إنه عيد المساخر

…وفي عيد المساخر اليهودي (بوريم)، فتح دونالد ترامب كتاب الأسطورة، وبعدما قرأ سفر إستير في التوراة قرر أن عليه واجباً دينياً يفرض عليه الدخول في الأسطورة كي يصير بطلاً إلى جانب الملك الفارسي احشويروش ومحظيته اليهودية استير.

في إسرائيل يحتفلون بعيد البوريم أو المساخر عبر لبس الأقنعة والتنكّر. قام ترامب بلبس قناع استير، وقرر إنقاذ الشعب اليهودي من الإبادة التي كان يعدها كبير وزراء الفرس هامان، معلناً نيّة الإدارة الأمريكية الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل.

وفجأة، حلّ الورع على وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، فأدلى بتصريح غرائبي إلى شبكة CBN التلفزيونية المسيحية قال فيه إنه يعتقد، بصفته مؤمناً، بأن الله أرسل ترامب لإنقاذ اليهود، وأضاف: «أنا واثق من أن الرب يعمل هنا… عندما أرى التاريخ المميز في هذا المكان والعمل الذي تقوم به إدارتنا لضمان أن هذه الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط، هذه الدولة اليهودية، ستبقى».

دعم ترامب لصديقه الحميم نتنياهو لا علاقة له بالانتخابات الإسرائيلية، إنه وحي رباني! هذا ما قاله الوزير المؤمن، وعلينا أن نفتش عن العلاقة بين نبيذ الجولان وبقاء اليهود، إذ يبدو أن الجولان هو مفتاح الخلاص من هامان، وأن على اليهود أن يعيدوا ترتيب سفر إستير في التوراة كي يدخله الأمريكي الأبيض، لأن من يتابع رسالة استير اليوم جاء من الغرب الأمريكي البعيد كي ينقذ شعب إسرائيل من الخطر الفارسي!

اللعبة وصلت إلى عيد المساخر، واللافت في هذا العيد اليهودي ليس مضمونه الديني، لأنه مجرد حكاية أسطورية، بل طقوسه التي تستعير طقوس التنكّر الشعبية التي نجدها في العديد من الأعياد، من عيد البربارة إلى الهلاوين إلى أربعاء الرماد…

والطريف أن الثنائي ترامب-نتنياهو يقوم بتحويل جميع أيام السنة إلى مساخر، فالرجلان يلعبان بالأقنعة، ويضمران إحساساً بتفوق العرق الأبيض المتحالف مع التفوق اليهودي، من أجل الهيمنة والسلطان.

الجنون الأصولي اليهودي-البروتستانتي وصل إلى ذروته، وهو جنون بلا حدود. أمس نقل الإمبراطور الأمريكي سفارته إلى القدس المحتلة، واليوم يعترف بضم الجولان، وغداً سوف يجري ضم المستوطنات اليهودية والمنطقة «ج» إلى إسرائيل، وسيعترف ترامب بهذا أيضاً، لعل تحالفه مع إسرائيل يؤمن انتخابه أربع سنوات جديدة.

زعيمان يلعبان الدين والأساطير من أجل السلطة، هذه هي المعادلة العميقة في العلاقة الخاصة بين الرجلين، لكنها معادلة ما كان لها أن تتخذ هذا الشكل الفاضح لولا هَوَان العالم العربي بأنظمته المستبدة والفاسدة، وفضيحة السلطتين الفلسطينيتين بسلطتيهما الوهميتين.

الموضوع ليس دينياً، رغم كل هذا الغبار الديني الذي يحجب الرؤية. الصهيونية في بنيتها التوسعية العنصرية تجد في الدين ملاذها الأيديولوجي الأخير، بينما تقوم فكرة التفوق الأبيض على معطى فاشي لا مانع من إضفاء نكهة دينية عليه، كما يفعل الصهاينة الأمريكان.

الجوهر هو العنصرية التي تعود إلى المسرح في زمن العولمة وانقلاب القيم وسيادة زمن ما بعد الحقيقة. الميلياردير الأمريكي الذي أتقن صناعة التهريج التلفزيوني يصير رئيساً لأمريكا، والعنصري الإسرائيلي يتعطر مع وزيرة العدل في حكومته بالفاشية ويصول فوق ركام فلسطين، بوحشية البرابرة.

هذه هي صفقة القرن، الصفقة ليست بين إسرائيل والعرب مثلما أوحوا لنا، وصدقهم ملوك الهاوية العربية الأغبياء، الصفقة هي بين إسرائيل وإسرائيل برعاية أمريكية.

جوهر الصفقة هو السلام مقابل الحماية، أي مقابل لا شيء. فكرة السلام مقابل الأرض لم تكن يوماً فكرة جدية، الفكرة الأولى الحقيقية بلورها الليكود في زمن شامير وكانت معادلتها واضحة: السلام مقابل السلام، أي نهددكم بالحرب كي توافقوا على سلامنا. أما الفكرة العبقرية التي تفتقت بها أذهان ملوك العرب فهي السلام مقابل الحماية من الخطر الداخلي، أي من الشعوب، ومن الخطر الإيراني، الذي هو أكبر خدعة لإذلال المنطقة، وهي خدعة بدأت مع الحرب العبثية العراقية الإيرانية.

الثنائي ترامب–نتنياهو، حوّل فكرة السلام مقابل الحماية إلى حقيقة يومية. الحماية مؤجلة طالما بقي الخطر في حدوده الحالية، أما السلام فيعني ابتلاع كم من المهانة لم يكن أحد قادراً على التصور أنه ممكن إلى هذه الدرجة. ابتلعت القدس أولاً، والذي يبتلع ضياع القدس يستطيع أن يبتلع كل شيء، وها هم يبتلعون الجولان وغداً الضفة الغربية وإلى آخر ما لا آخر له…

إنه زمن استير وراعيها الأمريكي الأبيض، والطريف أن الحكاية التوراتية لا تنتهي بنجاة اليهود من الإبادة على يدي هامان، بل تتحول إلى شنق لهامان، وإلى مذابح يقوم بها اليهود ضد أعدائهم.

فالنجاة من مذبحة هامان تقود إلى مذبحة.

بهذا المعنى يحق للناجين الإسرائيليين ذبح أعدائهم، وهم يقومون بهذه الفريضة كل يوم. والطريف أن أسرائيل لا تبتز العالم بصراخ الضحية فقط، بل تبتزه أيضاً بأنها تكرر التاريخ الاستعماري وتستعير لغته العنصرية، محولة نفسها إلى مرآة لوحشية زمن الهيمنة الأوروبية.

لكننا اليوم أمام فصل جديد من انحطاط العرب.

وهو فصل قديم بدأ بسقوط الجولان عام 1967 بطريقة غير مفهومة حتى اليوم، وبتاريخ طويل من الاستبداد جعل من النظام بديلاً عن الوطن، فصار هدف الاستبداد حماية النظام وليس الدفاع عن أرض الوطن.

وحين تصير الأوطان مجرد مطية للاستبداد يضيع كل شيء.

هكذا دخلت سوريا ومعها بلاد الشام في انحطاط مديد وصل إلى ذروته في المقتلة السورية، وفي استباحة الأرض، وصولاً إلى قرار ضم الجولان الذي يعبّر اليوم عن دخول العرب في عصر ظلمات الاستباحة.

صارت الأسطورة ممكنة، عندما تخلى العرب عن صناعة تاريخهم.

وعندما يغيب التاريخ يصنع المنتصرون أسطورتهم على هواهم، وتتقمص إستير على شكل رجل أبيض يقود العالم إلى الخراب.

وسوم: العدد 817