أخي حيدر الإنسان

عبدالرزاق دياربكرلي

يطيب لي أن أكتب هذه المقدمة الضافيـة لديوان أخي وصديقـي وزميلي الأخ الدكتور حيدر الغدير، وهو الديوان الذي يجمع شعره كاملاً ما نشر منه، وما لم ينشر، وقد اعتمدت في إعداد هذه المقدمة على صلتي الوثيقة به، التي تمتد أكثر من أربعين عاماً، وهي صلة طيبة كريمة جداً، ملأى بالود والاحترام، أنبتها وشد عراها تماثل في الولاء والاهتمام والطباع والتخصص، يكاد يصل إلى درجة التطابق في كثير من الأحيان، ولا عجب فالأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، كما قال نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، كما أني اعتمدت فيها على مجموعة من أوراقه الخاصة التي اطلعت عليها.

وإني إذ أشكر اللَّه على ما يسر وأعان، أقرر أن هذه المقدمة يمكن أن توصف بأنها «شهادة من الداخل» حاولت أن أكون فيها أميناً ودقيقاً وموضوعياً.

* * *

ولد أخي حيدر في مدينة دير الزور الواقعة في بادية الشام على ضفاف شاطئ الفرات في سوريا، عام 1358هـ - 1939م، وهي مدينة مسلمة عربية عشائرية، فيها شيء من سمات البادية، وشيء من سمات العراق، وشيء من سمات الشام، وكان الشيخ علي الطنطاوي : يصفها بأنها «سفارة عراقية في سورية»؛ لما رآه من طباع أهلها وعاداتهم وأزيائهم وأمزجتهم، فيما يصف آخرون مدينة الموصل العراقية بأنها سفارة سورية في العراق.

وهو ينتمي إلى القبيلة العربية الشهيرة (شَمَّـر)، وجده الذي تحمل عائلته اسمه (الغدير) ولد على ضفة أحد الغدران في بادية الشام، ومن هنا جاءت تسميته وتسمية أسرته من بعده، وقد كان لأخيه الأكبر (هشام) : ولعٌ بالغٌ بقضية القبائل والنسب، والأصول والفروع، وقد استطاع أن يصل بسلسلة نسبهم إلى الجد الثاني عشر (محمد البشر العلي) : الذي هاجر أيام الدولة العثمانية من منطقة حائل واستوطن بادية الشام قريباً من نهر الفرات، ويزيد من قيمة معلوماته وصدقها أنها تأكدت من مصادر أخرى لها احترامها.

* * *

وفي دير الزور حصل على الشهادة الابتدائية عام 1952م، والمتوسطة عام 1956م، والثانوية عام 1959م، وبعد ذلك شدَّ الرحال إلى مصر فدرس في قسم اللغة العربية، بكلية الآداب، في جامعة القاهرة، وتخرج فيها بتفوق عام 1383هـ - 1963م، ثم حصل على الدبلوم العام في التربية من جامعة دمشق عام 1384هـ -1964م، وعلى الماجستير في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1410هـ -1990م، وكان موضوع رسالته (الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ)، ثم حصل على الدكتوراه في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة عين شمس عام 1414هـ - 1994م، وكان موضوع رسالته (عمر أبو ريشة: دراسة فنية) وقد طبعها بعد تعديل وحذف وإضافة باسم (عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً).

ولعلي أعرف الجميع بهذه الرسالة، لأني تابعتها منذ كانت فكرة في رأس مؤلفها، فمذكرة تقدم بها إلى الجامعة، فبحثاً تجيزه اللجنة العلمية المناقشة، فكتاباً مطبوعاً.

* * *

بصمات ومؤثرات:

في حياة كل إنسان مجموعة من الظروف المتنوعة، التي تمر به، وتضع آثارها عليه بدرجات متفاوتة، وحظ الإنسان من النجاح والتوفيق يساوي حظه من هذه الظروف، خيراً كان أم شراً، تفوقاً كان أم إخفاقاً، وهنا نعرض أهم ما مرَّ بشاعرنا من ظروف تركت بصماتها عليه.

