الأمة في دلالتها العربية والقرآنية

‏الحمد للَّه نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد اللَّه فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ‏ولياً مرشداً، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير سيدنا محمد وآله وصحابته، ومن دعا بد‏عوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين وبعد:

‏فإن المراقب العادي لما يجري في العالم من أحداث، لا يستطيع أن يتجاهل ما يتعرض له الإسلام من حرب وكيد ، وما يعانيه المسلمون من ظلم واضطهاد، كما أن الباحث المتأمل لا يستطيع أن يغمض عينية عن حقيقة هذه الحرب وأهدافها، وعن مجالاتها وأبعادها، وأنها لا تعدو في حقيقتها كونها حرباً صليبية يهودية شيوعية شاملة، استنفر لها العدو كل ما يملك من طاقة، ‏وجهد، ووضع في خدمتها كل ما وصل إليه العقل العلمي المبدع من اكتشاف واختراع، وشحن نفوس أبنائه وجنده بكل ما تختزنه الصليبية واليهودية والشيوعية من حقد دفين على هذه الأمة .

‏وبناء على ما تقدم، فإن الغزو الفكري الغربي قد وصلت طلائعه إلى بلادنا، ولا نكاد نجد مجالاً من مجالاتنا إلا وقد تأثر منه بنصيب، حتى في المجالات التي تعتبر من أخص خصائصنا، فإننا نرى الغزو الفكري يحاول محاصرتها واقتحامها، بينما لا يعرف الكثير منا أن العدو قد وصل إلى هذه المواقع؛ لأنه مشغول عن ذلك بتوافه الحياة، غارق في أوهامه وأحلامه، لا يشعر بتدبير العدو وخطره، وأن عليه أن يخوض معه معركة حاسمة في كل ميدان، وأن عليه أن يعد لهذه المعركة التاريخية عدتها، وأن يحسب لها حسابها.

‏بل إن من أظهر آثار هذا الغزو الفكري في بلادنا ما نشاهده من بعض شبابنا وأبناء جلدتنا، والذين يتكلمون لغتنا، يولون وجوههم شطر الحضارة المادية الغربية، يطوفون حول أصنامها، ويخدعون ببريقها، ويتغذون من ‏ثقافتها، يساعدهم في ذلك هوىً في نفوسهم، وجهل بثقافتهم ودينهم، وثمنٌ بخسٌ من متاع الحياة يبيعون به أمتهم وحضارتهم.

‏لقد وصل الغزو الفكري إلى مجالنا الديني، وثقافتنا الإسلامية، وإنّ العدو يركز كل جهوده على هذا المعقل الحصين الذي ما زال يحفظ هذه الأمة، ويمنعها من السقوط .

‏وعلى الأمة أن تحول دون سقوط هذا المعقل بكل ما أوتيت من قوة، وإلاّ فإن الكارثة نصوف تكون مروّعة.

‏ومن مظاهر هذه الغارة الغربية على ديننا وثقافتنا ما يقوم به المستشرقون من بحوث ودراسات في الثقافة الإسلامية وعلومها، ومن نشر لبعض المخطوطات المتصلة بها، وما يصاحب ذلك كله من دسٍّ وافتراء وتحريف في النصوص، ودلالتها، ومن عبثٍ بالمصطلحات الإسلامية وتشويهها.

‏بل إنهم ليبعدون كثيراً فيما يذهبون إليه من أحكام، وما يتوصلون إليه من نتائج، حتى إنهم كثيراً ما يبيحون لأنفسهم حق الفتيا في «العربية» و«الإسلام» في جرأة غريبة ومنطقٍ عجيب.

‏ولعل خير مثال نقدمه على ذلك ما ورد بشأن مصطلح «الأمة» _ الإسلامي _ في دائرة المعارف الإسلامية، والتي هي عمل من أعمال المستشرقين العلمية، وفي موضوع من أوسع موضوعات الثقافة الإسلامية وأخطرها، لنرى نموذجاً واحداً من نماذج كثيرة تحفل بها كتب المستشرقين وأعمالهم ودراساتهم، وكيف تشكل مثل هذه الأعمال خطراً على ثقافتنا الإسلامية وديننا الحنيف، ولِنَتَبَيَّنَ مدى تقصيرنا في سدِّ مثل هذه الثغرات التي ينفذ منها عدونا إلى ما يريد .

‏الدكتور أحمد حسن فرحات

بين يدي البحث

‏بحث «الأمة في دلالتها العربية والقرآنية» كتبته منذ عِدَّة سنوات، وشاركتُ به في اللقاء الفكري الكبير الذي دعَت إليه الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض، والذي انعقد تحت شعار «الإسلام والحضارة».

‏والذي دفعتي إلى كتابة هذا البحث وغيره من البحوث المشابهة _ والتي كنت بدأت نشرها في مجلة حضارة الإسلام الدمشقية تحت عنوان «مصطلحات قرآنية» _ ما لمستُه من غموض يلفّ هذه المصطلحات في أذهان كثير من المنتسبين إلى الثقافة والعلم في عالمنا المعاصر، وذلك نتيجة ابتعادهم عن معين الثقافة الإسلامية الأصيل، ووقوعهم تحت تأثر التحريف العلمي، والتشوية الثقافي الذي تمارسه دوائر الاستشراق الماكر من خارج الحدود، ودوائر التغريب الحاقد من داخل الحدود ..

‏ويعتبر مصطلح «الأمة» الذي نعالجه في هذا البحث نموذجاً من نماذج كثيرة يلتقي عليها أعداء الأمّة _ في الداخل والخارج _ بالتشويه والتحريف _ مثيرين حوله غبار الشكوك والأوهام تارة، ومحاولين تجريده من معناه الإسلامي تارة أخرى .

‏فها هم المستشرقون في «دائرة المعارف الإسلامية» يعرضون له مشككين في أصله العربيّ، ومحاولين رَجْعه إلى أصل عبريٍّ أو آرامي بحجة أن «الأمة» _ في اللغة العربية _ لفظ مشترك يأتي بمعانٍ مختلفة، وأن هذه المعاني لا تربطها صِلة اشتقاقية في أصل المعنى اللغوي . . ثم يعرضون للمعنى الإسلامي للأمة واستعمالات القرآن الكريم، ويثيرون حولها الشبها‏ت والشكوك، ويتهمون الرسول e باتهامات عجيبة تدل على جهل عظيم وحقد لئيم. .

‏أما في داخل الحدود فكثيراً ما يثور الجدل حول مفهوم «الأمة» ومقوّماتها، وهل يكون الدّين مقوّماً من تلك المقومات أو لا يكون ؟ وهل «الأمة» _ الواردة في القرآن _ يقصد بها «الأمة العربية»، أو «الأمة الإسلامية» ؟ بل إن هناك محاولات جادة لتفريغ مصطلح «الأمة» من مضمونة الإسلاميّ، وإعطائه مفهوماً اجتماعياً لا علاقة له بالإسلام لا من الناحية النظرية ولا من الناحية التاريخية الواقعية، وكما اطّلعت على كتاب صدر مؤخراً في بيروت بعنوان «مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ» .

‏ومن هنا كان لا بد لهذا البحث أن يبدأ بعرض لما قاله المستشرقون في دائرة المعارف الإسلامية لتصوّر مدى التشوية والتحريف الذي يمارس ضدّ الثقافة الإسلامية، ثم نعرض للأمة ومعناها في اللغة العربية مفندين ادعاءات المستشرقين، ثم نعرض لمعاني الأمة في القرآن الكريم، وللمعنى الإسلامي للأمة، ثم نعرض لموقف الإسلام مما يسمّى بمقومات الأمة، ومن اللّه نستمد العون والتوفيق، والحمد للَّه رب العالمين .

«الأمة» في دائرة المعارف الإسلامية

‏جاء في دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 411- 414 عن مصطلح «الأمة» _الإسلامية ما ملى :

أمة: هي الكلمة التي وردت في القرآن للدلالة على شعب أو جماعة، وهي ليست مشتقة من الكلمة العربية «أمّ»، بل هي كلمة دخيلة مأخوذة من العبرية «أمّا»، أو من الآرامية «أمّيثا»، لذلك فلا صلة مباشرة بينها وبين كلمة «أمة» التي تدل على معان أخرى، مثل: حين من الزمن - ‏سورة هود: 8 ‏_ وسورة يوسف: 45 ‏_ أو الجيل، وهذه نجدها في القرآن أيضاً سورة الزخرف: 22 ‏وما بعدما.

‏وقد تكون الكلمة الأجنبية دخلت لغة العرب في زمن متقدّم بعض الشيء _ انظر ما يقوله هوروفتز عن نقش الصفا رقم 52 ‏ص: 407- ومهما يكن من شيء فإن محمداً أخذ هذه الكلمة واستعملها وصارت منذ ذللك الحين لفظاً إسلامياً أصيلاً.

‏والآيات التي وردت فيا كلمة «أمة» _ وجمعها أمم _ في القرآن مختلفة المعنى بحيث لا يمكن تحديد معناها بالتدقيق، على أن مما لا شك فيه أنها تدل دائماً على فئة أو طائفة من الناس، تربطهم أوامر الجنس أو اللغة أو الدين، وهم داخلون فيمن سيحاسبهم اللَّه على ما كسبوا في هذه الحياة، ونجد دلائل تؤيد هذا المعنى حتى في الآيات التي وردت فيما كلمة «أمة» ‏من غير نسبة إلى شيء ما، مثل آية /164/ من سورة الأعراف، وآية /23/‏ من سورة القصص.

‏ويطلق لفظ «الأمة» للدلالة على الجيل في آيات متفرقة - سورة الأعراف: 38- وسورة فصلت: 25 ‏_ وسورة الأحقاف: 18‏_ بل وعلى جميع الكائنات الحية_ الأنعام: 38- ويراد بهذا اللفظ دائماً عند إطلاقه على هذه الكائنات أنها داخلة نيمن سيُحْشرون للحساب، وأنها أهل للجزاء.

وأطلق لفظ «الأمة» شذوذاً في آية واحدة _ سورة النحل: 120_ للدلالة على فرد هو إبراهيم، ومعنى لفظ «الأمة» _ هنا _ أيضاً: الإمام، كما يقول علماء اللغة، أو أن إبراهيم سمّي «أمة» بصفته رئيس الجماعة التي أنشأها، وذلك بإطلاق لفظ الكل على الجزء .

‏وفيما عدا هذا يدل لفظ «الأمة» دائماً على جماعات كبيرة، أو على الأقل على جماعات تنطوي في غيرها أكبر منها.

‏وقد أرسل اللَّه لكل أمة رسولاً _ الأنعام : 42 ‏_ يونس: 47 ‏_ الرعد: 30 ‏_ النحل: 43، 63 ‏_ المؤمنون: 45 ‏_ العنكبوت: 18- غافر: 5 _ أو نذيراً: فاطر: 23 ‏، 42 ‏_ يهديهم إلى الصراط المستقيم، ولكن هؤلاء الرسل أوذوا وكُذِّبُوا ، كما وتق لمحمد _ المؤمنون: 44 ‏_ والعنكبوت: 18 _ وغافر: 5 _ ولذلك سيكونون يوم القيامة شهداء على من كذّبهم وآذاهم _ النساء: 40‏_ النحل: 84، 89_ القصص: 75_ البقرة: 142_، وكل أمة ستحشر للحساب: الأنعام: 108 ‏_ الأعراف: 37‏_ يونس: 45 _ الحجر: 5_ المؤمنون: 43 ‏_ النمل: 83، ‏الجاثية: 27.

