الخلافة في الأرض

بحث قرآني ولون من التفسير الموضوعي 

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليَّاً مرشداً. والصلاة والسلام على سيد الخلق وإمام الهدى سيدنا محمدٍ المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه ودربه واقتفى آثاره إلى يوم الدين وبعد :

فلقد أنزل الله القرآن الكريم هدىً للناس وضياءً، وتعبَّدنا بتلاوته وتدبر معانيه، والتفكر في آياته، والاعتبار بقصصه وأخباره

﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها .

ولقد مضى سلف الأمة على ذلك يفكرون في القرآن ويستنبطون الأحكام ، ويبينون مافيه من الحلال والحرام وما تضمنه من التوجيهات والإرشاد ، فكتبوا التفاسير الكثيرة ، وألّفوا الكتب العديدة ، وأودعوها بعض ما توصلوا إليه من العلوم والفهوم ، وما كشفوه من الأسرار والغوامض ، وذلك استجابة لحاجة عصورهم التي عاشوها ، وحلَّا للمشكلات التي واجهوها ، ولقد بذلو جهوداً مشكورة ، تدل على عظم اهتمامهم بهذا الكتاب الكريم ، وحرصهم على ترسُّم هداه وتوجيهاته في كل شؤون حياتهم .

غير أن القرآن الكريم هو كتاب هذه الأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، وقد أودعه الله مالايحصى من المعاني والتوجيهات والهدايات مما يفي بحاجة البشرية كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ومن ثم كان كل جيل من أجيال الأمة مطالباً بأن يقرأ القرآن ويفكر فيه في مواجهة حاجات عصره وأن يستنبط منه القيم والموازين التي تحكم الحياة وأن يقيم على أساسه خططه ومناهجه ، وأن يترسم في طريقة حياته شعائره وشرائعه ، ليكون على هدى من ربه وبصيرة من أمره.

وتشتد حاجة هذه الأمة في عصرنا الراهن إلى استلهام القرآن في كل شؤونها، وفهمه في مواجهة الحاجات الجديدة ، والتحديدات الكبيرة بعد أن أقصي الإسلام عن الحكم، وأبعدت شريعته عن التنفيذ، وحصر في الشعائر التعبدية والأحوال الشخصية ، واضطرب أمر المسلمين بعد أن خرجوا عن المسار ، فضعفت قوتهم وطمع فيهم عدوهم ، وغزتهم المذاهب المادية ، والأفكار المنحرفة ، فَفَرَّقت جمعهم ، وشتَّتَت شملهم، وجعلتهم شيعاً وفرقاً

﴿ كُلُّ حِزبٍ بِما لديهم فَرِحون .

بل لقد تجاوز هذا الغزو طرح الأفكار المستوردة، إلى التشكيك بقيم الإسلام الخالدة ومصطلحاته ومفهوماته، وذلك بتشويه أهدافها ومقاصدها ، وتحريف معانيها ودلالاتها ، الأمر الذي يتطلب منا أن نعود إلى هذه القيم والمصطلحات من جديد، فنعيد دراستها دراسةً علميةً صحيحة محررين مفهومها تحريراً دقيقاً، معتمدين في ذلك على قرآننا الكريم، وسنتنا النبوية، ولغتنا العربية، وأن نزيل عنها ما لحق بها من التشويه، وأن نعرضها للناس ناصعة البياض كما جاءت لتكون انطلاقة الإسلام الجديدة صافية التصور واضحة الرؤية.

وفي الصفحات التالية دراسة لمصطلح « الخلافة في الأرض » في اللغة والقرآن، وتتبع واستقصاء لاشتقاقاته واستعمالاته ، وتأييد له بما أثر عن الرسول r  في ذلك ، وما ذكره الصحابة رضوان الله عليهم ، لعل ذلك يكون إسهاما في توضيح مدلول هذا المصطلح وتحديد معناه .

والله نسأل أن يجعل عملنا خالصا لوجهه إنه سميع مجيب .

الدكتور أحمد حسن فرحات

جامعة الكويت – كلية الشريعة والدراسات الإسلامية

1/11/1985

الخـلافـة

معنى كلمة « الخلافة »

قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: ([2] ) :

وجمع « خليفة  » : خلفاء ، مثل كريم وكرماء . قال الله :

﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ .

قال أبو جعفر([4] ) .

وقال صاحب المصباح المنير ([6] ) أن « خليفة » - في الآية – إذا كانت بمعنى « مفعول » كان معناها :

إني جاعل في الأرض خلفاء، يخلف بعضهم بعضاً ، لا بقاء لهم .

وإذا كانت بمعنى « فاعل »، فمعناها : يخلفون من كان فيها، ممن هلك .

وذلك أن أهل التفسير ، ذكروا أنه روي أن الأرض: كان فيها خلق من الجن ، فأفسدوا فيها ، فأهلكهم الله .

وعلى هذا ، فالخلافة – بهذا المعنى – هي النيابة عن الجن، في الإقامة في الأرض، وسكناها من بعدهم ([8] ) .