الإسلام:

الإسلام هو أكبر المؤثرات في حياته على الإطلاق، وهو إسلام فطري استمده من بيئته المسلمة المتدينة بفطرتها وطبيعتها، تلاه بعد ذلك إسلام واعٍ شامل النظرة، محيط بقضايا البلاد والعباد والعصر، أخذه من أساتذته الدعويين الذين أثروا فيه، ومن قراءاته الطويلة عن الإسلام، وتاريخه، وأعلامه، وحركات الإحياء والتجديد فيه، ومع اعتزازه الواعي بدينه فهو يكره الغلو والتكلف، ويميل إلى الوسطية والسماحة، وهو يصر على أن أول أعداء العمل الدعوي هم المشوهون في عقولهم وضمائرهم، حتى لو كانوا مخلصين، والمتاجرون بهذا العمل الشريف الذين يتخذون منه وسيلة لتحقيق مطامعهم الدنيوية، الشائنة أياً كان نوعها ودرجتها، وقد أحب الإسلام حباً جماً ملأ عليه أقطار نفسه، ومنحه ولاءه وإخلاصه، وكلما ازداد خبرة وسناً ازداد يقيناً بأن هذا الدين الخاتم هو سبيل الفوز لنا أجمعين، أفراداً وجماعات، في الدنيا والآخرة، ومع الزمن، ومع إدمان القراءة، وإطالة التفكير في صواب العمل الإسلامي وخطئه، تشكلت لديه وجهات نظر خاصة، توافق حيناً وتخالف حيناً ما هو شائع في بعض بيئات العمل الدعوي.

دير الزور:

أثرت هذه المدينة فيه أثراً بالغاً، فهذه المدينة المسلمة، العربية، العشائرية، التي تتعانق فيها البادية مع الحاضرة، والشام مع العراق، في تناغم وانسجامٍ عجيبين، زرعت فيه حبَّ العرب، والإعجاب بأخلاق الفرسان النبيلة، ولقد سكنت هذه المعاني في أعماقه، وقد حاول أن يكون على مستواها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

المرحلة الجامعية:

لقد تركت السنوات الجامعية فيه أثراً بالغاً، فقد كان طالباً جاداً متفوقاً متفرغاً للقراءة والاطلاع والعلم، في قسم اللغة العربية، في كلية الآداب، في جامعة القاهرة (1959- 1963م)، ومن أكبر ما انتفع به في تلك المرحلة حرصه الشديد على حضور مناقشات الماجستير والدكتوراه، وكان يختار مكاناً قصياً في قاعة المناقشة، ويسمع ويتأمل ويختزن، فتعلم الكثير من مناهج البحث، وقواعد التدقيق، وضوابط البحث العلمي. وكان في غاية السعادة؛ لأنه تلقى العلم على أيدي كوكبة من الأساتذة الأجلاء، ومنهم: شوقي ضيف، يوسف خليف، عبدالعزيز الأهواني، زكي نجيب محمود، عبدالحليم النجار، حسين نصار، سهير القلماوي، عبد الحميد يونس، شكري عياد، محمد رشاد سالم، وغيرهم، وكان يحظى من بعضهم بالإعجاب والتشجيع.   

القراءة:

كان أخي حيدر وما يزال مولعاً بالقراءة إلى درجة الإدمان، ويقرأ في مجالات متنوعة، وتراه إذا أقيم معرض للكتاب يتفرغ لـه عدة أيام باحثاً عن الجديد في اللغة والشعر خاصة، وفي مختلف ألوان المعرفة التي تلامس اهتماماته وتطلعاته، وفي السنوات الأخيرة أصبح يركز على الشعر والسياسة أكثر من سواهما، وعلى هموم الأمة، وعنده أن القراءة كالرياضة يحتاج إليهما الجميع، وحاجة الكبار إليهما أكبر؛ فالقراءة تؤخر الشيخوخة العقلية، والرياضة تؤخر الشيخوخة البدنية، وكلتاهما معاً تبقي للمرء حضوراً اجتماعياً فاعلاً في وسطه ومحيطه.

وكان من أمنياته أن يدرس علوم الأصول في الفقه والتفسير والحديث؛ لأنها مفخرة العقل المسلم من ناحية، ولأنها من ناحية أخرى تحمي المرء من الخطأ، وتعيده إلى الصواب إذا حاد عنه، إنها ضوابط محكمة صاغتها عقول نادرة صياغة في غاية الدقة والإيجاز، جمعت بين النظر الشرعي السديد، والبصر العقلي العميق.