وفي الأمم المختلفة قوم أجابوا دعوة الرسل فاهتدوا إلى الصراط المستقيم، وآخرون لم يؤمنوا بما جاؤوا به _ النحل: 36 ‏_ ويصدق هذا بنوع خاص على ‏أهل الكتاب، ويسمى المهتدون من أهل الكتاب أمماً_ آل عمران: 113 وما بعدها، - المائدة: 65، ‏الأعراف: 159  ‏_ البقرة: 128، 134 _ ‏الأعراف: 167، 181_ هود: 48‏_ وهم طوائف صغيرة في جماعات كبرى.

‏وكثيراً ما يتعرض محمد لبحث مسألة اختلاف الناس أمماً بعد أن كانوا أمة واحدة، ويرى أن السبب الحقيقي لهذا الاختلاف هو أرادة اللّه التي لا نحيط بها: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس: 19]، وانظر سورة المائدة: 48 ‏_ وهود: 118 _ والنحل: 93‏_ والشورى: 8 ‏.

‏ويقال أحياناً إن سبب الاختلاف هو بغي الناس وشقاقهم_ البقرة: 213 _ الأنبياء: 93 ‏_ المؤمنون: 53_ .

‏وفي آية أخرى يرجع السبب إلى انقسام بني إسرائيل إلى اثنتي عشرة أمة _ الأعراف: 60، ‏وانظر أيضاَ: 168_.

ويظهر أن أقوال محمد هذه، وفيها من الخطابة أكثر مما فيها من المنطق إنما كانت لم جابة على اعتراضات أثار ها خصومه من أهل الكتاب، وما كان النبي ليتعرض لهذه السألة الصعبة من تلقاء نفسه.

‏أما فيما يتعلق بأمة محمد خاصة، فنستطيع أن نتبدل بعض الاختلاف، والتبدل في معنى كلمة «أمة»، والمسألة _ هنا_ أسهل لأننا نعالج إلى حد ما مسألة تاريخية.

‏كان محمد في أول رسالته يعتبر العرب عامة، ومواطنية من أهل مكة أمة قائمة بذاتها، وكما أن اللَّه أرسل رسله ومنذريه إلى الأمم السالفة، فهو قد أرسل محمداً ليبلغ رسالة اللَّه إلى الأمة العربية، ويبين لها طريق النجاة، ولم يكن قد بعث فيها رسول من قبل، وقد كُذِّبَ وأوذي أشدَّ الإيذاء، شأن من سبقه من الرسل.

‏وبعد أن قطع النبي علاقاته مع أهل مكة الوثنيين، وهاجر هو وأصحابه إلى المدينة، أسس جماعة جديدة تجعل أهل المدينة جميعاً جماعة ‏سياسية واحدة ‏بما فيهم المسلمون، ومن لم يستجيبوا إلى دعوته الدينية، وينص كتاب النبي بين المهاجرين والأنصار الذي وضعت فيه أسس هذا الحلف نصاً صريحاً على أن أهل المدينة بما فيهم اليهود يكوّنون أمة _ ابن هشام: 341- 342، ‏وما بعدها، على أن الصيغة السياسية الغالبة في هذه الأمة الجديدة إنما كانت مؤقتة.

فلم يكد محمد يُحِسُّ أن مركزه قد توطد في المدية، ويرى انتصاره في حروبه مع كفار مكة حتى استطاع أن يخرج من جماعته السياسية الدينية أهل ‏المدينة وخصوصاً «اليهود» الذين لم يعتنقوا الدين الذي جاء به، وبمرور الزمن صارت أمته تتألف من المسلمين وحدهم، وصار يعتبر المسلمين أمة، ويؤكد صفاتهم الخلقية والدينية _ آل عمران: 104 _ 110 _ ويعتبرهم غير أهل الكتاب الذين كان محالفاً لهم .

‏وكان من أثر قطعه للصلة بأهل الكتاب أن بدأ يميل شيئاً فشيئاً إلى أهل مكة، وإلى الكعبة مركز عبادتهم_ البقرة: 119 ‏وما بعدها وخصوصاً: 122، والحج: 35، 66_.

‏وإنما كان رجوعه إلى فكرته الأولى في إنشاء أمة تشمل العرب جميعاً رجوعاً ظاهرياً، فالحقيقة أن النتيجة الأخيرة التي وصل إليها تختلف اختلافاً جوهرياً عن النقطة التي بدأ منها، فإن فكرة إنشاء أمة عربية، وهي الفكرة التي أخذها محمد أول الأمر قضية مسلمة لم تتم إلا بعد جهد عظيم، على أنه إذا كانت الأمة التي أنشأها أول الأمر هي من العرب، فقد كان هذا أمراً ثانوياً.

‏أما الأمر الجوهري، فهو الأساس الديني الذي قامت عليه، فبعد أن كانت أمة من العرب صارت أمة من المسلمين، ولا عجب أنه لم يكد محمد يموت حتى انتشرت إلى ما وراء جزيرة العرب، وأصبحت بمر الزمن وحدة كبيرة تشمل أجناساً وأمماً مختلفة.

الأمة .. واللغة العربية

‏أصل المعنى اللغوي:

يرى أبو البقاء في كلياته: 1/ 301: أن «الأمة» - في الأصل -: المقصود، كـ «العمدة»، و«العُدّة» في كونهما معموداً ومعَدّاً.

‏وهذا يعني أن «الأمة» - ‏عند أبي البقاء - بمعنى امم المفعول، ولم أر أحداً من اللغويين - فيما علمت - تكلم على الوزن الصّرفي لكلمة «أمة» غير أبي البقاء، لكن يُفهم من المعاني التي ذكرها علماء اللغة أن «الأمة» قد تكون بمعنى اسم المفعول - كما هو رأي أبي البقاء - وقد تكون بمعنى اسم الفاعل، وسنوضح ذلك فيما بعد إن شاء اللّه.

الاشتقاق اللغوي:

‏وإذا كانت «الأمة» بمعنى المقصود فإن اشتقاقها من «الأم» بمعنى: القصد، وهذا ما أكده صاحب لسان العرب حيث قال: الأمة - في اللغة -: من القصد، يقال: أممت إليه: إذا قصدته، ويشهد لقول صاحب اللسان قوله تعالى: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: 2]، أي: قاصدين، إلا أن الأمر الذي يلفت الانتباه أن «الأمة» - في اللغة - تتصرف في معان كثيرة، كما جاء في كتاب «بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: 2/ 29» للفيروزابادي صاحب القاموس حيث قال:

‏الأمة - لغة -: الرجل الجامع للخير، والإمام، وجماعة أرسل إليهم رسول، والجيل من كل حي، والجنس، ومن هو على الحق مخالف لسائر الأديان، والحين، والقامة، والأم، والوجه، والنشاط، والطاعة، والعالِم، ومن الوجه: معظمه، ومن الرجل: قومه، وأمَّة اللّه تعالى: خلقه» .

‏وإن تصرف الكلمة في هذه المعاني المتعددة هو الذي دفع المستشرقين إلى الزعم بأن الكلمة دخيلة في العربية، وأنها ليست مشتقة من «الأَمّ» بمعنى القصد، حيث لم يجدوا صلة اشتقاقية بين هذه المعاني على حد قولهم، ومن ثم حاولوا أن يلصقوها بالعبرية أو الآرامية .

‏الأصل الذي يجمع هذه المعاني:

‏يرى صاحب لسان العرب أن تلك المعاني المتعددة لكلمة «أمة» ترجع كلها إلى معنى القصد حيث يقول في ذلك: «وأصل هذا الباب كله من القصد، يقال: أممت إليه: إذا قصدته، فمعنى «الأمة» - في الدين -: أن مقصدهم مقصد واحد، ومعنى «الأمة» في النعمة-: إنما هو الشيء الذي يقصده الخلق ويطلبونه، ومعنى «الأمة» - في الرجل المنفرد الذي لا نظير له -: أن قصده منفرد من قصد سائر الناس، قال النابغة:

حَلَفْتُ فَلَمْ أتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيَبةً                وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أمَّةٍ وهُو طَائِعُ

‏ولو أن صاحب اللسان تابع الكلام على بقية المعاني لأعفانا من كثير من العناء في هذا الموضوع، ولكنه مع الأسف لم يستوعب كل المعاني السابقة مما يجعل مهمتنا أكثر صعوبة وتعقيداً، وسنحاول فيما يلى اكشاف الصلة الاشتقاقية الجامعة لمعاني كلمة «الأمة» مستعينين في ذلك بما ترك لنا علماء اللغة والمؤلفون فيها من إشارات وأمارات.

‏تصنيف المعاني المختلفة ضمن مجموعات:

إن نظرة مدققة في المعاني المتعددة التي أشرنا إليها تفيد بإمكان تصنيف تلك المعاني في أربع مجموعات على النحو التالي:

المجموعة الأولى: تكون «الأمة» فيها بمعنى الجماعة، وتشمل: الجماعة من الناس - أتباع الأنبياء - جماعة العلماء - مَنْ أُرسل إليهم الأنبياء من كافر أو مؤمن - الجيل والجنس من كل حي - إلى غير ذلك من أنواع الجماعات التي ذكرها علماء اللغة .

المجموعة الثانية: تكون «الأمّة» فيها بمعنى «الدين»، أو «الملّة»، أو «الطاعة»، وهي ألفاظ متقاربة في !لمعنى.

المجموعة الثالثة: تطلق «الأمّة» على رجل وحد إذا كان على دين الحق مخالفاً لسائر الأديان، أو كان لا نظير له، أو كان رجلاً جامعاً للخير، أو عالماً، أو قدوة، أو إماماً، أو ربانياً، وهي كلها ألفاظ شبه مترادفة، تعبر عن حقيقة واحدة.

المجموعة الرابعة: تكون «الأمّة» بمعنى «الحين»، أو «الزمن»، أو «السنين».

المجموعة الخامسة: تكون «الأمّة» أسماء لأعضاء في الإنسان كـ«الوجه»، و«القامة».

‏ويلاحظ أن المجموعات الأربعة الأُوَل هي التي ورد استعمالها في القرآن الكريم، ومن ثم سينصب جهدنا واهتمامنا عليها دون المجموعة الخامسة، والتي يكفي أن نشير فيها إلى أن «الوجه» و«القامة» ليسا بعيدين عن معنى  «القصد» ‏الذي اشتقت منه «الأمة»، وذلك أن «الو جه و«القامة» كثيراً ما يعبران عن الجهة التي يقصدها الإنسان، وهكذا يقال‏: لا أمّة لبني فلان، أي: ليس لهم وجه يقصدون إليه، لكنهم يخبطون خبط عشواء.

ونعود الآن إلى المجموعات الأربع لنرى كيف يمكن رجعها إلى أصل واحد:

‏المجموعة الأولى: أن تكون «الأمة» فيها بمعنى الجماعة:

‏اتفق اللغويون جميعاً على أن معنى «الجماعة» هو المعنى الأصلي لـ «الأمة» وأن المعاني ‏الأُخَر يمكن ردّها إلى ذلك المعنى الأصلي:

‏قال الراغب الأصفهاني في مفرد اته: «الأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دينٌ واحد، أو زمانٌ واحد، أو مكانٌ واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً أو اختياراً».

وقال أبو حاتم الرازي في كتابه «الزينة في الكلمات الإسلامية العربية»: «الأمة: أصلها الجماعة من الناس والدواب والطير - أي جماعة - وأصله: الاجتماعُ على الشيء وعلى حالة واحدة».

وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن: «أصل «الأمة»: الصنف من الناس والجماعة .

‏أما كيف صارت «الأمة»: الجماعة، وصلة ذلك بأصل الاشتقاق، فنجده عند أبي البقاء والطبري والحكيم الترمذي:

‏يقول أبو البقاء: «الأمة - بالضم - في الأصل -: المقصود، كالعُمدة والعُدّة في كونهما معموداً ومعداً، وتسمى بها الجماعة من حيث تؤمّها الفرق».