وقال أبو حيان : والأنبياء : هم خلائف الله في أرضه . واقتصر على آدم ، لأنه أبو الخلائف. كما اقتصر على « مضر »، و « تميم » بـ« قيس ». والمراد : القبيلة.

وقال القرطبي ([10] )   .

كذلك نرى الراغب الأصفهاني- بعد أن ذكر النيابة عن الغير لتشريف المستخلف- في معرض تفسيره للخلافة يقول :

وعلى هذا استخلف الله أولياءه في الأرض ، قال تعالى :

﴿ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ﴾ وقال :

﴿ ويستخلف ربي قوماً غيركم ﴾ .

أما ابن تيمية: فقد ذهب إلى أنه لا يجوز أن يكون « الخليفة »: خليفة عن الله تعالى .

قال : « والله لا يجوز له خليفة ، لما قالوا لأبي بكر : يا خليفة الله ! قال : لست بخليفة الله ، ولكني خليفة رسول الله r ، حسبي ذلك .  بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره ، قال النبي r :

« اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا » وذلك لأن الله حي ، شهيد ، مهيمن ، قيوم ، رقيب ، حفيظ ، غني عن العالمين ،ليس له شريك ولا ظهير ، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه .

والخليفة: إنما يكون عند عدم المستخلف- بموت، أو غيبة- ، ويكون لحاجة المستخلف إلى  

الاستخلاف. وسمي « خليفة » لأنه خلف عن الغزو ، وهو قائم خلفه.

وكل هذه المعاني: منتفية في حق الله تعالى ، وهو منزه عنها ، فإنه حي قيوم شهيد، لا يموت. وهو غني، يرزق، ولا يُرزق . يرزق عباده، وينصرهم، ويهديهم ويعاقبهم، بما خلقه من الأسباب، التي هي من خلقه ، والتي هي مفتقرة إليه، كافتقار المسببات، إلى أسبابها. فالله هو الغني الحميد، له ما في السموات، وما في الأرض، وما بينهما.

﴿ يسأله من في السموات والأرض كل يومٍ هو في شأن([12] )

ولا يجوز أن يكون أحد خلفاً منه ، ولا يقوم مقامه ، لأنه لا سمِّيَ له ، ولا كفء له ، فمن جعل له خليفة فهو مشرك به » ([14] ) 

وقال الزجاج : جاز أن يقال : « للأئمة » : خلفاء الله في أرضه ، بقوله U :

﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ﴾ .

ونلاحظ على هذه الأقوال: أنها تجعل الخلافة عن الله للأنبياء، والأولياء، والأئمة ، وتسكت عن بقية الناس .

والخلافة بهذا المعنى : النيابة عن الله معه – سبحانه – لتشريف المستخلف . وهم الأنبياء والأولياء، والأئمة.

وقد ذكر صاحب المصباح المنير ([16] )، فأكله الأسد !!

ففي هذا الخبر فائدتان : إحداهما أنه ثبت بذلك أن الأسد كلب . والثانية : أنه لا يضاف إليه إلا العظيم من الأشياء في الخير والشر .

أما الخير : فكقولهم : أرض الله ، وخليل الله ، وزوار الله . وأما الشر : فكقولهم : دعه في لعنة الله وسخطه وأليم عذابه ، وإلى نار الله وحرِّ سقره » ([18] ) نخرج بالنتائج التالية:

-        إن الخلافة في هذه الآية مهمة إيجابية يكلف فيها آدم وبنوه في هذه الأرض . ومن هنا نرجح أن

« خليفة » - هنا – بمعنى « فاعل » وليست بمعنى « مفعول » ، ولو كانت بمعنى « مفعول » لم يكن معنىً لقول الملائكة :

﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ﴾.

كما أن ردّ الله عليهم بقوله :

﴿ قال إني أعلم ما لاتعلمون

يدل على جهلهم بطبيعة هذا الإنسان وعدم معرفتهم بالحكمة من استخلافه ، غير أن الله سبحانه يكشف لهم عن شئ من طبيعة هذا الإنسان وما وهبه من القدرة على التّعلم وتحصيل المعرفة نظراً لما ميزه به من العقل والحواس فيعلّمه الأسماء كلها التي لاتعرفها الملائكة:

﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ۝ قالو سبحانك لا علم لنا إلاّ ماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم ۝ قال يا آدم أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ([20] ) .

غير أن هذا الإنسان الذي وقع في المعصية قد أعطي القدرة أيضاً على أن يجعل المعصية طريقاً إلى الطاعة فيتوب من خطيئته ويندم عليها ويقبل الله توبته ، وبذلك يستخلص الخير من الشر ويزداد قرباً من الل

﴿ فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ([22] ) .

فالخلافة – على هذا - : عبادة طوعية لله وتسبيح له وتقديس وإصلاح وإعمار لهذه الأرض ، وهي ضد ما ذهبت إليه الملائكة وتوهمته . ولا يطعن في هذا ويضعفه ما يلاحظه الإنسان أحياناً من فساد جزئي ظاهري فهو أمر تقتضيه طبيعة الصراع بين الخير والشر وقد تضمنت الخلافة (إن هذه الخلافة : استخلاف منه تعالى للإنسان في هذه الأرض تشريفاً له وتكريماً ، كما ورد في قوله

تعالى : ﴿ ولقد كرَّمْنَا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفَضَّلْنَاهُمْ على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ([25] ). ي

وكما قال :         ﴿ أولئك كالأنعام بل هم أضل ([27] ) .

