القراءة وصناعة العظماء

محمد محمد الشبراوي

محكم محلي ودولي للمناظرات باللغة العربية-مصري

للنجاح أدوات كثيرة لا بد من التسلّح بها لمجابهة مخاطر الطريق، ومن بين هذه الأدوات القراءة، فإذا طالعت سير العظماء في شتى مجالات الحياة لوجدت أنهم اقتطعوا من أوقاتهم الكثير للقراءة.

*ربما أدركت الآن لماذا انتشر صيت بعض من لا يحسنون أن يكتبوا أسماءهم؛* ببساطة لأننا توقفنا عن القراءة، فأصبح كلُّ غثٍ سمين، ولو أننا خصصنا وقتاً للمطالعة لتغير حكمنا على هؤلاء وأمثالهم، ولارتفعت ذائقتنا الأدبية ومن ثمَّ يرتقي المجتمع.

لا أبالغ فيما أعرضه عليك، وإن كان حديثنا ينصب حول النجاح؛ فإن الناجحين هم مَن ثابروا في طريق المجد وكانت القراءة قد وضعت بعضهم على الطريق الصحيح، في حين أنها قد شكلت فكر ووجدان البعض وصقلت تجارب غيرهم، *وهكذا يتبين لك أن القراءة كنز من كنوز الناجحين لا يزهد فيها واحد منهم مهما كان وقته ضيقاً أو كانت مشاغله متنوعة.* 

قد يدور في ذهنك سؤال مهم: 

*كيف لي بالوقت الذي أقرأ فيه؟*

والإجابة على هذا السؤال لن يتمكَّن أحدٌ غيرهم من تمريرها إليك؛ لذا كن صارماً واختر وقتاً للقراءة، 

لا يحتاج ذلك لخطط جبارة ولا لتخطيط استراتيجي معقد، كن صادقاً مع نفسك وأجب على هذا السؤال: هل أنت تريد القراءة؟ 

فإذا كانت إجابتك: نعم، فلن تعدم وسيلة لذلك، 

*رتّب أولوياتك واحذف من جدولك لصوص الوقت كالتأجيل والتسويف والتراخي والتساهل.*

*الأمر حقاً يتطلب الحزم، النجاح لا يأتي عفواً، النجاح يتطلب منك البذل والجهد، والقراءة تمدك بخبرات الآخرين من دون عناءٍ تتكبده سواء أكان هذا العناء مادياً أم معنوياً؛ فما الذي يحجزك عن هذه المكرُمة؟!*

اعلم يقيناً أنه من جَرَّبَ المُجَرَبَ كان عقله مُخَرَّباً، وهذه القاعدة متفقٌ عليها بين أهل كل فنٍ من فنون العلم؛ 

*فلا يُقبِلُ أحدهم على ممارسة تجارب حديثة دون إلمامٍ بما توصل إليه من سبقوه، ويأتي هذا من باب اختصار الوقت والاستفادة من نجاحاتهم وتفادياً لما وقعوا فيه من أخطاء.*

إن علمت أن الطب قد اعتمد قديماً على مبدأ التجربة والخطأ، وأن بعض الأمراض حتى الساعة يتم تشخيصها بمبدأ التشخيص بالاستبعاد، ومنها القولون العصبي؛ فإن ذلك يقودنا إلى أهمية القراءة في حياتنا، *إذ إن العلم والمعرفة حصيلة تراكمية وجهد متتابع لا ينقطع.*

*القراءة وإن كانت ثقيلة على نفسك بطريقةٍ أو بأخرى، فهي كالدواء يشربه العليل ليبرأ من الأسقام، فالقراءة متاعٌ للمُقْوين وسبيل الطامحين للنجاح والتمكين في كل مجالات الحياة.*

أما إذا ما كانت القراءة محببة إلى قلبك وعقلك؛ فهنيئاً لك! 

وأنت مُطالَبٌ بالاستزادة من القراءة والتحصيل وتنويع مدارِكك وثقافتك.

لا حدود لعقل الإنسان، وأنت وحدك من تضع لنفسِك الحدود التي لا تريد تجاوزها؛ 

فإن شحذت ذهنك وأيقظت فكرتك، بلغت شأواً عظيماً ومكاناً في قائمة الخالدين رشيداً، ولا يكون ذلك إلا بالمطالعة المستمرة لسير الذين تركوا بصماتٍ لا يمحوها الحدثان.

*هل ما زلت لا تجد وقتاً للقراءة؟!* 

ما رأيك لو استمعنا لابن الأعرابي في هذه الجزئية، وأثقُ أنك ستجد بعدها وقتاً لتقرأ فيه.

وابن الأعرابي -كما تعلم صديقي القارئ- إمامٌ من أئمة اللغة في الكوفة، وكان الأمراء وعِليَةُ القوم يحرصون على مجالستِهِ والاستماع إلى دُرره التي طالما أتحفهم بها، 

ويروي أحمد بن أبي عمران أنَّه كان عند أبي يعقوب أحمد بن محمد بن شجاع، فأرسل ابن شجاعٍ غلاماً له لابن الأعرابي يسأله المجيء إليه. 

فعاد الغلام، وقال: قد سألتُه عن ذلك؛ 

فقال لي: عندي قومٌ من الأعراب؛ فإذا قضيتُ أربي معهم أتيت! 