الأسفار:

لقد أكرمه الله بأن سافر إلى عدد من البلدان، وأعانه على ذلك أنه عمل في «الندوة العالمية للشباب الإسلامي» في الرياض، أكثر من عشر سنوات، ومن طبيعة أعمال الندوة إقامة المخيمات، والمؤتمرات، وكان يحرص في أسفاره على التجوال والتعرف إلى الطباع، والعادات، والثقافات، والأحوال السياسية والثقافية والاجتماعية للبلد الذي يزوره، ويقتني كل ما يمكن أن يقع تحت يده من الكتب والمراجع التي تتحدث عن هذا البلد أو ذاك، ويقرأ ما فيها بتمعن، ويحرص على زيارة معظم الأماكن والمواقع المهمة الواردة فيها ليشاهدها مشاهدة معاينة، وقد أورد في كتابه «صلاة في الحمراء» الكثير من القصص التي عايشها وهو يتجول في إسبانيا لأنه زارها أكثر من سواها بدوافع دينية وتاريخية وسياحية وأدبية، وفي هذا النوع من التجوال متع وفوائد ومعلومات لا يجدها الإنسان في المراجع والكتب.  

الندوة العالمية للشباب الإسلامي:

عمل أخي حيدر في هذه المؤسسة المباركة أكثر من عشر سنوات، ولها فضل كبير عليه، من حيث السفر، والمعلومات، والعلاقات، ومن أهم أفضالها عليه أنها عرَّفته بالإمكانات الهائلة التي تملكها الأمة، وبالمستقبل الواعد الذي ينتظرها، كما عرَّفته بأخطاء العمل الدعوي، وهو ما جعله عميق الإيمان بأهمية التقويم والمراجعة والتصحيح، وإعلان هذه الأخطاء  جهاراً نهاراً حتى لا تكررها الأجيال القادمة من الدعاة، وهو يصف ذلك بأنه واجب شرعي وضرورة عقلية، ويصف السكوت عن هذا الإعلان بأنه تفريط يصل إلى درجة الجريمة، كما أنه يرى أن عملية التقويم والمراجعة والتصحيح والإعلان، ينبغي أن تسير جنباً إلى جنب مع عملية اكتساب مواقع جديدة للعمل الدعوي، بل ربما يجب أن تتقدم عليها، والقاعدة الشرعية التي تقول: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» خير شاهد على ذلك.

عهود كريمة:

لقد قطع على نفسه مجموعة من العهود الكريمة التي جعلها نبراساً لـه في حياته يعتز بها كثيراً، ويستحضرها دائماً، ويحرص على العمل بها، وهي:

-    تحري الصدق والتزامه.

-    كتمان السر.

-    الإخلاص في النصيحة لمن يطلبها منه، وقبولها ممن يهديها إليه.

-    عدم مقابلة الإساءة بمثلها.

-    شجاعة الاعتذار لمن يخطئ في حقهم.

-    حفظ الجميل لمن أحسن إليه.

-    بذل المروءة في حالة القدرة، والاعتذار عنها في حالة العجز.

-    تكوين الرأي بنزاهة وتمحيص، والاعتزاز به، ووجوب التبديل إذا دعت إليه دواعٍ كريمة.

-    للمسلم أن يأخذ بالرخصة، ولكن ليس له أن يأخذ بالدنية.

-    من لم يستطع أن يقول الحق فعليه على الأقل ألا يقول الباطل.

هو والشعر:

لقد تعلق د. حيدر بالشعر منذ صباه الأول على ما كان يذكره لـي من ميول وهوايات، وازداد تعلقه به مع الزمن حتى كاد يصبح هاجسه الأول، وبدأ النشر وهو في حدود الخمسين من عمره خوفاً من أن ينشر شيئاً يندم عليه بعد ذلك، والشعراء المفضلون لديه هم: المتنبي، أحمد شوقي، بدوي الجبل، عمر أبو ريشة، وكثيراً ما يعيد قراءة دواوينهم مرات ومرات. وهو يحبُّ النظم في الأوقات التي يفرغ فيها البال، ويعتدل المزاج، وتغيب الصوارف، وتطول الخلوة، وتجتمع الشوارد، وقد سمعت منه أكثر من مرة أنه ألقى على زملائه الطلاب وهو في المرحلة المتوسطة قصيدة من شعر غيره في حفل مدرسي عام، وألقى عليهم وهو في المرحلة الثانوية قصيدة من شعره المبكر، وأنه كان في منتهى السعادة.    