‏ويقول الحكيم الترمذي في كتابة «تحصيل نظائر القرآن» /82/-: «فالأمة: هي الجماعة التي يؤمّها الناس ويقصدونها»، ثم يقول: «وإنما صارت «الأمة» - في هذا المكان -: الجماعة؛ لأن الذي يقصده الناس ويبصرونه: انما يبصرون الكثرة المجتمعة حتى يقصدونها».

‏ويلاحظ تقارب قول أبي البقاء مع قول الحكيم الترمذي، وأن «الأمة» - عندهما - بمعنى اسم المفعول .

‏أما الطبري، فيفهم من قوله: إن « الأمة » بمعنى اسم الفاعل، وذلك حينما يقول:

«‏وأصل «الأمة»‏: جماعة من الناس تجتمع على دين واحد، وملة واحدة... ثم تستعمل في معانٍ ترجع إلى معنى الأصل»، وكأن المعنى - على قول الطبري -: إن «الأمة»: هي الجماعة التي تقصد الدين وتلتقي عليه.

المجموعة الثانية: وتكون «الأمة» فيها بمعنى الدين أو الملة.

وكما اتفق علماء اللغة على أن «الجماعة» هو الأصل في معاني «الأمة» كذلك اتفقوا على أن «الأمة» تكون بمعنى «الدين» .

‏قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: الأمة: الدين، وحكى أبو زيد: لا أمة له: لا دين له.

وقال أبو حاتم الرازي في كتاب «الزينة في الكلمات الإسلامية العربية» - مخطوطة معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة - قال أبو عبيدة: أمّة واحدة: ملّة واحدة، ويستدلون على ذلك بيت النابغة ‏المشهور:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً                     وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع

يقصد بـ«ذو أمة»: ذو دين.

‏أما كيف صارت «الأمة»: الدين أو الملة، فنجده عند أبي البقاء والطبري وابن قتيبة.

‏يقول أبو البقاء: وتطلق - أي الأمة - على الدين والملّة والطريقة التي تؤم، فهو على أصله السابق: في أن «الأمة» بمعنى اسم المفعول.

أما أبو جعفر الطبري فيقول: والأمّة: الدين، والأصل أنه يقال للقوم يجتمعون ‏على دين واحد: أمّة، فتقام «الأمة» مقام الدين، وكذلك تعليل ابن قتيبة قريب من تعليل الطبري.

ومما هو جدير بالذكر أن «الدين» المقصود في تعريف الطبري يراد به التدين العملي الذي يتمثل في السلوك الإنساني، ويؤيد ذلك أن «الأمّة» ترد بمعنى «الطاعة»، و«الطريقة» فهما تفسير للدين المراد هنا.

المجموعة الثالثة: وتكون «الأمّة» فيها بمعنى الرجل المنفرد:

‏فقد جاء في لسان العرب: أن «الأمّة»: كل من كان على دين الحق مخالفاً لسائر الأديان، فهو أمّة وحده... و«الأمّة»: الرجل الذي لا نظير له... و«الأمّة»: الرجل الجامع للخير، وذكر كثير من اللغويين الحديث الوارد في - زيد بن عمرو بن نفيل - وأنه يبعث يوم القيامة أمّة وحده، ويقول أحمد بن فارس في معجم مقاييس اللغة: والأمّة: الإمام، ونقل أبو حاتم الرازي أن «الأمة»: القدوة والإمام.

‏ولا شك بأن هذه المعاني والألفاظ تعبر عن حقيقة واحدة .

‏أما كيف صارت «الأمّة»: الى جل المنفرد، فهذا ما نجده عند صاحب اللسان، والراغب الأصفهاني والطبري، وابن قتيبة، وأبي حاتم الرازي، وأبي البقاء.

‏يقول صاحب اللسان: ومعنى «الأمة» في الرجل المنفرد: إن قصده منفرد من قصد سائر الناس.

‏ويقول الراغب الأصفهاني في تفسر قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: 120]، أي: قائماً مقام جماعة في عبادة اللّه، نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة.

‏ويقول أبو جعفر الطبري: فالأمّة بمعنى «الإمام»، و«معلّم الخير» إنما جاز تسمية الواحد فيها باسم الجماعة؛ لاجتماع أخلاق الخير – الذي يكون في الجماعة المفرَّقَة – فيه، كما يقال: فلان أمّة وحده.

وأما ابن قتيبة فيقول: ثم تصير «الأمّة»: الإمام، والرباني، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ [النحل: 120]، أي: إماماً يقتدي به الناس؛ لأنه ومن اتبعه أمّة، فسمي أمَّة؛ لأنه سبب الاجتماع، وقد يجوز أن يكون سُمِّي أمّة، لأنه اجتمع عنده من خلال الخير ما يكون مثله في أمّة، ومن هذا يقال: فلان أمّة وحده، أي: يقوم مَقام أمّة.

وأما أبو حاتم الرّازي فيقول: وقيل للرجل الواحد أمّة؛ لاجتماع الناس إليه في حال الدين، وسُمّي بذلك أيضاً لما اجتمع فيه من الخصال ما يكون متفرقه في كثير من الناس، مثل : العلم، والعقل، والدين، والجود، والشجاعة، وغير ذلك، فلما اجتمعت فيه، قيل له: أمّة؛ لأنه قام مقام جماعة من الناس، وكان يجمع الناس إليه.

وقال أبو البقاء: وتطلق أي: الأمّة على الرجل الجامع لخصال محمودة.. ومن هنا قيل: لو لم يبق من المجتهدين إلا واحداً، يكون قوله إجماعاً؛ لأنه عند الانفراد يَصْدق عليه أنه أمّة.

وهكذا نرى أن صاحب اللسان يعود بالكلمة إلى «القصد» بينما يجعلها الآخرون ترجع إلى سبب الاجتماع، أو ‏اجتماع خلال الخير فيه، أو لقيامه مقام أمة في عبادة اللّه.

المجموعة الرابعة: وتكون «الأمة» فيها بمعنى  «الحين»، أو «الزمن»، أو ‏«السنين»:

قال صاحب اللسان: الأمّة: الحين، وقال ابن فارس: وبعد ذلك أصول ثلاثة - يريد في معنى الأمة - وهي: القامة، والحين، والقصد.

‏أما كيف صارت «الأمّة»: الحين، أو السنين:

فيرى الحكيم الترمذي أنها صارت كذلك لاجتماع الأيام والشهور في سنين كثيرة، ولا يظهر لهذا القول صلة بالمعاني الأُخَر لكلمة «الأمّة».

وأما القول القريب إلى ما نحن بصدده، فنجده عند الطبري وابن قتيبة؛ والراغب الأصفهاني، وقد عبروا عنه بتعبيرات متقاربة:

‏يقول أبو جعفر الطبري: وإنما قيل «للسنين المعدودة»، و«الحين»: أمّة؛ لأن فيها تكون «الأمّة».

‏ويقول ابن قتيبة: ثم تصير «الأمّة»: الحين، كأنّ «الأمّة من الناس» ينقرضون في حين، فتقام الأمّة مقام الحين.

ويقول الراغب الأصفهاني: وحقيقة ذلك: بعد انقضاء أهل عصر، أو أهل دين.

‏نظرة جديدة تربط هذه المعاني:

‏ويمكن لنا أن ننظر إلى هذه المعاني الأربعة في كلمة «الأمّة» نظرة أخرى تمثل المراحل التي تمر فيها «الأمّة» عبر تاريخها، فنقول:

‏تتمثل «الأمّة» أولاً برجل واحد، حينما يكون على دين الحق مخالفاً لسائر الأديان، وهو النبي غالباً، أو من يسير على طريقته، ومن ثم يكون الرَّجُلَ الذي لا نظير له؛ لأنه الرجل الجامع للخير، والذي يكون إماماً وقدوة لغيره من الناس .

‏فإذا استجابت لهذا الرجل فئة من الناس، وسارت على طريقته ومنهجه، سُمّيت أمة لاجتماعها إليه في حال الدين، أو لأنها تعبير عملي عن تعاليم الدين وأحكامه مطبقة في عالم الواقع.

‏فإذا تخلت الأمّة عن دينها وعقيدتها فقدت حقيقة وجودها، ومن ثم تسمى أمّة باعتبار ما كان، فكأن «الأمّة» هنا يراد بها الحقبة الزمنية التي كانت فيها ملتزمة بدينها، وكأن القرآن يَلفِتُنا في هذا إلى أن التاريخ لا يكون بوحدات زمنية فقط، وإنما يمكن أن يحسب بوحدات دينية أيضاً يعبر عنها بـ«الأمة»، ويراد بها الحقبة الزمنية التي كانت فيها تلك الأمّة منسجمة مع عقيدتها ودينها، وهذا يعني أن الإسلام لا يقيم كبير اعتبار للزمن وحده، وإنما الاعتبار الأهم لما يجري فيه من نماذج عملية ملتزمة بطرق الهداية، ومن ثم يكثر في القرآن إطلاق لفظ «القرون» على الأمم السابقة، مع أنها في الأصل لفترة من الزمان.

وقد أطلتُ الكلام في المعنى اللغوي لـ «الأمّة» ليتبين فساد ما ذهب إليه المستشرقون في دائرة المعارف الإسلامية من زعمهم أن الكلمة دخيلة على العربية؛ لعدم وجود صلة اشتقاقية بين معانيها المتعددة، ومن ثم فقد جعلوها ترجع إلى أصل عبري أو آرامي، أما من حيث الصلة الاشتقاقية، فأعتقد أن ما تقدم من الكلام كافٍ في دحض هذه الفرية التي أطلقها المستشرقون، وقد يكو نون معذورين - لجهلهم بالعربية وفقهها - في أن لا يدركوا الصلة الاشتقاقية بين معاني هذه الكلمة، لكنهم غير معذورين في نفيهم هذه الصلة أصلاً، فهذا تقَوُّلٌ بما لا علم لهم به، ومن ثم كان عليهم أن يكونوا أكثر تواضعاً؛ لأنهم يتكلمون في شأن لغة يُعتبرون تلاميذَ في دراستها.

‏والأمر الآخر الذي تسرع فيه المستشرقون - وكانت لهم فيه أناة - زعمهم بأن كلمة «أمّة» العربية، ترجع إلى أصل عبري أو آرامي، دون أن يُقدِّموا على ذلك دليلاً علمياً واحداً، الأمر الذى يتنافى مع الموضوعية التي يدعونها، ومع المنهجية العلمية التي كثيراً ما يلهجون بذكرها، ذلك أن الزعم بأن كلمة ما مأخوذة من لغة من اللغات، ليس بالأمر الهيّن اليسير، فإن وجود كلمة واحدة في لغتين مختلفتين ليس شرطاً أن تكون إحدى اللغتين قد أخذ ته عن الأخرى، ولو سُلِّم، فإن القطع بأن هذه اللغة هي الآخذة، يحتاج إلى أدلة وبراهين دونها صعوبات وصعوبات.

ومع ذلك فإن المستشرقين - والحق يقال - قد شعروا بضعف موقفهم هذا، فاحتاطوا لأنفسهم شيئاً من الاحتياط، فبعد أن أطلقوا دعواهم العريضة في جرأة على العلم غريبة، أدركوا أنهم ارتقوا مرتقىً صعباً، وأن كلامهم هذا غير كاف في إقناع الآخرين، فكان عليم أن يفكروا بطريقة يحسنون فيها الانسحاب، فوجدوا المخرج في مثل هذه العبارة:

«وقد تكون الكلمة الأجنبية دخلت لغة العرب في زمن متقدم بعض الشيء ... ومهما يكن من شيء، فإن محمداً أخذ هذه الكلمة واستعملها، وصارت منذ ذلك الحين لفظاً إسلامياً أصيلاً».