فإن نكَلَ عن هذه المهمة أو انحرف في أدائها طائفةٌ من الناس فهذا لا يطعن في أصل استخلاف الإنسان واستعداده وتكريمه . لأنه تكريم باعتبار الجنس لا باعتبار كل فرد في هذا الجنس . ويشهد لهذا قوله تعالى :

﴿ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً ([29] ) .  وكما قال تعالى : ﴿ فإن تَوَلَّوْا فقد أبْلَغْتُكُمْ ما أرْسِلْتُ به إليكُم ويستخلف ربِّي قوماً غَيْرَكُم ولا تَضُرُّونَهُ شيئاً إنَّ ربي على كل شيء حفيظ ([31] ) .

وكما قال في سورة إبراهيم :

﴿ ألم ترَ أن الله خلق السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد ([33] )

فقد جاء قبل هذه الآية :

﴿  ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجائتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين .

فواضح إذن أنه جعلهم « خلائف » بعد إهلاك الظالمين المجرمين قبلهم .

وقد قال الطبري في تفسير هذه الآية : « ثم جعلناكم أيها الناس خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا ، تخلفونهم في الأرض ، وتكونون فيما بعدَهم . لننظر كيف تعملون ، يقول : لينظر ربكم أين عمَلُكُم مِن عَمَلِ مَن هلك من قبلكم من الأمَمِ بذنوبهم وكُفْرِهِم بربهم ، تحذون مثالهم فيه فتستحقون من العقاب ما استحقوا ، أم تخالفون سبيلَهم ، فتؤمنون بالله ورسوله ، وتُقِرُّون بالبعث بعد الممات ، فتستحقون مِنْ ربكم الثوابَ الجزيل » ([35] ) .                                                                                       

وهكذا نرى أن صيغة « خلائف » التي هي في الأصل وصف للبشر الذين يخلف بعضهم بعضاً يستعملها القرآن الكريم استعمالاً خاصاً فيجعلها للأمم المؤمنة التي خلفت الأمم الكافرة بعد أن أهلكها الله بذنوبها .   

وأن هذه الصيغة تدل على أن الأمم الخالفة يجب أن تكون مخالفة في نهجها وسلوكها الأمم المخلوفة وكما دلت على ذلك الآيات المتقدمة :

﴿ وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم

﴿ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إنَّ ربي على كل شيء حفيظ ﴾ .

                                                 

خلافة « خلفاء »

وإذا كانت الآيات السابقة جاءت بصيغة الجمع « خلائف » لتدل على هلاك الكافرين واستخلاف المؤمنين بعدهم ، فإن الآيات التالية جاءت بصيغة الجمع « خلفاء » لمن يخلف أمة المؤمنين بعد انقضاء أجلها وذلك كما ورد على لسان هود u في خطابه لقوم عاد :

﴿ أوَ عَجِبْتُم أن جاءَكُم ذِكْرٌ من ربكم على رجلٍ منكم ليُنْذِرَكُم واذكُروا إذْ جَعَلَكُم خُلَفَاءَ من بعد قومِ نوحٍ وزَادكم في الخلقِ بَسْطة فاذْكُروا آلاء الله لعلَّكُم تُفلحون ([37] ) .

فالمراد بقوله ﴿ إذ جعلكم خلفاء من بعد عادِ ﴾ المؤمنين من قوم هود الذين خلفوا الكافرين بعد أن أهلكهم الله وقطع دابرهم بلالة الآيات السابقة في شأن هود وقومه حيث جاء فيها :

﴿ فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين ﴾ ثمّ يقول : ﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحاً ﴾ .

وهكذا نرى استعمال صيغة « خلائف » في الوراثة الزمنية للأمم الكافرةالتي أهلكها الله ، والتي يجب أن تكون الأمم الخالفة فيها مخالفة للأمم المخلوفة في نهجها وسلوكها ، واستعمال صيغة « خلفاء » في الوراثة الدينية الصالحة لأنها جاءت بعد انقضاء أجل الأمة الصالحة وهذا يعني أن على الأمة الخالفة أن تقتدي بالأمة المخلوفة وأن تسير على نهجها وسلوكها كما نلاحظ أن صيغة « خلفاء » تشير إلى سجايا نفسية في هؤلاء الذين استخلفهم الله كما هو الشأن في كل ما جمع على « فُعَلاء » وكم بينا ذلك من قبل وأنه بالإضافة إلى هذه الخصال والسجايا النفسية التي ترشحهم للخلافة الصالحة، هناك أيضاً إشارة صريحة في الآيات إلى ما أعطاهم الله من قوة جسمية ومادية كما قال في عادٍ قوم هود :

﴿ واذكُروا إذْ جَعَلَكُم خُلَفَاءَ من بعد قومِ نوحٍ وزَادكم في الخلقِ بَسْطة

فهذه الزيادة في الخلق بسطة هي قوة مادية تضاف إلى سجاياهم النفسية المتضمنة في صيغة « خلفاء » ومثل ذلك جاء في شأن ثمود قوم صالح :

﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عادِ وبَوَّأكُم في الأرْضِ تتخذونَ من سهولها قصوراً وتنحِتونَ الجبالَ بيوتاً ﴾ .

