفع بما يزيد عن 500%، مع العلم أن المرتبات ما زالت كما كانت ولم تتزحزح قيد أنملة، مما أدى إلى ارتفاع السلع والبضائع بأضعاف ما كانت عليه، هذا رغم أن المرتبات متواضعة حتى بقيمتها الشرائية القديمة فكيف بها الآن؟! وعلى سبيل المثال فقد كان كيلو اللحم يساوي 40 جنيها أما اليوم فقد وصل إلى 200 جنيه، بمعنى أنه ارتفع خمسة أضعاف وهي ذات نسبة ارتفاع الدولار، ولم تبق ثابتة على سعرها إلا المشتقات النفطية التي تدعمها الحكومة، والاتصالات التي تمنع الحكومة الشركات من رفعها، وخدمات المياه والكهرباء وإلى حد ما الخبز الذي رُفع عنه الدعم جزئيا قبل عام ولكن ما يزال يكلف خزينة الدولة الشيئ الكثير.

3 - القلاقل الأمنية:

انعكست البطالة وقلة الوظائف وارتفاع التضخم وضعف القيمة الشرائية للجنيه إلى اتجاه بعض الشباب إلى أعمال السرقة والسطو المسلح أحيانا، ورغم أن هذه المشكلة لم تصبح ظاهرة مستفحلة إلا أنها تتسع بسرعة وتهدد بظهور عصابات كبيرة إن لم يتم السيطرة عليها وتجفيف منابع الضخ لها.

4 - هجرة الكفاءات ورؤوس الأموال:

أدى انخفاض المرتبات وارتفاع الأسعار بجانب البطالة العالية إلى هجرة مئات الآلاف من الكفاءات السودانية إلى خارج السودان وخاصة الخليج وأوروبا، وكذلك فعل كثير من رجال الأعمال، مما زاد الطين بلة وساهم في تعميق الأزمة مما سيكون له تداعيات مستقبلية كوضع التعليم الذي يتردى نوعيا رغم تطوره الكَمّي!

▪ عوامل الأزمة:

من المؤكد أن لما يحدث اليوم في الشارع السوداني أسبابه وعوامله التي تمتد طويلا إلى الخلف، ورغم أني رجل فكر لا اقتصاد، فيبدو لي أن أهم العوامل المسؤولة عن ذلك، هي:

1 - الديون الخارجية:

الديون في السودان مشكلة مزمنة، فقد ورثت ثورة الإنقاذ في 1989 تركة ثقيلة من الديون، وظلت مع الأيام ونتيجة الحروب والحصار وسوء بعض السياسات الحكومية تتصاعد بشكل مطرد، وحسب تقرير للبنك الدولي صدر مؤخرا فإن الديون وصلت إلى 54 مليار دولار وهو مبلغ ضخم يساوي 166% من حجم الناتج الإجمالي للبلد، ويتوزع هذا الدين بين نادي باريس بنسبة 37% وجهات دولية عديدة بنسبة 49% وربما كانت الصين أبرزها، بجانب 14% للقطاع الخاص.

وللعلم فإن فوائد الديون تلتهم جزءا كبيرا من دخل السودان وخاصة إذا علمنا بأن 85% من الديون صارت واجبة السداد وهي في حكم المتأخرات!

2 - الحصار الخارجي:

لقد طال الحصار الخارجي الذي كاد أن يكمل العقد الثالث بتأثيراته الكارثية على كافة الصعد، وبجانب الآثار المباشرة للحصار والمعروفة في كل بلدان العالم، فهناك آثار كارثية أخرى لا تتكلم عنها الأرقام، حيث اقترن الحصار بمحاولات حثيثة لإسقاط نظام الإنقاذ عبر حروب حدودية عديدة وعبر دعم لمحاولات إسقاط النظام من الداخل، وهذا بجانب الآثار المباشرة للحروب السابقة أدى إلى ارتفاع الهواجس الأمنية، مما دفع بقادة النظام إلى تخصيص جزء كبير من ميزانية البلد لصالح الجيش والمؤسسات الأمنية، مما زاد من ضعف جهود التنمية والاستثمار، ولاسيما بعد انفصال الجنوب الذي أفقد الخرطوم 75% من عائدات النفط التي مثّلت العمود الفقري للتنمية التي شهدت طفرة كبيرة من 2002 إلى 2009 لكنها عادت للانكماش التدريجي حتى وصلت إلى أوضاع خطيرة منذ قرابة العامين!

ولقد أدّت الهواجس الأمنية إلى محاولة النظام كسب الدولة العميقة وكسب ولاء الأحزاب، وذلك على حساب الميزانية المرهقة في الأصل!

ومن الآثار السيئة للحصار منع تحويلات المغتربين السودانيين من الوصول إلى السودان، حيث أن التحويلات البنكية ممنوعة، وزاد من هذا الضرر أن الحكومة اتخذت بعض السياسات الخاطئة التي نفّرت تحويلات المغتربين، ومنها إلزام المغتربين بسعر البنك المركزي الذي ينخفض بشكل كبير عن سعر السوق الموازي!

ومن آثار الحصار والتآمر الخارجي إشغال الحكومة بالأزمات عن التنمية المستدامة والاستثمارات الكبيرة التي كان يمكنها تغيير وجه البلد، وحسب علمي فإن حكومة الإنقاذ كانت تمتلك مشروعا طموحا للزراعة ولاسيما زراعة السلع الاستراتيجية وعلى رأسها القمح، حيث كانت قد بدأت بزراعة ملايين الأفدنة، ولكن الحروب دفعتها لصب كافة الإمكانيات لصالح الحرب وتوقفت مشاريع الزراعة، بل مع الأيام تآكلت بعض المشاريع القائمة من أطرافها كما حدث بالنسبة لمشروع الجزيرة الزراعي، ومن يصدق أن السودان الذي يوسم بأنه سلّة غذاء العالم ويقال إنه يمتلك أكثر من 120 مليون من الأبقار والأغنام والإبل، يستورد سنويا أغذية وحبوبا بل ولحوما وألبانا وأجبانا بمليارات الدولارات؟!!