والنصوص التي تطيب لـه جداً من شعر المتنبي، وشوقي، وبدوي الجبل، وعمر أبي ريشة، وغيرهم من قدامى ومعاصرين، يعطيها عناية خاصة، وربما قرأ الواحد منها ثلاثين مرة قراءة تأمل وتذوق في خلوات تطول أو تقصر، وتتباعد أو تتقارب.

وفي هذا النوع من القراءة فوائد جمة، لأنها قراءة اختزان واستيعاب وتمثل، من شأنها أن تصل صاحبها بأروع نصوص الشعر العربي، فترتقي بشاعريته، وتعلو بقدراته، وربما وضعت بصماتها عليه، ولا حرج في ذلك، فالشاعر لا بد له أن يتأثر بهذا أو ذاك، والأفضل له أن يتأثر بالشعراء المحلقين.

الخلوة:

إنه مولع بالخلوة بين الحينٍ والآخر، ويجد فيها سعادة بالغة، ويحرص على أن تكون الخلوة إيجابية من ناحية، وألا تطول من ناحية أخرى، وبذلك أصبحت الخلوة لـه مدرسة حقيقية للمراجعة والمحاسبة والتجديد، وترتيب الأولويات، واكتشاف البدائل والحلول، وقد انتفع من ذلك كثيراً وهو يقول عنها: إنها أستاذ حقيقي لي.

الدعــاء:

لقد أولع الأخ حيدر بالدعاء منذ أوائل شبابه، حسب ما ذكره لـي في مرات كثيرة، فقد حفظ مجموعة من المأثورات الطيبة من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، واعتاد على قراءتها مرتين في اليوم، صباحاً ومساءً، يضاف إلى ذلك ما يقوله المسلم كل يوم، لدى استيقاظه، ونومه، مروراً بكل تفاصيل حياته ومجرياتها، وأول كتاب عني به في هذا المجال هو كتاب «الأذكار» للإمام النووي.

ومع الزمن أخذ يضيف إلى ذلك ما يطيب لـه من أدعية مختلفة تمرُّ بـه، ويحفظها، ويضعها في مكانها المناسب من نفسه، وبين أوراقه، وصار الوقت الذي يستغرقه ليقرأها كلها ساعة كاملة يجد فيها سعادة بالغة جداً، وتجده مشدوداً بقوة إلى وقتها المحدد لها، وإذا فاتته - وقلَّ أن تفوته - فإنه يشعر بضيق شديد ويلوم نفسه لوماً شديداً.

كما كان يعطي الدعاء عناية خاصة في الأوقات الشريفة، والأمكنة الشريفة، والأحوال الشريفة، وفي يوم الجمعة، وليلة القدر، وحين يكون في أحد الحرمين حيث تزداد العناية لديه بهذا الأمر زيادة بالغة؛ الأمر الذي كان يدعوني إلى تجنب الاتصال به هاتفياً، أو إطالة الحديث معه في تلك الأوقات لعلمي أنه سيتضايق من ذلك كثيراً بسبب إشغالي لـه عن هذا الأمر الذي هو عاكف عليه، ومتفرغ لـه في تلك الأزمنة أو الأمكنة، وقد عُرِف بين أهله وخاصة صحبه بولعه بالدعاء، فإذا حدثتـه ووجدته غير منتبه لي أقول لـه: لا بد أنك الآن تتبتل فادع لي. وأخونا أبو عمر د. أحمد البراء الأميري يقول لـه: لا أعرف أحداً بين أصدقائنا هو أحفى منك بالدعاء.

ومن الطريف أن هناك من يتصل به بالهاتف، من الداخل والخارج، ليطلب منه أن يدعو لـه، ويسمي له حاجته، فإذا وعده فعل ذلك.