فهذا التبوؤ في الأرض والإقدار على التصرف فيها إنما هو إشارة صريحة إلى ميزة وقوة مادية إلى جانب السجايا النفسية التي تفهم من صيغة « خلفاء » .

ثم يُذَكِّرُ كُلاًّ من القومين بهذه الخصائص والميزات ليكون ذلك دافعاً إلى الخلافة الصالحة كما قال لـ« عاد »: ﴿ فاذْكُروا آلاء الله لعلَّكُم تُفلحون ﴾ . وكما قال لـ« ثمود »: ﴿ فاذكروا آلاءَ الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ .

ويستفاد من ذلك أيضاً أن التمكين المادي في الأرض والقدرة على إعمارها ليست هي الهدف من الخلافة، وإنما هي وسيلة لهذه الحياة منحها الله للإنسان لتساعده على أعباء الخلافة التي أناطها الله به ، والتي هي الالتزام بما شرعه الله للإنسان والسير على هداه بما يحقق للإنسان الصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة .

خلافة أمة محمد r :

-       « خلائف الأرض » :

وإذا كانت الأمم يخلف بعضها بعضا خلال التاريخ البشري الطويل فقد انتهت هذه الخلافة إلى أمَّةِ   محمد r ، وليس المقصود هنا بأمة محمد مَن استجاب له وآمن به ، وإنما المقصودُ مَن بُعِثَ إليهم ، وهي أمَّةُ الدَّعْوَةِ حسب الاصلاح المعروف،وهذا ما يؤكده قوله تعالى: ﴿ وهو الذي جعَلَكُم خلائفَ الأرض ورفَعَ بَعْضَكُم فوقَ بعْضٍ درجات لِيَبْلُوَكُم في ما آتاكُم إنَّ رَبَّكَ سريعُ العِقَاب وإنَّه لغفورٌ رحيم([39] ).

وهذا يعن أن على هذه الأمة أن تكون مخالفة في نهجها وسلوكها لمن سبقها من الأمم الكافرة التي أهلكها الله بذنوبها كما هو دلالة صيغة « خلائف » في استعمال القرآن والتي أشرنا إليها من قبل .

وقد قال مكي بن أبي طالب في كلمة « خلائف » في هذه الآية : وقيل هذا لأمة محمد r : لأنهم آخرُ الأمم ، قد خلفوا في الأرض من كان قبلهم من الأمم ، ومحمد r خاتم النبيين ... (« خلفاء الأرض » :

قال الله تعالى :

﴿ أمَّنْ يُجيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ ويكشفُ والسوءَ ويَجْعَلُكُم خُلَفَاءَ الأرض أءله مع الله قليلاً ماتَذَكَّرون ([42] )

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : هذا وعد من الله تعالى لرسوله r بأنه سيجعل أمته خلفاءَ الأرض أي : أئِمَّةَ الناس والوُلاةَ عليهم ، وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُم من بعد خوفهم الناسَ أمْنُاً وحُكْمَاً فيهم ، وقد فعله تبارك وتعالى ولله الحمدُ والمنة (استخلاف المؤمنين كاستخلاف مَن قبلهم :

ويكاد يجمع المفسرون على أن المقصود بمن قبل المؤمنين هم بنو إسرائيل ، ومن هنا كان لابد لنا أن نعرف شيئاً عن استخلاف بني اسرائيل وبالقدر الذي يوضح معنى هذه الآية ويشكف عن المراد بالاستخلاف فيها ، وذلك من خلال النصوص القرآنية نفسها :

يخبرنا الله في القرآن الكريم أن بني إسرائيل كانوا مستضعفين من قِبَل فرعون ، وأنه يريد أن يمن عليهم ويجعلهم أئمةً ويجعلهم الوارثين لفرعون ، وذلك كما في قوله تعالى :

﴿ ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين ۝ ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ماكانوا يحذرون ۝ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ... ([45] ) .

ونلاحظ – هنا – رجاء موسى u باستخلافهم في الأرض بعد إهلاك عدوهم. غير أن موسى u يعلم أن هذه الخلافة لايمكن أن تتحقق بمجرد الرجاء ، وإنما يوجههم إلى طلب شروطها :

﴿ قال موسى لقومهاستعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ([47] )

وعليهم إذن وقبل كل شيء أن يكونوا متقين وصالخين ليستحقوا هذه الخلافة طبقاً لسنن الله .

