أبحث عن سيدي عمر

أخطر ما يمر بالشعوب والثورات ما يسمونه ضياع المسئولية .

مثلا كأن يكون لك حق تبحث عنه ، وترفع قضيتك إلى كل المحاكم وكلها ترد الدعوى بعدم الاختصاص . حالة قانونية تنغلق فيها دائرة الظلم على المظلوم فلا يجد لها طرفا.

ضياع المسئولية يجعل الناس في حالة من اليأس والضياع فهم لا يعلمون من يطالبون ، ولا من يناشدون ، ولا إلى من يلتجئون ، و لا بمن يثقون ؛ حتى إذا أرادوا أن يعطوا مالا أو جهدا أو نصحا لم يعلموا لمن يعطون ..

صحيح كل الناس تحب الأخذ ولكننا نعني هنا الآخذ المسئول . الذي يقول كما سيقول رسولنا الكريم في يوم الحشر بعد أن يعتذر عن حمل مسئولية الموقف سادتنا آدم وإبراهيم وموسى وعيسى ويقول محمد صلى الله على محمد  : أنا لها ... أنا لها ..

المشهد السوري اليوم بحاجة للرجل المؤهل الذي يقول أنا لها .. أنا لها بحقها . ولما كان عصر الأبطال كما يقولون قد ولى ؛ فإن بإمكاننا أن نقول إن المشهد السوري بحاجة إلى جسم وطني حقيقي يقول : أنا لها .. أنا لها .. ويفي القول حقه ..

جسم يثبت في تربة الفعل الرشيد رجله ، وينطلق مما بين يديه من إمكانيات ، ومما في الفضاء المحيط من معطيات . جسم وطني لا يساوم ولا يزاود ولا يتردد ولا ينتظر. جسم يعتمد المعطى العلمي الدقيق في كل جبهة من الجبهات وفي كل ميدان من الميادين . وأيسر أمر العاقل أن لا يدخل المعركة الخاسرة ، وأن يظل يبحث عن البدائل والاختيارات .

أتذكر لقطة ما تزال في ذاكرتي عندما شاهدت لأول مرة فيلم عمر المختار ربما 1980 . وبعدما ينفذ الطليان مذبحة في أحد المخيمات ، ثم يحرقونه .. يعرض المخرج علينا صورة شاب نحيل أسمر لو كنت رساما لرسمته لكم الآن ، يكاد يتميز من الغيظ ، يقفز أمام أمه من يمين وشمال ، يضرب على رأسه المغطى بالقبعة ، ويشد جنبات ثوبه القديم ، ويتساءل بحرقة وألم مخنوق : ماذا أفعل؟ ...كيف أفعل؟ ثم فجأة يتهلل وجهه ويقول لأمه وجدتها .. وجدتها : سألتحق بسيدي عمر .. سألتحق بسيدي عمر ..

يومها / 1980 / قلت لإخوة بجانبي يشاهدون الفيلم معي : أنا أبحث عن سيدي عمر وتذكروا ماذا كانت تعني 1980  ..

واليوم وبعد أربعين سنة ، وأنا أشاهد ما يجري على أهلي وكل شعب سورية أهلي ، ودياري وكل حبة رمل فيها من دياري ، أقول اليوم وما زلت أبحث عن سيدي عمر .. عن الرجل يقول : أنا لها ... أنا لها .. بحقها لا ادعاء ولا غرورا ..

الرجل الذي إذا دخل المعادلة أحدث فرقا ، حقق مصلحة أو دفع مفسدة . الرجل الذي لا يتلاعب به الغرور ، ولا يقعد به اليأس . سماه الإمام الجويني في كتابه الغياثي : " ذو النجدة المطاع " ولكل كلمة من الكلمتين معنى مستقل قائم بنفسه يحمل في أحشائه من الدلالات ما يكفي ويقنع ..

فإن لم تتوفر الصفة في فرد ، في هذا الزمن الصعب وسورية خارجة من بوتقة الرماد ، فإن الأمر سيتعين على الجسم الجامع غير المانع ..

الجسم الذي يحفظ كل فرد فيه من رائية أبي تمام  قوله:

فأثبت في مستنقع الموت رجله .. وقال لها من تحت أخمصك الحشر

أو قول الآخر :

سيروا نذب عن الحمى .. ونرد عنها المستبدا

لا تحســبوا أوطاننا .. هندا نحن لها ودعدا

مما قرأت أن إحدى ملكات الغرب أو أميراته عندما وقفت على " تاج محل" ورأت الأبهة والجمال ، وعلمت أن ملكا بناه ضريحا لزوجته من باب الوفاء قالت : اشتهيت على الموت ..

شهادة الشهداء تجعل مورد الموت عذبا شهيا يتمناه المرء بكل الصدق ليل نهار . وإنما يمنع العاقل منه أحيانا قول القائل :

وعلمت أني إني أقاتل واحدا ... أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي

نتغنى بالشهادة ، نغني للشهداء ، نحتفي بهم وما يمنعنا أن نكون مثلهم إلا عجز أو ادعاء

اللهم تقبل شهداءنا وتقبل منهم وآتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 826