3 - تَغوُّل البيروقراطية والفساد:

السودان دولة فيدرالية في الجانب النظري، بمعنى أنه يمتلك 19حكومة وبرلمان ولائي على عدد ولايات السودان، بجانب الحكومة المركزية والبرلمان القومي في الخرطوم، وهذا له تبعاته في الإنفاق الكبير وتضخم الجهاز الإداري بشكل يفوق حاجة الحكومة وقدراتها، مع العلم أن الفيدرالية في الحالة السودانية وحسب خبرتي العملية أمر شكلي، إذ أن المركزية تعيش في ذروة الممارسة العملية، بمعنى أنها لم تُحقق المأمول من الفيدرالية لكنها جلبت مساوئها، ومنها البيروقراطية التي ترهق معاملات الناس بين العاصمة والأقاليم وتتنازع السلطات فيما بينها، مما وضع عقبات جمة أمام الاستثمارات الجديدة، وهناك استثمارات غادرت السودان إلى دول عديدة بسبب ذلك، بما فيها استثمارات السودانيين التي تذهب إلى دول الجوار، وأهمها أثيوبيا ومصر، وفي أثيوبيا وحدها تتحدث الأرقام عن وجود ما يزيد عن 2 مليار دولار لمستثمرين سودانيين مما جعلهم المستثمر رقم 2 في أثيوبيا

وهناك دراسات تتحدث عن أن البيروقراطية والضرائب الباهظة والفساد قد تسببت في إغلاق 80% من المصانع في السودان، وهذا الرقم كان في العام الماضي وقبل اندلاع الأزمة الأخيرة!

4 - الدعم الحكومي:

رغم الأزمة الطاحنة التي تتعرض لها الحكومة السودانية خلال السنوات الأخيرة، ورغم قيامها بخفض الدعم عن الدقيق ما تزال تدعم بجزء كبير من عملاتها الصعبة الدقيق والمشتقات النفطية وبعض الأدوية، حيث تلتهم فاتورة المشتقات وحدها ما يزيد عن 2 مليار دولار سنويا كدعم، وهذا يرهق الميزانية، وبقدر ما يخفف ذلك العبئ عن المواطنين الفقراء فإن الجزء الأكبر منه يذهب لصالح غير المستحقين من الأثرياء !

▪ حُلول عاجلة:

من المؤكد أن هذه الأزمة تحتاج من أهل التخصص والخبرة إلى معالجات عميقة على كل الصعد والبحث عن مخارج دائمة، مع عمل دائب من أجل تجفيف منابع الفساد وتحجيم البيروقراطية وإطلاق القدرات وتشجيع الكفايات وتوفير الحوافز للاستثمارات وعائدات المغتربين، غير أن إطفاء نار الفتنة التي تستعر الآن وتهدد بتحويل السودان إلى بلد فاشل وتوفير حاجات الفقراء والمحتاجين العاجلة تحتاج ممن يهمهم الأمر إلى القيام بعدد من المعالجات السريعة وأهمها:

1 - إجراء معالجات سريعة وحاسمة لإلغاء طوابير الخبز والمشتقات النفطية والسيوله المالية، وكبح جموح الدولار بإجراءات رادعة تقترن بسياسات اقتصادية ناجحة.

2 - التضحية بعدد من حيتان الفساد الذين ثبت تورطهم في العبث بالمال العام، ممن طفق الرئيس عمر البشير يسميهم في الفترة الأخيرة بالقطط السمان ، بصورة تعيد ثقة المواطنين بحكومتهم.

3 - قيام الدول العربية والإسلامية بإعفاء السودان من ديونه وعلى رأسها قطر والسعودية وماليزيا وتركيا وكذا الإمارات إن أمكن.

4 - دعوة الدول الأجنبية والصناديق الدولية لإعفاء السودان من بعض ديونه وجدولة ما بقي منها بصورة لا تشكل أي ضغط على الاقتصاد السوداني.

5 - تقديم الجمعيات الإغاثية والخيرية والدول الشقيقة مساعدات عاجلة للشعب السوداني، حيث يعاني الناس من مأساة ولاسيما في الأقاليم.

6 - تبني الدول الصديقة للسودان والجامعة العربية والأمم المتحدة مؤتمرا للمانحين، بحيث يتم إعادة تأهيل الاقتصاد السوداني على نمط ما فعلته الدول الغربية مع اليونان.

7 - إعلان الحكومة الحرب الشاملة على الفساد بإرادة سياسية كاملة وإدارة قضائية حاسمة، مع إطلاق العنان للاستثمارات للنهوض بالسودان من خلال القضاء على البطالة وتشغيل الكفايات واستثمار الموارد وتشجيع سياسة الاكتفاء الذاتي في كل شيئ، مع إعطاء حوافز خاصة للزراعة.

8 - مراجعة سياسة الأجور ورفع الحد الأدنى بما يراعي المتغيرات الأخيرة ويكفل تحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين.

9 - تعاون الدول المحبة للسودان من أجل رفع الحصار عن السودان على الأقل في محيطه العربي والإسلامي.

وفي الختام نسأل الله أن يحفظ السودان وأهله من كل فتنة، وأن يجمعهم على كلمة سواء ويأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم ومصلحتهم العامة.

وسوم: العدد 804