وهاهو الله سبحانه وتعالى يحقق وعده بإهلاك فرعون وجنوده واستخلاف بني إسرائيل بعد أن نفذوا ما أمرهم به موسى u من الصبر والاستعانة والتقوى حيث يقول تعالى :

﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ماكان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ([49] ) عن ثوبان قال : قال رسول الله r : « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها مازوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ...» وكان إخباره بذلك في أول الأمر قبل فتح مكة ، ثمَّ تحقق ذلك كما أخبر فانتشر الإسلام شرقاً وغرباً أكثر من انتشاره شمالاً وجنوباً وقوضت ممالك الفرس والروم تحت ضربات الفاتحين المسلمين ودخلت بلاد كثيرة في الإسلام حتى أصبحت الخلافة الإسلامية تمتد من اندونيسية شرقاً إلى جنوب فرنسا غرباً .

-       تمكين دينهم الذي ارتضى لهم :

ولقد مكن الله للمسلمين دينهم ، فغدا ديناً قوياً يستعصي على من أراد القضاء عليه ، وذلك بسبب تمامه وكماله ، كما قال تعالى :

﴿ ... اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ...([51] r

.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن « تمكين الدين » الذي وعد الله به المؤمنين في الآية شامل للتمكين في الأرض لأنه لايتصور التمكين في الدين بدون التمكين في الأرض ، وإن كان يتصور التمكين في الأرض بدون التمكين في الدين كما هو مشاهد في الواقع وفي التاريخ ، وكما أشار القرآن إلى ذلك في كثير من الآيات وقد سبق بعضها في قصة عاد وثمود ، والحكمة في هذا التمكين لغير المؤمنين إنما يكون ابتلاءً للكافرين من جانب وعقوبة للمؤمنين من الجانب الآخر ، لأن الله تعالى كما يبتلي بالنقم يبتلي بالنعم:

﴿ ونبلوكم بالخير والشر فتنة ([53] ) .

-       تبديل خوفهم أمناً :

كذلك حقق الله للمؤمنين وعده ، فبدل خوفهم أمناً بعد أن استخلفهم في الأرض ومكن لهم دينهم ، وكل متتبع لتاريخ الدعوة يعرف مقدار الخوف الذي أحاط بالمؤمنين في العهد الملكي ، كما ورد في الصحيحين عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله r وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدةً فقلنا : ألا تدعو الله لنا ؟ ألا تستنصر لنا ؟ قال : فجلس محمراً وجهه ثمَّ قال : « والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل بالمشط فيمشط بأمشاط من حديد مابين لحم وعصب ، مايصرف ذلك عن دينه ، ويؤخذ فتحفر له الحفيرة فيوضع المنشار على رأسه ، فيشق باثنتين مايصرفه عن دينه ، وَلَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لايخشى إلا الله U والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون » ([55] ) .

قال عدي : فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ، لا تخاف إلا الله وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز. ولئن طالت بكم حياة لترون ماقال رسول الله r .

ولا شك أن هذا الذي أخبر به من خروج الرجل ملء كفه من ذهب أو فظة فلا يجد من يقبله تحقق كما ذكر في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز .

وهكذا فقد أنجز الله وعده للمؤمنين الذين كانوا يعانون من الخوف في أول الإسلام ، ثمَّ بدأ هذا الخوف يزول شيئاً فشيئاً بعد أن هاجر المسلمون إلى المدينة ، حتى أصبحوا قوة مرهوبة الجانب ، يسير النصر في ركابها أينما سارت ، ويحسب لهم أعدائهم كل حساب .

خلافة كونية .. وخلافة شرعية :

ومن كل ماتقدم نستطيع أن نميز نوعين من أنواع الخلافة : خلافة كزنية يشترك فيها الناس جكيعا . وخلافة شرعية خاصة بالمؤمنين وحدهم .

والخلافة الشرعية : هي التي ينبغي أن تمسك بزمام الخلافة الكونية لتضبط حركتها ولتوجهها إلى طريق الخير ، وذلك بما تملكه من هدى الله وتعاليم الأنبياء . فلو ترك الأمر للخلافة الكونية وحدها ، لاتَّبع الناس أهوائهم ، ولتنكبوا طريق الحق ، ولظهر الفساد في البر والبحر ، ولقتل الناس بعضهم بعضاً ، وهذا ماكانت تخشاه الملائكة حينما قالوا:

﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك([57] ) ، فلقد خلق السموات والأرض بالحق ، وأنزل الكتاب بالحق ، وعلى الناس أن يفيئوا إلى هذا الحق الذي أنزله الله تعالى حتى لاتفسد الأرض

﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ﴾ .

عليهم أن يفيئوا إلى هذا الحق في عقيدتهم ، فهو الذي يحميهم من فساد التصور وظلام الشكوك ، وانحراف الطريق ، عليهم أن يعلموا أن لاإله إلا الله وأن لو كان معه غيره لفسدت السموات والأرض

﴿ قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ([59] )

وبيَّن في الآية الأخرى أن الفساد في الأرض إنما يكون بتهديم أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله كثيراً ، وقد خصَّ أماكن العبادة بالذكر لأنها المظهر البارز لإقامة الدين وتنفيذ أوامره

﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمَتْ صوامع وبِيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ([61] ) .