وقد جمع الكثير من كتب الدعاء فوجد أكثرها تكراراً وإعادة، لكنه حينما قرأ كتاب الشيخ محمد الغزالي «فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء»، وجد شيئاً آخر، فقد وجد الشيخ يحلل، ويفسر، ويعقِّـب، ويكتب بروح العالم الثبت، والمحب العاشق، والأديب الملهم، وفي لغة مشرقة، وبيان رائع. وقد قرأ هذا الكتاب عدة مرات، ووجد فيه متعة بالغة، وفوائد جمة، وإشارات ذكية، وكان يشتري منه نسخاً ويهديها لخاصته ولمن يحب، ويعود إليه المرة بعد المرة، وينصح مَنْ حوله بشرائه واقتنائه والعمل بما ورد فيه من أدعية ومأثورات.

وأحبُّ أحوال الدعاء إليه هي حين يمشي منفرداً، فالوحدة تعين على التركيز، والمشي يعين على الانسجام بين حركة الجسد وأشواق الروح، وحينذاك كان يعيد على مسمعي أنه قد ظفر باثنتين: «ساونا جسدية» مردها إلى حركة الجسد، و«ساونا روحية» مردها إلى أشواق الروح.

المجالس الأدبية والثقافية:

كان أخي حيدر حريصاً على الحضور إلى البيوت العلمية التي تقام فيها أمسيات جميلة أدبية وثقافية، ويتفاوت حظها من الأهمية بطبيعة الحال، وكان يرى أن هذه المجالس هي «مدارس حقيقية» إذا أحسن الإنسان الاستفادة منها؛ حيث تزداد معرفته، وتتجدد خبرته، ويتعلم الإنسان فيها فن الحوار، وفن الصمت، وفن التفكير، وفن المشاركة. ولقد حضر مجالس كثيرة في مصر كان أبرزها مجلس الأستاذ العقاد، ومجلس شيخ العربية الأكبر محمود محمد شاكر. وفي السعودية كان يحضر مجلس عبدالعزيز الربيع في المدينة المنورة. ومجلس عبدالعزيز الرفاعي، ومجلس أنور عشقي، ومجلس أحمد باجنيد، ومجلس راشد المبارك، ومجلس عثمان الصالح، في الرياض. وقد زادت هذه المجالس من معلوماته، ووسعت من علاقاته، وعدَّلت في آرائه، وشجَّعته على مراجعة نفسه تجاه العديد من المواقف والقضايا.

ومن أهم أفضال هذه المجالس عليه، أنها أتاحت لـه فرصة ثمينة ليتعرف من خلالها على أعلام كبار من داخل المملكة وخارجها، ما كان لـه أن يعرفهم لولاها، وأتاحت لـه الفرصة ليعلق فيها على رأي هذا الضيف أو ذاك مرة، ولينشد شيئاً من شعره مرة، وليحاضر في موضوع يُطلب منه مرة، وكان يعد محاضراته التي تطلب منه إعداداً متقناً جداً؛ احتراماً لنفسه، واحتراماً لسامعيه، ولأفضال هذه المجالس عليه كان يقول: إنها حقيقة بمنزلة أستاذ كبير لي تعلمت منه الكثير.     

العرب والعربية:

أحب حيدر قومه العرب حباً جماً دون أن يتجاوز في هذا الحب الحدَّ السوي. وعنده أن الفطرة السوية تدفع المرء إلى حب قومه والاعتزاز بهم، وهو دليل على كرم النفس ونقاء الطبع. وحب العربي لقومه مرده إلى النزعة الفطرية لديه من ناحية، ومرده من ناحية أخرى إلى أن للعرب - في الجملة – مزايا عالية من العقل الذكي، والطبع السوي، وسعة الأفق، وكرم اليد، وحب الخير، وهو ما جعلهم يتفوقون في ذلك على سواهم. والعصبية المذمومة هي العصبية الجاهلية، أما العصبية الرشيدة فهي خير عميم، والرسول يقول: (خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم). وهذه المزايا هي التي جعلتهم جديرين بحمل رسالة الإسلام؛ فقد اختارهم الله لهذه المهمة الجليلة بسبب ذلك، ﴿واللَّه أعلم حيث يجعل رسالته﴾، ولقد كان العربي مكاناً وزماناً ولساناً وإنساناً، هو الأجدر بذلك التكليف، وذلك فضل يؤتيه اللَّه من يشاء، وعلى العربي أن ينظر إلى هذه الميزة على أنها تكليف لا تشريف، ومسؤولية لا مفاخرة، وكان يردد بإعجاب جملة أعجبته ونسي قائلها، ولعله الشيخ محمد رشيد رضا :، وهي: «القليل من العصبية يُعَمِّـر، والكثير منها يُدَمِّـر». يضاف إلى ذلك أن العقل العربي المسلم _ في الجملة ـــ فَهِمَ الإسلام أفضل من فهم العقل المسلم غير العربي، وهي حقيقة لها شواهد كثيرة جداً، وشهد بها عدد من أعلام الإسلام غير العرب، ومرد ذلك إلى أن اللغة هي أداة للفهم والتعبير من ناحية، وهي طريقة في البناء العقلي والتفكير من ناحية أخرى. 