بمثل هذه الروح يكتب المستشرقون عن الإسلام والعربية، وبمثل ذلك المنطق العجيب يفكرون ويقدرون، وبمثل هذه البساطة يصدرون الأحكام في قضايا ديننا وأمتنا، وبمثل هذا العبث يملؤون الكتب والمؤلفات التي تعتبر مراجع العصر وأصوله الثقافية، ونحن عن كل ذلك غافلون، مشغولون بأمور أخر لا تقدم، بل تؤخر، ولا تنفع، بل تضر، فمتى نضع أرجلنا على الطريق القاصد، ومتى نقدم الحقيقة ناصعة للناس كالشمس في رابعة النهار، متى!!!

معاني «الأمة» في القرآن الكريم

‏أشرنا فيما سبق أن المعاني الأربعة التي ترجع إليها معاني «الأمة» المتعددة في اللغة العربية، هي التي ورد ذكر ها في القران الكريم، وعلينا في هذا الفصل أن نتتبع تلك المعاني في القرآن الكريم، ثم نعرض للمعنى الإسلامي لـ«الأمة» في فصل مستقل.

أ- معنى الجماعة:

‏قلنا فيما سبق إنّ معنى «الجماعة» هو الأصل في دلالة الكلمة، وأنه ينطوي تحته أنواع متعددة من الجماعات، فما هي الجماعات التي وردت في القرآن الكريم والتي تنطوي تحت هذا المعنى.

1- الجنس من كل حيّ:

‏ورد هذا المعنى لكلمة «الأمة» في الآية الثامنة والثلاثين من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى:

﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38].

وقد اختلف المفسرون في المراد بالمثلية في هذه الآية:

فقال الراغب الأصفهاني: أي: كل نوع منها على طريقة قد سخّرها اللَّه عليها بالطبع، فهي من بين ناسجةٍ كالعنكبوت، وبانيةٍ كالسرْفة، ومُدَّخرةٍ كالنمل، ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك ‏من الطبائع التي تخصص بها كل نوع.

وقال أبو حاتم الرازي: أمماً: أصنافاً، كل صنف من الطير والدواب مثل بني آدم في طلب الرزق والغذاء، وتوقي المهالك والتماس السبل.

‏وذهب غير هؤلاء إلى أنها أمم في «الدين» كما نجد ذلك عند صاحب لسان العرب حيث يقول: ومعنى قوله: ﴿أمَمٌ أمْثَالُكُمْ﴾: في معنى دون معنى - يريد واللّه أعلم -: أن اللَّه خلقهم وتعبَّدهم بما شاء أن يتعبدهم من تسبيح وعبادة، علمها منهم ولم يفقهْنا ذلك، وذهب إلى ذللك ابن قتيبة وغيره، بل إن ابن تيمية له رسالة في قنوتِ الأشياء كلها للَّه I، مما يجعل هذا المعنى راجحاً، كما أن الطبري في تفسيره لهذه الآية ذهب هذا المذهب حيث يقول:

‏قال أبو جعفر: يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد e:

قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات اللّه: أيُّها القوم، لا تَحْسبَنَّ اللَّه غافلاً عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون، وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيءٍ دبَّ على الأرض صغير أو كبير، ولا عمل طائر يطير بجناحيه في ا‏لهواء، بل جعل ذلك كله أجناساً مجنّسة، وأصنافاً مصنفة، تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها.

يقول: «فالرب الذي لم يضيّعْ حفظ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أمّ الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء، أحرى أن لا يضيع أعمالكم، ولا يفرّط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها أيها الناس، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها، إنْ خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، إذ كان قد خصَّكم من نعمه، وبسط عليكم من فضله، ما لم يَعُمَّ به غيركم في الدنيا، وكنتم بشكره أحق، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميّزون، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطير الذي به بين مصالحكم ومضارّ       كم تفرقون».

‏ولا شك بأن هذا المذهب أليق وأقرب إلى الصواب من المعاني السابقة التي قالها بعض العلماء، إلا أن الأمر الذي يحتاج إلى شيء من التنبيه، هو أن توحيد هذه المخلوقات وعبادتها للّه أمور فطرية غريزية قريبة نوعاً ما من توحيد الإنسان الفطري الذي أشار إليه الرسول e بقوله: (كل مولودٍ يُولد على الفطرة)([2])؟ إلى آخر ‏ما نسمع ونرى ونقرأ من أمور لم تكن مطروحة على هذه الأمة في يوم من ‏الأيام، ولو طرحت عليها مثلُ هذه القضايا في تاريخها الطويل، واختلَفَتْ إجابتها عليها كما تختلف الآن، لما أمكنها أن تصل إلى ما وصلت إليه من أمجاد، ولما استطاعت أن تقف على ‏أقدامها في وجه الغزاة.

4- أما وقد طُرِحتْ على أجيالنا عناصر تكوين الأمة في الغرب، فلا بد لنا من بيان وجهة نظر الإسلام في هذه العناصر، لا لأننا نعتبرها مقومات للأمة - كما يقولون - وإنما لبيان المعاني التي أضفاها الإسلام على هذه العناصر.

أ- العرق:

قدمنا فيما مضى شيئاً مما يتصل بالعرق حينما تكلمنا عن المعنى الإسلامي للأمة، وأنه يعتبر انتماءً عقدياً لا عرقياً ولا عنصرياً، وأن الإسلام يعترف بانقسام الناس إلى شعوب وقبائل، وأن حكمة ذلك هي التعارف بين الناس، غير أن الإسلام مع اعترافه بهذا الواقع، فهو يسعى إلى إيجاد انتماء عقدي فكري يكون مجالاً للالتقاء والتعاون بين ‏الشعوب، ويهذب من حدَّةِ التعصب القبلي والقومي الذي ينشأ عند الناس بدافع التفا خر بالأحساب والأنساب، وأن الإسلام لا يعمل على إلغاء هذا الواقع، وإنما يبعده عن أن يكون مقياساً للتفاضل بين الناس، ومجالاً للتفاخر والتناحُرِ، ويقيم بدلاً منه قِيَمَ الدين مقياساً للتفاضل على أساس العمل الصاح الذي يصدر عن الناس، إلا أن هناك نقطة كثيراً ما كانتْ موضع جدلٍ ومناقشة في أوساط المثقفين المعاصرين، وهي فيما يتصل بعلاقة العرب كـ«قوم» بـ «الإسلام» كـ«دين»، فلا بد لنا إذن من الوقوف عند هذه النقطة، وإلقاء الأضواء عليها باعتبارها من الأمور التي يكثر حولها الكلام.

إن الإسلام وإن كانت صلته بجميع الشعوب والأقوام تقوم على مبدأ المساواة، وتحكمها نظرة واحدة - كما أشرنا إلى ذلك من قبل - إلا أنه بالنسبة للعرب هناك علاقة خاصة بين الإسلام والعرب، ليست لشعب من الشعوب، ولا لقوم من الأقوام.

‏لقد اختار اللّه سبحانه نبيَّه من العرب، واختار لغة العرب لتكون لغة كتابه الخالد، واختار البيت الحرام ليكون كعبة المسلمين، ومهوى أفئدتهم من مشارق الأرض ومغاربها - وهو في مكة المكرمة قلب بلاد العرب - واختار الجزيرة العربية لتكون قاعدة لدين اللَّه، فلا يجتمع في جزيرة العرب دينان.

‏وأذّن رسول اللَّه e بدعوته في مكة، واستجاب له عدد قليل من العرب، ودخلوا في دين اللّه، كما دخل معهم أفراد من غير العرب الذين كانوا يعيشون في الجزيرة، ولقي الرسول e مقاومة عنيفة من قريش اضطرته بعد ذلك إلى الهجرة للمدينة المنورة؛ حيث وجد الأنصار الذين رحبوا به وبدعوته، ودخلوا في دين اللَّه أفواجاً، ولم يلبث رسول اللَّه e أن تغلب على قريش، وخضعت له جزيرة العرب، فخلصت للإسلام أرضاً وقوماً، ثم انطلق هؤلاء العرب المسلمون يحملون راية الإسلام إلى كل صقع، وينشرون ألوية العدل في كل مكان، بعد أن شرفوا بحمل رسالة التوحيد.

‏أما لماذا اختار اللَّه رسوله من العرب؟ ولماذا اختار العربية لغة لكتابه؟ ولماذا اختار بلاد العرب نقطة وقاعدة لانطلاق دعوته؟ ولماذا كان الرعيل الأول الذين حملوا راية الإسلام، معظمهم من العرب؟ فمن الأمور التي يكثر الكلام حولها، وخير ما يُجاب به في مثل هذا الموضوع أن نقول:

﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، ولا شك بأن العرب في ذلك الوقت كانت لهم خصائص وفضائل، كما كانت لهم قبائح ورذائل - كما هو الحال في كل شعب من الشعوب - ومع ذلك فلعلّ وضع العرب في ذلك الوقت كان أنسب من وضع غيرهم، وأليق بحمل رسالة الإسلام، فاختيروا كطليعة لحمل هذه الرسالة إلى غيرهم من الشعوب والأقوام، ولقد كانوا على مستوى المسؤولية حينما خرجوا مجاهدين في سبيل اللَّه مضحين بأموالهم وأنفسهم، فنجحوا في مهمتهم خير نجاح، وقدموا للعالم هديّتهم فكانت خير هداية.

لقد شعر العرب المسلمون بعظم الأمانة التي أنيطت بهم، فعرفوا قدر أنفسهم، وفهموا حقيقة دعوتهم، وأدّوا واجبهم في نشر الإسلام وتبليغه، دون أن يُشْعِروا غيرهم من الشعوب الأخرى – التي استجابت لدعوة الإسلام – بفوقية أو تفضل وامتنان؛ لأنهم لم ينطلقوا بهذا الدين إلاّ امتثالاً لأمر اللَّه U، ومن ثم لم يكن جهادهم في سبيل المغانم المادية أو المطامع الاقتصادية، وإنما كان جهاداً في سبيل اللَّه ومن أجل أن تكون كلمة اللّ!َه هي العليا.

ولقد قدّر المسلمون من غير العرب لإخوانهم العرب المسلمين جهدهم وجهادهم، فنظروا إليهم نظر المحبة والإكبار نظراً لما حملوه إليهم من خير، وما تكبدوا في سبيل ذلك من تضحيات ومشاق، وساروا معهم جنباً إلى جنب، يكتبون بدمائهم سطور ملحمة جهادية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً.

أما ما تذكره كتب التاريخ من وجود فئات شعوبية في بعض مراحل التاريخ الإسلامي حاولت تجريد العرب من مزاياهم، وإلصاق النقائص بهم، فهذا أمر لا يستبعد وقوعه من فئات منحرفة ذات أغراض خبيثة لتفرق بين المسلمين، وتثير الأحقاد والضغائن بين شعوبهم، ولقد حاول اليهود مثل ذلك إبان انطلاق الدعوة الإسلامية في المدينة حينما حاولوا تذكير الأوس والخزرج بعداواتهم القديمة قبل أن ينعم اللَّه بالإسلام عليهم، فهذا أمر ممكن الحدوث في كل زمان ومكان من الفئات الحاقدة التي تتضرر مصالحها، وهذا لا يؤثر في الاتجاه العام من الاحترام والتقدير الذي كان هو السمة البارزة في نظرة المسلمين من غير العرب إلى إخوانهم من العرب المسلمين.