واستطرد الغلامُ قائلاً: وما رأيت عنده أحداً.. إلا أني رأيت بين يديه كتباً يقلِّب فيها؛ فيقرأ في هذا مرة وفي هذا مرة.

وبعد فترة ليست باليسيرة أقبلَ ابن الأعرابي على ابن أبي شجاع، 

فقال ابن أبي شجاعٍ مُغْضَباً: 

قال لي الغلام إنه ما رأى عندك أحداً، وقد قلت له عندي قومٌ من الأعراب؛ فما الأمرُ؟ 

قال ابن الأعرابي بلسانٍ ملؤه الفخر والثقة:

لنا جلساء لا نمَلُ حديثُهم ** ألِبَّاءُ مأمونونَ غيباً ومشهدا

يفيدوننا من علمهم علم من مضى ** وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا

بلا فتنةٍ تُخشى ولا سوء عشرةٍ ** ولا تنقي منهم لساناً ولا يدا

فإن قلتَ أمواتاً فما أنتَ كاذِبٌ ** وإن قلت أحياءً فلستُ مفنِّدا

*يقودنا ذلك إلى أنَّ هذا العالِم ومَن على شاكلته قد ألزموا أنفسهم جدولاً صارماً للقراءة والاستفادة، فلم ينجرفوا لملذات الحياة وبهرجها الخداع، وهذا أحد أسباب نجاحهم في مسعاهم وتحقيق إنجازٍ لم يحققه غيرهم ممن دار في دوامة اللهو واللعب.*

إذا بلغتك مقولة مالكوم إكس *يجهل الناس حقيقة أن كتاباً واحداً قد يغير مجرى حياتهم* فعليك أن تتعرف ولو على جناح السرعة عن ملابسات هذه المقولة الصادقة؛ 

فهذا الشاب الزنجي الذي نشأ في بيئة تمتهن السود وتضعهم في مرتبة دون أقرانهم البيض، وهو ما أدى لضيق هذا الشاب بالبيض ومقتهم طويلاً، ودخل السجن لارتكابه بعض الجرائم، 

*ثم بدأ القراءةَ وهو مسجون، عندها تشكل وعيه وصحح مساره وتعرف على مسالك أخرى للحياة تختلف عن العنف والجريمة،* وقد كان لهذه الفترة تأثير قوي على حياة مالكوم إكس لم يعهدها قبل ذلك، ولذلك فقد اقتنع من أعماقه أن القراءة سبيل التغيير الإيجابي في حياة كل الناس، هذا التوجه كان راسخاً في ذهن كل ناجح ومؤثر في دنيا الناس.

أحمد ديدات العامل في محل بجنوب إفريقيا يقع بالقرب من إرسالية آدمز ميشن (وهو مكان لتدريب وإعداد المبشرين الجدد) 

كان رجلاً عادياً، وكان المبشرون الجدد يأتون للمحل الذي يعمل به للشراء، ومن باب التدريب كان يتقصدون العوام بالأسئلة العقدية المحرجة ليلبِسوا على الناس دينهم، وكان من هؤلاء البسطاء أحمد ديدات، كانوا يسألونه أسئلةً لا يعلم عنها شيئاً، وقد تاقت نفسُهُ للرد عليهم، ولكن كيف؟! وهو لا يملك من العلم ما يرد به عليهم!! 

*فقرر أن يقرأ، كان قرار القراءة هو الذي صنع أحمد ديدات الداعية الإسلامي العملاق،*

يقول ديدات عن ذلك: 

دخلت مخزن المحل، وفتشت فيه عن بعض الكتب؛ فوقعت على كتاب بعنوان (إظهار الحق) وكان قديماً ومهترئاً؛ إذ إن تاريخ طباعته هو 1915 أي قبل ولادة أحمد ديدات نفسه بثلاثة أعوام، 

ويتابع ديدات: لو لم أصادف هذا الكتاب ما كنت لأقوم بما أقوم به من مناظرات ومقارنات مع الآخرين.

*كتاب مثَّل انعطافة تاريخية في حياة ديدات، إنها عظمة القراءة ومنحة الساعين للنجاح،*

فلا ينمو العقل إلا بثلاث: 

- مداومة التفكير، 

- ومطالعة كتب المفكرين، 

- واليقظة لتجارب الحياة، 

وكلها يمكن التدرب عليها من خلال إلزام النفس بمنهج القراءة المستمرة، 

*ليس صحيحاً أن سرعة إيقاع الحياة هو ما يعوق الكثيرين عن القراءة، إلا أنَّ الدعة وحب الكسل وكراهية بذل المجهود هي السبب،*

يقول توماس إديسون: معظم أفكاري اخترعها آخرون لم يكترثوا بتطويرها، 

والسؤال هنا: لو لم يقرأ إديسون هذه الأفكار، كيف كان له أن يطورها؟

*ليس عليك الهروب من القراءة، بل عليك حمل نفسك على قراءة الكتب التي تطوِّر بها من نفسك، وتصقل مهاراتك، وترتقي بك من مدارك الجهل والخمول إلى مراتب أرباب الحكمة والعقول.. النجاح بالقراءة هو سبيل العظماء، فاقرأ لترقى.*

وسوم: العدد 809