لذلك؛ فإنه لا غرابة أن أحب العربية حباً جماً، لمزاياها الكثيرة، وأهمها أنها لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ومعظم التراث الإسلامي، ولأنها اللغة التي رضعها منذ نشأته، ولأنه درسها في الجامعة عن رغبة تصل إلى حد العشق، وقد مرت به في قراءاته فكرة أعجبته كثيراً، وهي أنه حيث انتشر الإسلام مقترناً بانتشار اللغة العربية معه، كان ذلك أفضل من ناحيتين، من حيث صحة فهم الإسلام، ومن حيث ثبات الإسلام ورسوخه، والدرس المستفاد من ذلك أن على الدعاة أن يحرصوا على نشر الإسلام والعربية معاً، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وهو يرى أن أعظم أخطاء الدولة العثمانية أنها لم تتعرب، ولو أنها تعربت لكان فهمها للإسلام أصح، ولكان رسوخه أقوى وأخلد، ولكان نجاح أتاتورك في فصلها عنه أضعف.

وما قيل عن حق العرب في الاعتزاز بجنسهم ولغتهم، يقال عن حق المسلمين غير العرب في ذلك، المهم أن يبقى اعتزاز الجميع في الحدود السوية الرشيدة، وفي ذلك خير للجميع.

فضيلة الصدق:

إنه صادق جداً، يحب الصدق فطرة وديناً، ويكره الكذب فطرة وديناً، وقد عُرِف هذا الأمر عنه بين أصدقائه وخصومه على السواء، وهو يرجو أن ينال بذلك منزلة «الصِّـدِّيق» عند اللَّه ، وهي منزلة كبرى يرجو بها الفوز يوم القيامة، وكان يردد دائماً: إنه لا يستطيع أن يصل إلى مستوى العباد والزهاد والمجاهدين والعلماء والدعاة، ولكنه يرجو أن يقترب منهم بفضيلة الصدق التي أكرمه اللَّه بها، واعترافاً بفضل اللَّه عليه والشكر لـه، كان يصرُّ على أن هذه الفضيلة هي فضيلة «وهبية» لا «كسبية» لم ينلها بجهده، وإنما برحمة اللَّه وتفضله عليه بها.

طبع سوي:

وهو سوي الطبع، يكره التكلف والمتكلفين، والمتشدقين والمتفاصحين، ويرى أننا نستطيع أن نقول أحسن الكلام وأصدقه وأصحه وأعمقه، في بيان واضح قريب، يفهمه الجميع على اختلاف مستوياتهم، ويرى أن على المفكرين عامة، والدعويين منهم خاصة، أن يخاطبوا الناس بكلام سهل مفهوم لا يحتمل إلا معنى واحداً؛ لأن مثل هذا الكلام يقع موقع القبول فيفهمونه ويتبنونه، خلافاً للكلام الغامض الملتف المعقد الذي لا يصرح ولا يحسم ولا يجزم، والذي ينفر المرء السوي منه ولا يتقبله. ويرى أن الذين يلجؤون إلى هذا النوع من الكلام هم ما بين متفاصح أو مدَّعٍ يريد أن يضفي على نفسه صفة الإبداع والتميُّـز، أو خائف لا يريد أن يقول ما عنده بصراحة، أو هو إنسان يعاني من عجمة فكرية، أو لسانية، فهو بسببها لا يعرف بالضبط ما يريد فكراً، ولا يستطيع أن يعبر عنه بياناً.