‏وبناءً على ما تقدم، فإن الميزة الأولى للعرب، هي كونهم أقرب من غيرهم لفهم كتاب اللَّه الذي نزل بلغتهم، ومن ثم فقد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أن «العربية»: اللسان، وهذا ما دعا المسلمين من غير ‏العرب أن يحبوا لغة العرب، ويعكفوا على دراستها، بل إنهم قد برعوا في ذلك وأبدعوا، وألفوا في علومها وأوسعوا، وشاركوا مشاركة فعّالة في علوم الإسلام المتعددة، بل إن كثيراً منهم تخلّى عن لغته الأصلية، أو نسيها بعد أن عرف العربية، ودرجت على لسانه، وكلما اقترب المسلمون من غير العرب من لغة العرب، كلما تضاءل هذا الفارق بينهم وبين إخوانهم العرب المسلمين في فهم كتاب اللَّه وشاركوهم في هذه الميزة الخاصة بهم.

ولا يطعن في ما قدمنا من حب المسلمين غير العرب للغة العربية ما قام به الاتحاديون في العهد العثماني من محاربة للعربية، وإقصاء لها عن أن تكون اللغة الرسمية، والعمل على أن تكون اللغة التركية بديلاً عنها، أقول لا يطعن ذلك في ‏حب العربية؛ لأن عمل الاتحاديين لم يكن موجهاً ضد العربية وحدها، وإنما كان مؤامرة يهودية ماكرة استهدفت الإسلام نفسه، والخلافة ذاتها، وهذا ما أكدته الحقائق التاريخية بعد انحلال الخلافة وتولي أتاتورك زمام الأمور في تركية؛ حيث سار بها بعيداً عن ثقافتها ودينها وتراثها، بل إنه حاول قطعها نهائياً عن جذور تاريخها وتراثها بتغييره للحروف العربية إلى حروف لاتينية، ورغم كل هذه المحاولات الماكرة، فلم تستطع تلك القوى أن تنال من إيمان الشعب التركي وعقيدته، وها هي تركية الآن بعد أن انقضى جيل على عهد أتاتورك تسير في طريق العودة إلى الإسلام والعربية مرة أخرى، فتنشئ المدارس العربية لتعليم القرآن واللغة العربية وبقية العلوم الإسلامية الأخرى، وتقترب أكثر فأكثر من العرب والإسلام بعد أن ظن الناس في فترة من الفترات أن قلعة الإسلام في تركية قد تحطمت، وأن جذوة الإيمان في قلوب الأتراك قد خبا نورها، وانطفأ أحرارها ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

ولقد استغل أحفاد الصليبيين انحراف الاتحاديين في محاربة العربية، وعملوا على توسيع الفجوة بين المسلمين الأتراك وإخوانهم العرب المسلمين، كما حاولوا طرح أفكار جديدة بديلة للإسلام بقصد إضعاف رابطة العقيدة الإسلامية، وإبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم، فأنشؤوا الأحزاب الشيوعية والقومية المختلفة، فقام بعضها على أساس إقليمي، ورفع شعارات إقليمية «سورية للسوريين»، و«مصر للمصريين»، وحاولوا أن يجعلوا لكل إقليم تاريخه الخاص، فأثاروا الاعتزاز بالجاهليات القديمة التي عفا عليها الإسلام كالفينيقية والفرعونية وغيرها، كما قام بعضها على أساس قومي عربي بحيث حصر مجال نشاطه في بلاد العرب، وحاول إنشاء عقيدة قومية بديلة للإسلام حين اعتبر القومية رسالة خالدة، وحاول تفسير التاريخ الإسلامي على أساس قومي، واعتبر الإسلام مرحلة من مراحل التاريخ العربي، وقد أدّى دوره في تلك المرحلة التاريخية، ولا يستطيع في الوقت الحاضر أن يؤدي دوراً مهماً، وعليه في هذه المرحلة أن ينسحب من الميدان، ويخلي الطريق للعقيدة القومية الجديدة، وبعد أن ساروا شوطاً في هذا الطريق شعروا بأن القومية لا تكفى ‏وحدها أن تكون بديلاً للإسلام، فهي في حقيقتها انتماء وانتساب، وهم أرادوها فكرة ورسالة، ولكنها لم تقوَ على حمل ما حَمّلوها، مما جعلهم يقولون بالاشتراكية إلى جانب القومية، ولكن الاشتراكية مذهب غربي، والقومية انتماء عربي، فكيف يمكن التوفيق بين العربي والغربي، ومن هنا كان لا بد من التزاوج بين القومية العربية والاشتراكية الغربية، فكان المولود الجديد: الاشتراكية العربية، وحينما سئلت الاشتراكية العربية من أين جاءت؟ قالت: إنها نبعت من أرض العروبة وواقعها!!!

‏لم ن صلة العرب بالإسلام صلة أصيلة عميقة، ولقد ربط اللَّه بينهما بعروة وثقى لا انفصام لها، ومهما حاول أعداء الإسلام والعرب - في الداخل والخارج - فإنهم لن يستطيعوا أن يقطعوا ما وصله اللَّه، وسيبوؤون بالفشل الذريع، وتذهب جهودهم أدراج الرياح رغم ما أوتوا من سعة الحيلة والمكر والخداع.

‏ولن يطول على الأمة ذلك اليوم الذي تعود فيه الأمور إلى نصابها، وتطوى فيه هذه الصفحة النشاز في تاريخ أمتنا الحديث، فلقد بدأ المارد المسلم يتململ داخل القمقم الذى حبس فيه في غفلة من الزمن، وقد شعر أنه أخد غدراً وعلى حين غرّة، ولن يغفر للذين أساؤوا اليه، وسيعرف كيف يحاسبهم على غدرهم وخيانتهم، وسيلتئم شمل هذه الأمة من جديد، ويعود العرب إلى أداء رسالتهم الإسلامية الخالدة، وسيجدون إخوانهم المسلمين من غير العرب يقفون إلى جانبهم يشدون من أزرهم، ويجاهدون معهم صفاً واحداً، وقلباً واحداً، وأمة واحدة.

‏وإن هذه النظرة الإسلامية إلى العرق في أنه لا يقوى أن يكون مقوماً أساسياً في تكون الأمّة هي التي بدأت تسود العالم المعاصر، حيث أصبح الالتقاء على المبادئ والأفكار والفلسفات سمة الاتجاهات الحضارية الحديثة، ومما يساعد على ذلك، ويعجّل به أن العالم اليوم غدا كمدينة واحدة بفضل ما أضافته يد الإنسان من اختراعات، واكتشافات ساهمت إلى حد كبير في ‏تقريب البلاد المتباعدة، وإزالة كثير  من الفوارق بين الشعوب في أنماط المعيشة ووسائلها، مما يجعل العالم يقترب أكثر فأكثر من الالتقاء على عقيدة واحدة، وبهذا تبدو التجمعات القومية والإقليمية، وكأنها من مخلفات القرون الماضية، وبذلك يكون الإسلام قد سجّل سبقاً حضارياً كبيراً، حين جعل الأمة تقوم على أساس العقيدة منذ أربعة عشر قرناً، وفي وقت كان يبدو فيه مثل ذلك أمرتً غريباً مستنكراً، ولعل هذا يفسّر لنا شيئاً من حكمة ختم النبوة بمحمد e، وختم الرسالات السماوية الخاصة برسالة الإسلام العامة للناس ‏جميعاً، وأن الناس بإمكانهم أن يكونوا أمة واحدة تذوب بينهم الفوارق المصطنعة إذا ما جمعتهم عقيدة الإسلام، وهكذا تتطور البشرية يوماً بعد يوم لتلحق بقيم الإسلام الخالدة التي تسع البشرية كلها، والزمن كله بما يَجِدُّ فيه من تطورات وتطلعات .

إن فكرة قيام الأمة على أساس عرقي كما دعا إليها هتلر، لم تلق تجاوباً‏  حقيقياً عند الناس، لأنها فكرة أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، ذلك أن دماء الشعوب قد تمازجت، واختلطت أصول الناس نتيجة التزاوج، ولا يمكن الجزم بأن عرقاً من الأعراق البشرية قد احتفظ بنقائه وصفائه، ومن ثم لم يكن لهذه الدعوة نصيب من النجاح، ولعلها قد انتهت حياة المنادي بها، وإذا كان هذا ينطبق على الأجناس البشرية في الغرب، فلا شك أنه ينطبق على الشرق أيضاً؛ إذ حدث فيه من التمازج والاختلاط والتفاعل بين الشعوب ما أذاب كثيراً من الفوارق بينها، وجعلها تقترب من الوحدة في كثير من شؤون حياتها، وبخاصة في البلاد التي كانت تنتسب إلى دين واحد، أو عقيدة جامعة.

‏وأمام هذه الحقائق الواقعية الدامغة تراجع المنادون بفكرة «العرق»، ولم يعد يهمهم أن يتثبتوا من نقاء «العروق»، وصفاء «الأجناس»، واكتفوا باعتبار التقارب الواقعي الحافر بديلاً للتقارب العرقي المظنون، وأن ذلك كافٍ في رأيهم لأن يُكَوِّن أمّة واحدة دونما حاجة إلى البحث في الأصول النسبية والقبلية، وبذلك يكون «العرق» فقد كونه مقوماً حقيقياً من مقومات الأمة في نظر القائلين به، بل إن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك حين اكتفى أن يكون للعرق دور ما في مرحلة سابقة من مراحل تكوين الأمة خلال التاريخ.

‏ومن كل ما تقدم نرى أن فكرة «العرق» - كمقوم من مقومات الأمة - قد طرحت أول ما طرحت في ألمانيا، وأنها انتهت بعد ذلك لأن تكون وهماً وخيالاً، حيث تراجع القائلون بها إما على سبيل الحقيقة بتخليهم عنها، وإما على سبيل المجاز بتأويلهم لها إلى معانٍ جديدة لم تكن مقصودة بها أصلاً، وأيّاً ما كان الأمر، فقد انتهت الفكرة على أيدي القائلين بها، وفي البلاد التي ولدت فيها، ومع ذلك كله، فقد انتقلت الفكرة إلى بلاد العالم الإسلامي متأخرة جداً، وبعد أن فقدت كل مبررات حياتها، إلا أن التقليد الاعمى لكل ما هو غربي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، هو الذي دفع المتربصين والمشككين والمرجفين إلى أن يستوردوا مثل هذه البضائع الفاسدة في سوق الفكر ليبلبلوا بها أفكار المسلمين، وليوقعوهم في مخططات الاستعمار، ومشاريعه الهادفة إلى الحيلولة دون نهضة حقيقية لهذه الأمة، وبذلك تكون لهم فرصة تاريخية نادرة أن يعبثوا بمقدرات هذه الأمة، وأن يحاولوا تغيير مسارها الحضاري التاريخي بعيداً عن دعوة الإسلام، ورسالته الخالدة، ومع الأسف، فقد جازت مثل هذه الأفكار على كثير من المتواضعين في عقولهم وأفكارهم في عالمنا الإسلامي، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن شبابنا المعاصر بدأ يفقد المناعة الأصيلة التي عرف بها المسلم خلال التاريخ، وذلك لابتعاده عن مصادر ثقافته ودينه، وعدم التزامه بقيمه وأخلاقه، وأملنا كبير في أن يعي ‏شبابنا واقعهم، ويدركوا مسؤولياتهم، فيحفظوا أنفسهم من السقوط ألاً ليكونوا قادرين على مد يد العون للآخرين ثانياً، وبذلك يحولون دون ما يُراد لأمتهم من ضياع ودمار.