ولاشك بأن هذه الخلافة يقوم بأعبائها الأنبياء والرسل في حال وجودهم، كما رأينا ذلك في خلافة    داود u ، ويقوم بها بعدهم الخلفاء والأمراء الذين يقع عليهم الاختيار من قبل أتباع الأنبياء من المؤمنين من أهل الحل والعقد وأهل الفكر والشورى ، ثمّ تبايعهم جماهير المؤمنين على الطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر طالما أنهم ملتزمون بطاعة الله وتنفيذ شرائعه . وهكذا تقوم هذه الخلافة على العهد والميثاق المتضمن التزام المؤمنين بطاعة أولي الأمر في مقابل التزام الأمراء بطاعة الله ، وبذلك تحقق هذه الخلافة وحدة الأمة بتنظيمها العلاقة بين الحاكم والمحكوم بالرجوع إلى شريعة الله وحده في حال التنازع

﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعو الله وأطيعوا الرسول وألي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً ([63] )

والقائد العسكري لابد أن يكون مؤهلاً جسمياً وعلمياً ليستطيع القيام بأعباء مهمته ، ولايمكن أن يرشحه للقيادة العسكرية كونه غنياً صاحب أموال:

﴿ قالوا أنَّى يكون له الملك علينا ولم يُؤتَ سَعَةً من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم ([65] ).

وكذلك الخليفة لابد أن يكون عالما ً ولا يشترط أن يكون أعلم الناس بتفاصيل الأمور ، ولكن لابد أن يكون أبصر الناس بالحق وأكثرهم تمسكاً به ، ولابد أن يكون من أتقاهم:

﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم

لأن الخوف من الله دليل العلم :

﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماءُ

ولابد أن يكون متواضعاً فلا يرى لنفسه فضيلة على سائر الأمة بل هو أقلُّهم في نظر نفسه ، ولكنه في نفس الوقت أقواهم عزماً لتوكله على الله ، كما أنه لايتردد لبصره بالحق وحفاظه عليه . وإذا فُوِّضَ إليه الأمر استفرغ جهده لإقامة القسط واستشار الناس لحسن ظنه بهم فإذا اتضح له الحق لايصرفه عنه صارف » ([67] ) .

ونلاحظ في هذا النص كيف يصحح العباس عم رسول الله r المصطلح لأبي سفيان ، وكيف يجيب   أبو سفيان بالموافقة .

كذلك ذكر الأسيوطي في حسن المحاضرة ([69] ) .

وقال في داود u :

﴿ وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء([71] ).

و قال عن يوسف u :

﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث([73] ) . فهذا ملك لآل إبراهيم، وملك للآل داود »( [75] ) على سبيل المشروعية ؟ أو نجد أن كل هذه النصوص تضيف الخلافة وهذا يدل على أن       

« الخلافة » هي شريعة . هذه الأمة دون الملك ؟

فمن الأحاديث التي تخبر عن تطور هذا الأمر بالنسبة للمسلمين ماذكره أبو داود الطيالسي قال : حدثنا جرير بن حازم عن ليث عن عبدالرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل عن النبي r قال :

« إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة ، وكائنا خلافة ورحمة ، وكائنا ملكا عضوضا ، وكائنا عزة وجبرية وفساداً في الأمة ، يستحلون الفروج والخمور ، والحرير ، وينتصرون على ذلك ، ويرزقون أبداً حتى يلقوا الله U » ([77] ) .

ومما يدل على أن الله قد شرع لنا الخلافة وحدها ابتداءً ماورد في صحيح البخاري من حديث شعبة ، عن قراب القزاز ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله r قال :

« كان بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لانبي بعدي وإنه سيكون خلفاء فيكثرون . قالوا : يارسول الله فماذا تأمرنا ؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم » ([79] ) وقد نقلنا عنه بشيء من الاختصار لتوضيح هذه النقطة.

ولعل من المناسب في نهاية هذا البحث أن نذكر بعض اللطائف والآثار التي تؤكد ما انتهينا إليه من شرعية الخلافة ابتداءً لهذه الأمة دون الملك .

لطيفة من « ثمار القلوب » للثعالبي :

كان أبو الفتح البستي يستحسن قولي في كتاب « المبهج » : الملك : خلافة عن اللع في عباده وبلاده . ولن تستقيم خلافته مع مخالفته .

وفي ترجمة أبي عبد الله المقري التلمساني من « تكملة الديباج » عنه أنه قال : سألني بعض الفقراء عن سوء بخت المسلمين في ملوكهم ، إذ لم يَلِهِم من سلك بهم الجادة ، بل من يغتر بدنياه ، غافل عن عقباه ، لايرقب في مؤمن إلا ولا ذمة ، فأجابته : بأن الملك ليس في شرعنا ، بل هو شرع من قبلنا ، قال تعالى ممتناً على بني إسرائيل : ﴿ وجعلكم ملوكاً ([81] ) . وقال :     ﴿ وهب لي ملكاً ([83] ) .