نفس حـرَّة:

إنه رجل حـرٌّ بكل معنى الكلمة، لذلك تراه يجمع بين التواضع والعزة معاً، فعزته مبرأة من الكبرياء، وتواضعه مبرأ من الضعف، فهو يأبى أن يظلم أحداً خاصة إذا كان من ضعفة الناس، ولا يقبل أن يظلمه أحدٌ أياً كان ولو كان من أكابر الناس أو من أعلاهم نفوذاً. وهو يأخذ بالرخصة لكنه لا يأخذ بالدنية، ويغضب ولا يحقد، ولا يحسد أحداً على نعمة آتاه اللَّه تعالى إياها لأن الحسد عنده كما سمعته منه عدة مرات: حرام في الدين، ودناءة في الطبع، ولأن الحاسد بحسده للآخرين كأنه يتهم اللَّه بالظلم، وبسبب هذا الطبع السوي السمح، وبسبب نفسه المبرأة من الحسد والأثرة، وبسبب فضائل مبادئ الإسلام والعروبة التي تعلق بها فإنه يحب الخير للناس عامةً، ويفرح لأي خير عام أو خاص يصيب القريب أو البعيد، ويفرح أكثر حين يشرفه اللَّه بخير يصنعه لمن حوله، ويرى أن هذا نعمة من اللَّه تعالى تستوجب الشكر، وإذا طلب أحد منه مروءة يقدر عليها فإنه يفرح بذلك، وإذا وجد نفسه غير قادر عليها اعتذر ابتداء فأراح واستراح.

ثقة مبررة:

ولأنه قارئ جيد مدمن للقراءة، ولأنه متابع لمجريات الحوادث، ولأنه يكوِّن آراءه بنزاهة وأناة وحياد، ولأنه مولع بالخلوة والمراجعة والتقويم، فهو معتز برأيه جداً، متمسك به، يصر عليه مهما كان ذلك الرأي مخالفاً لمن حوله، حتى إنه ليبدو عنيداً جداً في بعض الأحيان، وصدق أحد رؤسائه في العمل حين وصفه بأنه يكوِّن رأيه بنزاهة ثم يصر عليه. وفي كثير من الأحيان كان يتبنى فكرة تبدو غريبة ومستبعدة، ربما لامه الآخرون عليها كثيراً أو قليلاً ثم تثبت الأيام صحتها، ومع ذلك فعنده القدرة على التراجع عن فكرة كان يقول بها إذا تبين لـه خطؤها، وكان يقول: الذين لا يغيرون آراءهم هم الأغبياء فقط، لأنهم يتوهمون أنهم لا يخطئون. ويربط تغيير الرأي بشرط مهم وهو أن تكون الدواعي إليه كريمة، مبرأة من الخوف والطمع والنفاق، وقائمة على تحري الحق والتماس الصواب، ولذلك يمكن لي أن أصفه بأنه يجمع بين الثقة المبررة والتغيير الحميد.             

ذنوب وعيوب:

فطر اللَّه الإنسان على الصواب والخطأ، وأعطاه برحمته وكرمه فرصة التوبة ووعده بالقبول.

أما ذنوب أخي حيدر ــ كما كان يقول لي مراراً ــ فهي ذنوب لازمة غير متعدية، وكان يخاف كثيراً جداً من حقوق العباد، وربما تساهل في الحق الذي هو لـه، لكنه لا يتساهل قطّ في الحق الذي هو عليه. وقد حفظ دعاء جميلاً سمعته منه فأعجبني، كان كثير الترداد لـه، وهو: اللهم لا تجعل عليَّ تباعة لأحد. ومرد إعجابه بهذا الدعاء أن حقوق اللَّه مبنية على المسامحة، خلافاً لحقوق العباد المبنية على المشاحَّة.

أما عيوبه فأبرزها ــ وهو يوافقني فيها ــ أن فيه حياء بالغاً، وطيبة زائدة، وحسن ظنٍّ بالآخرين يصل أحياناً إلى درجة الغفلة، وأنه بطيء كثيراً في اتخاذ القرار، وأنه عمل فيما لم يخلق لـه، وأن أحزانه على بعض ما أصابه طالت بأكثر مما ينبغي، وقد أطمعت هذه العيوب فيه أهل السوء، وأضاعت عليه كثيراً من الفرص، وأشهد أنه انتبه إليها جيداً، وحاول أن يتخلص منها، وله في ذلك نجاح ملحوظ.

وسوم: العدد 826