ب - الأرض:

‏يراد بالأرض التي تشكل مقوماً من مقومات الأمة _ عند القائلين بها _ الوطن الذي يعيش فوقه أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، وأن هذا الوطن قد يؤثر في ساكنيه، ويمنحهم بعض خصائصه التي امتاز بها مناخه الطبيعي، أو طبيعته الجغرافية بما فيها من لين أو قساوة، وما إلى ذلك من آثار الأرض التي ‏ربما تطبع سكانها بطابع مميز لهم عن غيلاهم.

‏والإسلام ابتداءً لا ينكر على المسلم أن يتعلق قلبه بحب البلد الذي نشأ فيه، فهذا أمر طبيعي فطري لا يمكن تجاهله أو إنكاره، وكذلك تأثر الإنسان بالبيئة التي نشأ فيها واكتسابه من الأرض التي عاش فيها بعض خصائصها، فهذه أمور تحدث بشكل عفوي لكل من يعيش على هذه الأرض.

‏إلا أن الإسلام لا يقف بالمسلم عند حدود الأرض التي نشأ عليها، وشهدت ذكريات طفولته وصباه، بل إنه يمد عينية إلى الارض كلها، فالأرض كلها من خلق اللَّه، وعلى المسلم أن يخرج من حدود إقليمه الصغير ليتعرف على الكون الكبير وما فيه، وليرفع كلمة التوحيد في كل مكان، فالأرض كلها بحاجة إليه، بحاجة إلى عقيدته التي يحملها، بحاجة إلى رسالته، فلا يجوز له أن ينطوي على نفسه في حدود مغلقة، ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [الأعراف: 128] إنه الخليفة في الأرض، فلا ينبغي له أن يقبع في ركن من أركانها أو زاوية من زواياها يجتر ذكرياته الوطنية، وينسى من حوله وما حوله، إن الأرض كلها يمكن أن تكون وطناً له حينما يحمل إليها رسالته، وينقل إليها أمانته، وهذه مهمته، فعليه أن يعرف قدره، ويكون على مستوى المسؤولية ألتي أنيطت به.

إن فكرة الأمة التي تقوم على أساس عقدي ديني يضم شعوباً مختلفة وأقواماً متعددة لا يمكن أن تقبل بفكرة وطن محدود، فالوطن الإسلامي إن صح التعبير ليس محدداً بقطعة من الأرض، وإنما هو كل مكان في الأرض وصل ‏إليه الإسلام، والإسلام بحسب تصور المسلم لا بد له أن يعم الأرض كلها: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: 33]، وهكذا فالدين الذي قال بأمة عالمية تضم كل الأقوام والشعوب، لا يمكن أن يقبل بفكرة الوطن المحدود التي يرضى بها الإقليميون العاكفون على اجترار وطنية ضيقة حبسوا فيها أنفسهم، وهكذا يوسع الإسلام آفاق المسلم ن كل في كل شيء، ويخرجه من القيود والأغلال التي تفرضها النظرات والنظريات البشرية المحدودة والصادرة ‏عن عقول قاصرة محكومة باعتبارات مكانية أو زمانية أو عاطفية.

‏وإذا كانت الأرض أو الموطن في الماضي تمنح سكانها بعض خصائصها، فإن هذا الأمر في عصرنا الحالي في طريقه إلى الزوال، بعد أن ذابت الحدود الجغرافية تحت تأثير المواصلات الحديثة التي جعلت العالم كله كأنه بلد واحد، وأرض واحدة، وبعد أن استطاع الإنسان التغلب على الظروف الطبيعية القاسية بما كشفه العلم من مخترعات جعلت نمط الحياة البشرية يسير في طريق الوحدة وكلما تقدم بنا الزمن، كلما زادت هذه الوحدة‏، وهذا التقارب، وبالتالي فإن هذا المقوم من مهمات الأمة الذي هو الأرض والوطن - عند ‏القائلين به - يبدو أيضاً  وكأنه مودع لهم بعد أن أتت عليه منجزات العلم  ومكتشفاته، ولن يبقى أمام البشرية إلا أن تعتصم بالمقوم الوحيد الذي يجمع الناس كلهم في أمة واحدة تذوب فيها فوارق الجنس والأرض واللون، ولم تجد ذلك إلا ‏في الإسلام العظيم الدين العالمي الذي لا يعرف الحدود والقيود، والذي جاء هداية للناس عامة، ورحمة للعالمين شاملة.

وعلى فرض بقاء ذلك كله فالإسلام لا يمنع المسلم أن يشعر بحنين إلى وطنه الأصلي ومدارج طفولته وصباه، ولكنه لا يسمح له أن يحبس نفسه في هذا المضيق، وإنما يرفع من تصوره ويمده ويوسعه، ويقبل منه ما يمكن أن يكون قد اكتسبه من آثار نشأته في أرض معينة أو طبيعة خاصة ما لم يتعارض ذلك كله مع عقيدته الدينية، وانتمائه إلى أمة عالمية ذات رسالة تستهدف صلاح البشرية كلها، وإن هذا الحنين نحو الموطن الأصلي وتلك الخصائص والطباع التي يمكن أن تكتسب من البيئة والموطن لا تكفي في نظر الإسلام لأن تكون عنصراً أو مقوماً من مقومات الأمة، وإنما يبحث عن ذلك ويقول به الذين لا يملكون عقيدة جامعة، أو ديناً موحِّدًا، أما نحن الذين جمعنا اللَّه تحت لوائه، وربط بين قلوبنا بحبل من عنده، فلا تلفت انتباهنا مثل هذه الروابط، ولا تشدّنا إليها مثل هذه التطلعات لأننا نملك ما هو أقوى وأمتن وصدق اللَّه ألعظيم: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103]، وصدق اللَّه العظيم : ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾  [الأنفال: 63].

جـ- التاريخ:

‏لا يستطيع الكتاب والمفكرون حينما يتحدثون عن الأمة والعناصر المكونة لها أن يغفلوا شأن التاريخ، وهم يقصدون به تاريخ كل أمة بما فيه من أمجاد ونكبات، ولا شك بأن للتاريخ أ‏ثراً كبيراً في صياغة أجيال الأمة حيث تأخذ من أمجادها الماضية حافزاً لصنع أمجاد جديدة، وتحاول أن تتجنب الأخطاء التاريخية التي ربما وقع فيها أسلافهم.

ولما كان مفهوم اقترن من الناحية العملية عند جميع الأمم بالمعنى القومي كما سبق أن بيناه وشرحناه، فقد اختلط تاريخ الأمة - عندهم - أيضاً بالمفهوم القومي، وهكذا غدا تاريخ الأمّة كأنه تاريخ القوم في كل عهودهم، ومن ثم تحرص الأمم - بهذا المفهوم القومي على أن تبعث تاريخها القديم - مهما كان موغلاً في شعاب الماضي - بما فيه من محاسن ومساوئ، وبما يضم في طياته من أمجاد تبعث على الاعتزاز، ومخازٍ يندى لها الجبين خجلاً، بل وربما حاولوا تبرير هذه المخازي من باب الحمية الجاهلية والتعصب الأعمى الذي لا يريد الاعتراف بالحقائق الموضوعية الْمُرَّة.

‏وقد سرت هذه الموجة في بعث التاريخ القديم وإحيائه في البلاد الإسلامية بعد ما تم من القضاء على الخلافة وتمزيقها، ذلك أن الذين خططوا لذلك أرادوا فعلاً أن تنقسم الأمة الإسلامية إلى أمم، وحيث إنه لا بد لكل أمة من تاريخ، ولما كان تاريخ الأمة الإسلامية واحداً، فلا بد إذن من بعث تاريخ هذه الشعوب قبل دخولها في الإسلام، ومن ثم وجهت الطاقات إلى بعث تاريخ الجاهليات، ولما كان الشعور الإسلامي ينفر بطبعه من كل ما هو جاهلي أو له صلة بالجاهلية فقد أضفوا عليها أسماء حديثة وقالوا:

‏حضارات !! ورصدت الأموال، الكثيرة للكشف عن الأصنام والتماثيل، وإقامة المتاحف الضخمة للمحافظة عليها.

إن مثل هذا العمل ليس خطراً على المفهوم الديني للأمة فقط، ولكنه خطر أيضاً عليها بالمفهوم القومي؛ لأن التاريخ القديم في البلاد العربية ليس تاريخاً واحداً، وجاهليته ليست جاهلية واحدة، وبالتالي لن يكون التاريخ القديم الجاهلي عامل وحدة في تكوين الأمة - بمعناها القومي - ولكنة سيكون ن عامل تفريق، لأنه يظهر كل قطر من الأقطار بأن له تاريخاً غير تاريخ الآخر، وبذلك لا يكون التاريخ مقوماً من مقومات الأمة، ولكنه يكون معوقاً من معوقاتها، وعقبة كأداء تحول دون قيامها.

‏وإذا كان الإسلام قد أقام «الأمة» على أساس الانتماء الديني الذي يضم البشرية بكل أجناسها وعناصرها، واعتبر وطنها هو الأرض كلها - ما كان واقعاً منها تحت سيطرتها وما سوف يقع - كذلك فإنه قد ينظر إلى التاريخ نظرة تنسجم مع عالمية الأمة وعالمية الوطن.

إن تاريخ الأمة الإسلامية لم يبدأ منذ بعث الرسول محمد e ولكنه بدأ منذ وجد آدم على ظهر هذه الأرض، واستمر بعد ذلك في كل أمة استجابت لدعوة نبيها، فهو تاريخ موصول بدأ ببعثة أول نبي ويستمر إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، إنه تاريخ الدين كله الذي هو الإسلام ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، ومن ثم نجد القرآن الكريم حفل بتاريخ الأنبياء ‏ومواقفهم ودعواتهم، وبصَّر المؤمنين بأن الأنبياء كلهم خلال التاريخ البشري الطويل ينظمهم سلك واحد، ويصدرون في مواقفهم عن عقيدة واحدة، ويتلقون الوحي من إله واحد، فهم إذن أمة واحدة وإن تباعدت بهم الأزمان وتعددت بهم الأوطان.

وقد أوضح القرآن هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للتفسير والتأويل حين ذكر الأنبياء والرسل السابقين ثم قال لنا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92] وحينما قال مخاطباً لنبينا ♥ بعد ذكر الأنبياء السابقين:

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90].

‏وإذن فتاريخ هذه الأمة تاريخ عريق ضارب في شعاب الزمان، تاريخ عريض لا يحده مكان، تاريخ مواكب الإيمان يقودها الأنبياء والمرسلون في معارك متصلة مع الجاهليات في كل عصر ومصر، إنه تاريخ حافل مليء بالدروس والعبر، إنه ذخيرة كبيرة لهذه الأمة عليها أن تحسن قراءته وتدبره كسنن اجتماعية ثابتة تستطيع الاستفادة منه في حاضرها ومستقبلها.

ويرى المعلم عبد الحميد الفراهي الهندي أن الوقائع التاريخية بحسب ترتيبها الزماني دون مراعاة الربط بينها وبيان أسبابها ونتائجها.

‏وإما بالدراية وهي: جمع الوقائع بالترتيب العقلي مع الزماني حيث يلتزم المؤرخ طلب السبب لكل ما وقع، ليعلم أن كل متأخر نتيجة لمتقدم، والتاريخ بكلا قسميه ليس إلا علم ما مضى وغاب عنك من أحوال بني نوعك.

وأما الوقائع التاريخية في القرآن الكريم وفي الكتب المقدسة، فإننا نجدها مترتبة ترتيباً أخلاقياً، وأن العالم تحت قدرة اللَّه وتصرفه، وأن الأمة تسمو وتهبط حسب أخلاقها.