الخلافة ... والصطلحات الحديثة :

ولابد أن نشير في نهاية هذا البحث إلى مصطلح « الخلافة في الأرض » وهو المصطلح القرآني الذي لايجوز لنا العدول عنه في موضوعه إلى مصطلح آخر .

وأن مايلجأ إليه بعض الناس عن حسن نية أو سوء نية من استعمال مصطلحات أخرى في هذا الموضوع لشبه جزئي أو عارض بينهما وبين الإسلام لايخدم الشريعة الإسلامية وإنما يغشها ويشوشها في ذهن القارئ ، وقد يؤدي إلى تحريفها وهدمها ، وذلك أن لكل نظام أسسه ومصطلحاته ، ومن الخطأ الكبير استعارة المصطلحات من نظام آخر .

عودة على بدء

عرفنا مما تقدم معاني « الخلافة في الأرض » كما وردت في القرآن الكريم ، وأنه قد يراد بها المعنى العام الذي هو استخلاف الجنس البشري بكامله كاستخلاف آدم وبنيه .

وقد يراد بها معنى أخص من المعنى العام الذي هو استخلاف أمة لأخرى ، وأن هذا المعنى الأخص قد يراد به « خلافة خلائف » إذا كانت الأمة الخالفة خلفت أمة كافرة أهلكها الله ، وفي هذه الحالة مطلوب من الأمة الخالفة أن تكون مخالفة لما كانت عليه المخلوفة .

وقد يراد به « خلافة خلفاء » إذا كانت لأمة الخالفة خلفت أمة مؤمنة بعد انتهاء أجلها ، وفي هذه الحالة مطلوب من الأمة الخالفة أن تقتدي بالأمة المخلوفة وتسير على نهجها .

كما عرفنا أيضاً أن خلافة الأمم كلها انتهت إلى أمة الرسول r باعتبارها وراثة الأمم والرسالات ، وأن هذه الخلافة شاملة لخلافة « الخلائف » وخلافة « الخلفاء » وأن هذه الأمة مطالبة بمخالفة الأمم الكافرة التي أهلكها الله كما أنها مطالبة بالاقتداء بالأمم المؤمنة التي انتهى أجلها . ومن ثمَّ فقد قصَّ الله علينا في القرآن الكريم قصص الأمم السابقة لتكون لنا عظةً عبرةً ، ولنكون في خلافة « خلائف » مخالفين للأمم الكافرة في نهجها وسلوكها ، ولنكون في خلافة « الخلفاء » متأسِّين بمن سبقنا من الأمم الصالحة:

﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ .

كما بيَّنَّا أيضاً أن « الخلافة » قد تطلق بمعنى أخص من معنى خلافة أمة لأمة أخرى إذ تطلق على خلافة الحكم والإمارة كما هو الشأن في خلافة داود u .

ولما كانت خلافة « الخلائف » خلافة كونية تتم بإهلاك الأمة المخلوفة وقيام الخالفة مقامها دون أن يكون للخالفة في ذلك إرادة أو اختيار ، وكانت خلافة « الخلفاء » خلافة شرعية تبدأ بوراثة الأمة الصالحة التي انتهى أجلها إلا أنها لا تتم إلا بشروط معينة من الالتزام بتوحيد الله وطاعة أوامره كما بينا ذلك من قبل ، وأن هذا كله مقدور للإنسان لأنه داخل في حدود اختياره وإرادته ، فإننا نجد خلافة « الخلفاء » يتردد أمرها بين مدٍّ وجزر بحسب اقترابها وابتعادها من تعاليم الدين وقيمه ، كما نلاحظ ذلك في تاريخ خلافة هذه الأمة ، وما انتهى إليه أمرها يوم أن تحطمت دولة الخلافة بعد أن فقدت مقوماتها الحقيقية ، وانحرفت عن منهج الله ، فوقعت فريسةً للقوى المتآمرةعليها المتربصة بها . وبذلك طويت صفحة من صفحات القوة في تاريخ هذه الأمة ، وبدأت صفحة من صفحات الضعف نتيجة لانفراط عقد الخلافة وتفرقها إلى دول متعددة .

إن واقع التمزق والتفرق الذي انتهينا إليه ، وواقع الضعف والتخلف الذي نعيشه ، وقد أغرى بنا أعداءنا، وجعل من شذاذ الآفاق قوةً تجترئ علينا وتعيث في أرضنا فساداً ، فتنتهك حرمة مقدساتنا ، وتحتل أجزاء من أراضينا ، وتضرب أطفالنا ونساءنا وشيوخنا دون أن تخشى لوماً أو عقاباً ، ودون أن تعبأ بأعراف أو قوانين . إن ذلك كله لا يمكن أن يكون لو كان للخلافة وجود وللمسلمين كيان يجمع قوتهم ويلم شعثهم .

وإذا كان ما انتهينا إليه نتيجة طبيعية لما اقترفته أيدينا ، بابتعادنا عن مصادر قوتنا ووقوعنا تحت تأثير الغزو الفكري لأعدائنا ، فإن علينا ألا نركن إلى ما نحن فيه من الضعف ، وألا نستسلم للأمر الواقع وألا نيأس من إمكانية تغيير مانسبح فيه من الأوحال ، لأننا نعلم أن تاريخ الأمم والشعوب مدٌّ وجزر وقوة وضعف ، وتقدم وانحطاط ، فما علينا إلا أن نحاول استجماع قوانا ، وشحذ عزائمنا وتدارك مافاتنا من شروط النهضة ومقوماتها .

إن عصر الدول المعتمدة على نفسها ، المكتفية بقوتها ومواردها ، والتي لاترى حاجة للتعاون مع غيرها قد ولَّى إلى غير رجعة . لقد أصبح العالم بفعل التطور العلمي السريع كأنه باد واحد ، لقد قضت الاتصالات السريعة والوسائل العلمية الحديثة والمكتشفات على ماكان من عزلة بين الدول ، فطويت المسافات البعيدة ، وتداخلت مصالح الأمم والشعوب ، فنشأت التكتلات العقائدية والفكرية ، والتحالفات السياسية ، وام يعد مكان للدول المنعزلة والدويلات الصغيرة في عالم الكبار . إن هذا التطور جاء ليؤكد ما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرناً حين أقام دولته على أساس العقيدة ، وجعل أمته تضم شعوباً وقبائل متعددة ، تجمعها الأخوة الإسلامية فكانت الخلافة الإسلامية خلال التاريخ المظلة التي استظل بها المسلمون ، والقوة التي حمتهم من بطش الغزاة .

إن مانراه في واقعنا المعاصر من قيام دول كبرى تضم شعوباً متعددة تجمعها عقيدة واحدة كالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة ، وما نراه من تكتلات إقليمية وتحالفات سياسية وأسواق تجارية تجمع دولا متعددة تربطها مصالح مشتركة يؤكد لنا أن للخلافة الإسلامية مكاناً في عالمنا ، فالبد لنا أن نسعى من جديد ليكون للمسلمين ما ينظم شملهم ، ويحقق مصالحهم ، ويحفظ وجودهم ، ولن نجد مثل ذلك إلا في الخلافة .

[2]  - الاستغناء : ورقة : 69 – مخطوطة تركية - .

[4] - انظر معاني الأبنية في العربية للدكتور السامرائي 165 – 171 بتصرف .

[6]  -  الهداية إلى بلوغ النهاية – مخطوطة مدريد – ورقة : 27 .

[8]  - تفسير ابن كثير: 1/100 وإسناد هذا الخبر حسن .

[10]  - البيضاوي : 22 .

[12]  - الزخرف 43

[14]  - مسند أحمد : 5/277 والفتح الرباني : 24/51 وابن ماجه في الفتن : 34 – وقد قال صاحب الفتح الرباني في تخريجه : رواه الحاكم في المستدرك عن خالد الحذاء عن أبي قلابة بأطول من هذا . وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي ، وأورده ابن ماجه عن خالد الحذاء أيضا بلفظ قريب وقال في الزوائد : هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات . وهذا الحديث مما طعن فيه ابن الجوزي وذبَّ عنه الحافظ في القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد .. » .

[16]  - الحديث في مجمع الزوائد : 6/19 وقال : رواه الطبراني مرسلا وفيه زهير بن العلاء وهو ضعيف .

[18]  - البقرة : 30 .

[20]  - البقرة : 35-36 .

[22]  - البقرة : 38-39 .

[24]  - الإسراء : 70 .

[26]  - الأعراف : 179  .

[28]  - فاطر : 39 .

[30]  - هود : 57 .

[32]  - إبراهيم : 19 .

[34]  - الطبري : 11/94 .

[36]  - الأعراف : 69 .

[38]  - الأنعام : 165  .

[40]  - المجلد الأول من الهداية إلى بلوغ النهاية – مخطوطة الرباط – ورقة : 44 .

[42]  - النور : 55 .

[44]  - القصص : 5-7 .

[46]  - الأعراف : 128 .

[48]  - الأعراف : 137 .

[50]  - المائدة : 3 .

[52]  - الأنبياء : 35 .

[54]  - انظر فتح الباري 7 / 164-165 .

[56]  - البقرة : 30 .

[58]  - الأنبياء : 22 .

[60]  - الأنبياء : 22 .

[62]  - النساء : 59 .

[64]  - البقرة : 242 .

[66]  - انظر « في ملكوت الله » للفرهي : 29 – 30 .

[68]  - حسن المحاظرة : 2/180 .

[70]  - البقرة : 251 .

[72]  - يوسف : 101 .

[74]  - الفتاوى : 35/33 .

[76]  - الحديث في مجمع الزوائد 5/189 وقال:رواه الطبري عن معاذ وأبي عبيدة ..قال وفيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة لكنه مدلس،وبقية رجاله ثقات

[78]  - أخرجه البخاري 6/360 في الأنبياء ، ومسلم برقم 1842 في الإمارة .

[80]  - المائدة : 20 .

[82]  - ص : 35 .

[83]  - يراجع في هذه اللطائف والأخبار كتاب « التراتيب الادارية » لعبد الحي الكتاني .

 

وسوم: العدد 818