‏ومن هنا نرى القرآن الكريم يضفي على التاريخ معنىً خاصاً، ويقدمه لنا على أنه سنن ثابتة يحكمها ناموس واحد، ومن ثَمَّ فهو لا يحفل بالزمان والمكان والتفاصيل إلا ‏بالقدر الذي يوضح الهدف والمغزى من الحادثة التاريخية، كما أنه لا يقصد بذلك مجرد العرض والإخبار، وإنما يتعدى ذلك إلى التربية بالقدوة الحسنة، والاعتبار بمصير الأمم الغابرة، وكشف السنن التي تحكم الحياة الإنسانية والتجمعات البشرية.

‏إن التاريخ - بهذا المعنى - التطبيق العملي للمثل والقيم الدينية التي قامت على أساسها «الأمة» بالمعنى الإسلامي، ولا شك بأنه زاد كبير لأمتنا المسلمة تتزود منه في طريقها اللاحب الطويل المليء بالأشواك والمفاجآت، ولم تُزَوَّد بذلك كله إلاّ لأنها وارثة الأمم والرسالات؛ حيث ختم اللَّه بنبيِّها النبوات، وحفظ لها أصولها النظرية بحفظه لقرآنها وسنتها بعد أن اختار نبيها إلى جواره، وجعلها  خير أمة أخرجت للناس.

د - اللغة

‏يميل بعض المفكرين إلى اعتبار اللغة عنصراً أساسياً في تكوين الأمة،  بينما يرى بعضهم أن هناك أمماً تتكلم أكثر من لغة واحدة، ومن ثم لا يقيم كبير وزن إلى عنصر اللغة.

‏أما نظرة الإسلام إلى هذا العنصر فهي كنظرته إلى بقية العناصر التي قدمنا الكلام عليها، فهو لا يعتبره مقوماً من مقومات الأمة، لأنه يعتبر الدين هو المقوم الأول والأخير غير أنه ليس معنى ذلك أن الإسلام لا يقيم له وزناً.

لغة الدين واحدة

‏لقل جعل الإسلام لغة الدين واحدة وهي العربية ولذلك فقد أنزل اللَّه كتابه بلغة العرب واختار رسوله من العرب، فكانت مصادر الدين النظرية الكتاب والسنة؛ باللغة العربية فكان لا بد لمن أراد دراسة الدين والتعمق فيه من تعلم العربية ودراستها، وفعلاً أقبل المسلمون على تعلم العربية ودراستها، وتعمقوا في ذلك.

وربما نبغ عدد منهم في بعض الدراسات اللغوية والدينية، والمكتبة العربية مليئة بالمؤلفات والكتب التي شارك فيا المسلمون جميعاً وهم من شعوب مختلفة في الأصل، إلاَّ أن إيمانهم بالإسلام العظيم دفعهم إلى حب العربية ودراستها، وكثير منهم ربما نسي لغته الأصلية، واعتبر العربية لغته.

إن هده الصلة الوثيقة بين العربية والإسلام كانت لها آثار كبيرة على اللغة العربية، ولا بأسن أن نلمّ ببعضها هنا:

إثراء اللغة

‏إن اختيار العربية لغة لكتاب اللَّه، قد أثرى هذه اللغة بالمعاني والاصطلاحات الجديدة التي جاء بها الإسلام الحنيف، وبذلك خرجت العربية من عزلتها اللغوية التي كانت تتمثل في استعمال المفردات الخاصة بالبيئة الجاهلية، إلى استعمال مفردات كثيرة فرضتها طبيعة الرسالة الإسلامية وثقافتها.

‏وبعد أن كان تراث الجاهلية اللغوي يتمثل في قصائد ومعلقات تركها الشعراء أصبح تراثها في الإسلام ما لا يحصى من الكتب والمؤلفات والتي يدور معظمها حول رسالة الإسلام وعلوم القرآن والعربية وبقية العلوم والفنون الأخرى، ولا شك بأنَّ هذا كان كسباً كبيراً لهذه اللغة.

لغة عالمية

لقد خرج الإسلام بالعربية من عزلتها المكانية في جريرة العرب، وسار بها مشرّقاً ومغرّباً حتى غدت لغة عالمية، وما زالت العربية إلى اليوم ترافق انتشار الإسلام في كل مكان يحط فيه رحاله، فلا يدخل قوم في دين اللَّه إلا وتبدأ المدارس العربية بالانتشار من أجل تعليم القرآن وفهم رسالة الإسلام.

‏ومع أن اللَّه - سبحانه - قد اختار العربية لغة لدينه فإنه لم يجبر غير العرب على ترك لغا تهم الأصلية، وبذلك تكون العربية اللغة الرسمية والمشتركة بين جميع الشعوب الإسلامية، إلا أنه مع طول الوقت والزمن نرى أن اللغات المحلية التي تتكلم بها شعوب إسلامية كثيراً ما تضعف ويقل التخاطب بها يوماً بعد يوم، وبذلك تحل العربية محلها في التخاطب، وبذلك يقترب المسلمون يوماً بعد يوم من العربية ويبتعدون عن لغاتهم القومية الخاصة، هذا إذا سارت الأمور سيراً طبيعياً وفي إطار الحكم الإسلامي الصحيح أما إذا كانت الجاهلية هي التي تتحكم فربما سارت الأمور باتجاه معاكس، كما رأينا ذلك في فترات الانحراف التي ذكرنا طرفاً منها فيما سبق.

لغة خالدة

‏لقد أعطى الإسلام للعربية صفة البقاء والخلود، حينما جعلها لغة القرآن الخالد والدين الخالد، حيث قد تكفل اللَّه بحفظ الذكر، والذكر: لفظ ومعنى، ولا يمكن فهمه إلاّ بلغة العرب، وإذن فلا بد من بقاء لغة العرب حتى يمكن فهم القرآن الكريم، ومن ثم نجد عالماً هندياً كالإمام عبد الحمد الفراهي، يصرّ على أن تكون مؤلفاته بالعربية، مع حاجة قومه الهنود إلى كتابات بلغتهم، ولما سئل عن ذلك قال: أردت لكتبي الخلود.

‏إن هذه الصلة الوثيقة بين العربية والإسلام أمر لا يمكن فصمه؛ لأنه قدر إلهي، وقد أدرك أعداء الإسلام ما لهذه الصلة من أثر كبير في قوة الإسلام والمسلمين، ورأوا أنهم إذا أمكنهم إضعاف العربية أو استبدالها، فسيحققون نصراً كبيراً في إبعاد المسلمين عن قرآنهم ودينهم، ومن ثم انطلقوا يدعون: إلى اللهجات العامية لتحل محل العربية الفصحى، كما دعا بعضهم إلى استبدال حروفها بحروف لاتينية، ليقطع صلة الأجيال الحاضرة بثقافتها وتراثها وتاريخها وقرآنها، كما فعل أتاتورك في تركية(clip_image008.jpg clip_image010.jpg clip_image012.jpg

‏وهكذا نرى أن كل ما طرح على المسلمين في هذا العصر باسم «مقومات الأمة»، أو «العناصر المكونة لها، لا يقوم على أساس، ولا يستند إلى دليل، وقد رجعت إلى معظم ما كتب - في هذا الموضوع - بأقلام من يسمون «المفكرون القوميون» فلم أر إلا كلاماً إنشائياً مزخرفا يعتمد على المغالطة حيناً وعلى التبعية الفكرية للغرب حيناً آخر، كل ذلك بغية قطع هذه الأمة عن جذورها الإسلامية الأصيلة، وتحويل خط سيرها في حاضرها ‏ومستقبلها بعيدً عن الاسلام العظيم.

أمة مسلمة

‏وبناء على ما تقدم، فقد اختار اللَّه لهذه الأمة اسماً يعبر عن حقيقة ما قامت عليه من عقيدة ودين، فلم يختر لها اسماً عرقياً ولا عنصرياً؛ لأنه يريدها أن تسير في طريق العقيدة التي تحكم حياتها، ويباعد بينها وبين أسباب التعصب والعداوات التي تمزق وحدتها وتضعها فريسة سهلة أمام عدوها، نعم لقد اختار اللَّه لهذه الأمة أن تكون أمة مسلمة ومسلمة فقط، ولكن ماذا تعني هذه التسمية وهذا الوصف؟.

‏إنها الصفة الأولى والأخيرة لهذه الأمّة، والتي غلبت عليها حتى أصبحت عَلَماً، وهي تدل على خضوع هذه الأمّة لخالقها وبارئها، واستسلامها لشريعته وحكمه، وانقيادها له في كل ما أمر ونهى، وسيرها على طريقته وهداه، واستلهامها لكتابه في كل ما يعرض لها من أمور ومشكلات في خط سيرها الطويل المليء بالأشواك والصعاب، والمحفوف بالمخاطر والمهالك.

ومن هنا فهذه التسمية، لم تأت عبثاً، واللَّه I هو الذي اختار لنا هذه التسمية: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...﴾ [الحج: 78].

‏وكان وجود هذه الأمَّة أمْنِيَّةً في ضمير إبراهم u، وحلماً يراود خياله وهو غارق في مناجاة ربه، يبني البيت ويرفع منه القواعد، ليكون هذا البيت مثابة للناس وأمناً:

‏و﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)﴾ [البقرة: 124 - 133] .

‏ومن هنا تبدو أصالة هذه التسمية وعمقها، ويبدو هذا التكرار: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ... إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ... فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ... قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ... ﴾ يبدو هذا التكرار أمراً مقصوداً ‏لدلالته الكبرى على صبغة هذه الأمة ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾[البقرة: 138]، ولا يجوز لهذه الأمّة بحال أن تغير هوّيتها، وأن تسمي نفسها باسم مستعار يخفي حقيقتها، ويشوّه شخصيتها، ويُعَرِّضها للمهانة والأذى بعد أن اختار اللَّه هذه التسمية المطابقة لها تمام الانطباق.

والأمّة المسلمة هي التي تقوم الروابط بين أفرادها على أساس العقيدة، والعقيدة وحدها، دون سائر الاعتبارات والروابط التي تعارف عليها البشر، ومن ثَمّ  يلفت اللَّه I نظر إبراهيم u إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، وإذن فالأمر ليس أمر ذريَّة فقط، وإنما هو أمر الذرية الصالحة، أو الذرية الظالمة، ويبدو أن إبراهيم u قد استوعب هذه الفكرة بسرعة فائقة حتى إنه ليقول بعد ذلك مباشرة ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾.

‏وواضح هنا دعاء إبراهيم u: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فقد برزت رابطة العقيدة سافرة قوية في الوقت الذي توارتْ فيه روابط الأرض والتراب، على أن الإسلام يحترم هذه الروابط الأرضية، ولا يقلل من شأنها إلاّ إذا تعارضت مع رابطة العقيدة، ويقول اللَّه تعالى في ذلك:  ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75]، كما يقول سبحانه: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ [الإسراء: 26]، بل إنه ليقيم نظام الإرث كله على أساس رابطة النسب، لكن ذلك كله ضمن إطار رابطة العقيدة، كما قدمنا.

‏أما إذا تعارضت رابطة النسب مع رابطة العقيدة، فحينئذ: (لا توارث بين أهل ملتين شتى)، وحينئذ لا تجوز طاعة الوالدين في الشرك: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: 8] ‏.

‏وهذا نوح u ينادي ابنه: ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود: 42 - 46] .

‏هكذا إنه ليس من أهلك الذين وُعِدْتَ بنجاتهم، لقد فرقتْ بينك وبينه العقيدة، حتى لم يعد هناك اعتبار لصلة القربى بينك وبينه.

‏بل هذا هو إبراهيم نفسه u يحب ابنه إسماعيل حباً يملك عليه نفسه وجوارحه، فيأمره اللَّه تعالى بذبحه، فيستجيب لذلك مستسلماً لأمر اللَّه، ويُقدم على ذبح ولده بيده، متقرباً في ذلك إلى اللَّه تعالى.

‏إنه أروع مثال عرفه التاريخ في تعارض رابطة العقيدة على رابطة الدم، بل إنه أروع مثال عرفه التاريخ في تغلب رابطة العقيدة على رابطة الدم، بل إنه أروع مثال عرفه التاريخ أن يؤمر نبيٌ بذبح ابنه النبي تقرباً للَّه تعالى، وتصحيحاً للقيم والروابط التي ينبغي أن تفيء إلى العقيدة ... وإلى العقيدة وحدها.

‏وبعد: فهذا هو مفهوم الأمة في لغة العرب وفي القرآن الكريم، وعلى هذا المفهوم قامت الأمة المسلمة خلال التاريخ، ولم تعرف الأمة الإسلامية في ‏تاريخها الطويل مفهوماً آخر مغايراً للمفهوم الإسلامي، ولقد عرفنا محاولات المستشرقين في مطلع هذا البحث والتي تهدف إلى التشكيك في أصالة عربية هذه الكلمة بحجة أن لها معاني كثيرة ‏لا تجمع بينها صلة اشتقاقية، وقد بيَّنا ‏خطأ ونتائج هذا الاتجاه الاستشرا قي بالأدلة القاطعة، وأنه لم يوقعهم في هذا الخطأ إلا حقدهم على هذه الأمة وعلى تراثها وتاريخها.

‏وكما تتعرض القيم الإسلامية لهجوم المستشرقين الماكر، فإنها كذلك تتعرض لهجوم المرجفين من العرب المستغربين، وإذا كان هجوم المستشرقين يهدف إلى نفي الأصالة عنها، فإن هجوم المرجفين العرب يهدف إلى تجريد المصطلحات والقيم الإسلامية من معانيها الإسلامية، وإلباسها مفهومات جديدة مغايرة لدلالتها الإسلامية بغية قطع هذه الأمة عن جذورها التاريخية الإسلامية، وتغيير مسارها الحضاري بعيداً عن الإسلام العظيم مصدر قوتها وازدهارها، وربما كانت لنا عودة لتتبع هؤلاء المرجفين في محاولاتهم اليائسة للنيل من هذا الدين وقيمه الخالدة.

‏والحمد للَّه رب العالمين.

([2]) آخر ما قرأ ناه في هذا الموضوع ما كتبه صفوان قدسي في مجلة «المعرفة» السورية: عدد / 175/ أيلول سنة 1976م، مناقشاً بعض وقائع الملتقى العاشر للفكر الإسلامي الذي انعقد في «عنابة» بالجزائر في شهر تموز من سنة 1976م تحت عنوان: «القومية البغيضة ومناقشات أخرى»، قال صفوان قدسي: «... لكن القيامة قامت ولك تقعد عندما عقّبتُ على نقطتين اثنتين وردتا في محاضرة الدكتور الفاروقي، أما النقطة الأولى فهي اجتهادي في تفسير الآية الكريمة ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً﴾ بأن المقصود فيها هو الأمة العربية بالذات، وليس أمة أخرى على الإطلاق، فالذين استساغوا حديث الدكتور الفاروقي عن «القومية البغيضة» لم يرضهم هذا التفسير، واعتبروه خروجاً على كل ما عرفوه من تفاسير لهذه الآية الكريمة، فاختلفوا إلى المنصة يردون ويعترضون، وعلى الرغم من أن الأستاذ الدكتور محمد المبارك قد سبقني إلى هدا الاجتهاد في كتا‏به «الأمة العربية في معركة تحقيق الذات» كما ذكر لي بعد انتهاء المناقشات، فإن الجوّ الانفعالي الذي ساد هذه المناقشات حال بينه وبين أن يقوم لمناصرتي في الأخذ بهذا التفسير - انتهى كلام صفوان قدسي -.

ونحن نطمئن الأستاذ صفوان قدسي بأننا لم نسمع محاضرة الدكتور الفاروقي، وبالتالي لم نتأثر بها، ومع ذلك فإن لنا معه وقفة نسائله فيها عن اجتهاده وتفسيره:

‏لقد أطلق الأستاذ صفوان دعوى عريضة جداً، وهي أن المقصود بـ«الأمّة» في قوله: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً﴾ الأمة العربية بالذات، وليس أية أمة أخرى على الإطلاق، وأمام هذه الدعوى العريضة لم يقدم لنا دليلاً واحداً على اجتهاده في هذا التفسير، ونحن لا ننكر على الأستاذ صفوان حق الاجتهاد في التفسير، ولكننا نطالبه بالدليل الذي اعتمد عليه في هذا الاجتهاد، وإذ لم يقدم لنا هذا الدليل، فإننا نعتبر اجتهاده هذا من لغو القول الذي تعافه النفوس والعقول، وبالتالي فإنه مجرد خاطرة خطرت في نفسه فسارع بإعلانها دون أن يفطن لمنافاتها لكل عقل ونقل وكان يجدر به أن يَخْبأْها لنفسه، وأن لا ينشرها على الناس في مجلة تحمل اسم «المعرفة».

إن ما جرى بينه وبين الأستاذ المبارك لا نخوض فيه؛ لأننا لم نسمع، ولم نعرف كل ما دار بينهما، ولكن الذي نعرفه أن ما كتبه الأستاذ المبارك في كتابه «الأمة العربية في معركة تحقيق الذات»، والزى درسناه عليه في جامعة دمشق ليس فيه مثل هذا الاجتهاد في التفسير، وكان يحسن بالأستاذ صفوان أن يعود إلى الكتاب بعد عود ته من الجزائر، وأن ينقل رأي الأستاذ المبارك من كتابه، وأن يستشهد به في مقاله، هذا ما تتطلبه أصول البحث العلمي، وإذْ لم يفعل ذلك الأستاذ صفوان، فإنه يبقى في الميدان وحيداً في اجتهاده وتفسيره، وهذا يتطلّب منه جهداً أكبر في البحث عن دليل لاجتهاده وتفسيره.

إنّ من الأصول المقررة في فهم أي كلام مراعاة سياقه؛ حيث يختلف المعنى باختلاف السياق، ولو أننا رجعنا إلى الآية موضوع البحث، وقرأناها كاملة ربما ساعدتنا على بيان المراد منها، يقول اللّه تعالى في الآية (143) من سورة البقرة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 143].

إن نظرة واحدة لهذه الآية تبين لنا أنها خطاب للمؤمنين من المهاجرين والأنصار الذين كانوا في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول e إليها، ذلك أن سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة بعد الهجرة، وسياق الآية في شأن تحويل القبلة كما هو واضح، وأظن ان الأستاذ صفوان يوافقني في أن العرب الذين لم يُصَلُّوا إلى بيت المقدس ككفار قريش لا يدخلون فيها بدليل الخطاب في آخر الآية ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾، إذ من المعروف أن الإيمان - هنا - يقصد به الصلاة إلى بيت المقدس، وذلك ردّ على اليهود الذين اعتبروا صلاة المسلمين إلى بيت المقدس ضائعة بعد أن حولت القبلة إلى الكعبة.

لو احتكمنا إلى قواعد اللغة العربية في تفسير هذه الآية، فماذا نجد:

‏إن «جعل» تكون بمعنى «خلق»، وتكون بمعنى «صيّر» وتكون بمعنى «سمّى»، فتكون بمعنى «خلق» إذا نصبت مفعولاً واحداً، كقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1]، وتكون بمعنى «صيّر»، أو «سمّى» إذا نصبت مفعولين، فمما جاءت به بمعنى «صيّر» قوله تعال حكاية عن فرعون: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ [القصص: 4]، ومما جاءت به بمعنى «سمّى» قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ﴾ [المائدة: 103]، فلا يصحّ هنا إلاّ معنى «سمّى»؛ لأنها «البحيرة»، و«السائبة»، و«الوصيلة»، و«الحام» من تسمية المشركين للأنعام التي لم يُسمّها اللّه بذلك، ولا يصح هنا معنى «الخلق»، ولا معنى «التصيير»؛ لأنها لو كانت بمعنى الخلق لكانت: «ما خلق اللَّه من بحيرة ...»، ونفي ذلك كفر؛ لأنها نوع من الأنعام التي خلقها اللّه، وكذلك معنى «التصيير» غير واردٍ أيضاً لأنه لا يصح.

‏ولو رجعنا إلى الآية موضوع البحث، نجد أن «جعل» فيها نَصَبتْ مفعولين هما الكاف في قوله: ﴿جعلناكم﴾، و﴿أمّة﴾، وعلى هذا لا يصح فيها معنى «خلق»، ولو كانت بمعنى «خلق»  لجاز أن يُرادَ بـ «الأمة الوسط»: العرب،. فلم يبق إلاّ معنى «صيّر»، أو «سمّى»، فإذا قلنا إنها بمعنى «صيّر» فمعنى ذلك أنكم لم تكونوا أمةً وسطاً، ثم صرتم كذلك، وهذا يعني أنه لا بد من سبب صرتم بموجبه كذلك، وليس ذلك إلاّ بالإسلام بدليل: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾، ولا يدخل في هذه الأمة الذين لم يصيروا مسلمين لأنهم بقوا على ما كانوا عليه، وإذا قلنا إنها بمعنى سمّى كان المراد بـ«‏الأمة الوسط» الأمة المسلمة؛ لأن هذه التسمية لم تُعرفْ للعرب قبل ‏الإسلام، ويدل على هذا قوله تعالى في الآية (78) من سورة الحج وما قبلها ‏حيث جاء فيهما: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78].

‏فإذا فسّرنا ﴿جعلناكم﴾ في آية البقرة بمعنى «سمّى» ‏كان معنى آية الحج ‏مساوياً لها:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج: 78]، وبمثل هذه الأدلةِ من اللغة والقرآن يكون ‏الاجتهاد ويكون التفسير، ولا يكون بمجرد الدعوى من غير ما علمٍ ولا هدى ولا كتاب منير.

([3])‏ جاء في هامش صفحة 330 من الجزء الأول من كتاب الإسلام والحضارة العربية لمحمد كرد علي:

‏     «سألت في الحرب العامة صديقيَّ سليمان نظيف وجناب شهاب الدين من أعاظم أدباء الترك وعلمائهم - أن يمليا عليَّ جريدة بأسماء كتب العلم التي وضعها الأتراك العثمانيون في العهد الأخير، فأنكرا سؤالي وقالا: وهل تذهب إلى أننا أمة علم، ومن أين نأتيك بهؤلاء المؤلفين الذين لم ينشؤوا بين أظهرنا إلى اليوم ؟ نحن أمة خيال وأدب، وجلّ ما عنانا من هذا القبيل شعر وقصص نقل أكثره عن اللغات الأوروبية، وما خلّفه الموسومون بالعلم من أبنائنا في فنون الحرب والبحر والقانون والإدارة، فإنما هو مترجمات، لا بد لنا في متونها وشروحها وحواشيها إلا القليل الذي لا يؤبه له، قالا ذلك وكانا يأسفان لأنه لم يتم للسلطان سليم تنفيذ منهاجه في نشر اللغة العربية، وجعلها لغة الدولة الرسمية، قائلين لن وُفِّق إلى تحقيق أمنيته لكان العثمانيون غير ما هم عليه اليوم، يكتبون العربية مشبعة بهواء الآستانة الجميل ورِقَّة بيزنطية، ولأدمجوا حضارة العرب فيهم وكثَّروا سوادهم، فأتوا بمدنية جديدة توحدت فيها جميع عناصر السلطنة».

وسوم: العدد 821