أجهزة رصد الهلال الحديثة تُضيّق الخلاف

ثار الجدل مرة أخرى بين الفقهاء فيما يتعلق بصيام يوم عرفة إذا ما وافق يومَ العيد في مكة، وهل يوم عرفة عَلم على الزمان أم المكان؟ وهذا الجدل فرع عن مسألة اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتباره، وهل تَلزم رؤيةُ الهلال في بلد سائرَ البلدان أم لا. ومعلوم أن في المسألة قولين مشهورين: قولٌ إنها تَلزم وقولٌ إنها لا تَلزم. وليس يخفى أن الأدلة التي استند إليها أصحاب الرأي الأول هي نفسها الأدلة التي استند إليها أصحاب الرأي الثاني[1]. وإذا وُجد الاحتمال في الدليل ضعف الاستدلال. وليس يعنينا هنا أن نعيد النقاش القديم في هل يُعتبر اختلاف المطالع أم لا يُعتبر، فالأمر مبسوط في مظانه. ولكننا نودّ أن ننبّه إلى جديد هو ثمرة العلم الحديث والتقنيات المعاصرة، مما يحتم تجديد النظر في المسألة بدل استرجاع آراء الأقدمين، فلا يكون للناظر بعدهم غير الاختيار من بين أقوالهم دون قدرة على الترجيح ولا الاجتراح. وليس ذلك من الفقه في شيء.
ولْنأخذْ بلد المغرب مثالا نوضح من خلاله المقصود. فقد أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب أن فاتح شهر ذي الحجة 1440ه هو يوم السبت الموافق 3 غشت 2019. وذلك بعدما راقبت الهلال بعد مغرب يوم الخميس 29 ذي القعدة الموافق 01 غشت، فتبيّن لها عدم ثبوت رؤيته، فيكون شهر ذي القعدة قد استكمل ثلاثين يوما. والسؤال هنا: ما الوسيلة التي أخذت بها لجان مراقبة الهلال؟ والجواب أنها العين المجردة، فالرؤية البصرية المجردة هي معيار الإثبات والنفي. ولْننظر الآن في المعطيات الفلكية؟ دلت المعطيات على أن الاقتران المركزي حدث يوم الخميس 01 غشت 2019 على الساعة 03 و12 دقيقة بالتوقيت العالمي. وفي اليوم نفسه كانت الرؤية ممكنة في شمال المغرب ووسطه باستعمال التلسكوب، أما في أقصى الجنوب فكان من الممكن رؤية الهلال بالتلسكوب وبالعين المجردة متى كان الغلاف الجوي صافيا والراصد خبيرا. وهنا يرِد السؤال: ماذا لو أن لجان المراقبة في المغرب استعملت التلسكوب أو سي سي دي كاميرا (CCD) لرصد هلال ذي الحجة 1440ه يوم الخميس 1 غشت 2019؟ لو حصل ذلك لكان من الممكن رؤية الهلال، إذ لم تكن الرؤية مستحيلة وقتئذ إلا في نيوزيلاندا وما حولها، وإذن لكان يوم الجمعة هو فاتح ذي الحجة، ومن ثم يكون صيام يوم عرفة في المغرب هو يوم السبت التاسع من ذي الحجة الموافق لوقفة عرفة، ويكون العيد يوم الأحد. فلا يكون هنالك يوم عند المغاربة لا هو صيام ولا هو عيد، كما كان الشأن عند بعضهم ممن يرى عدم اعتبار اختلاف المطالع كما هو رأي جمهور الفقهاء.
ولذلك كان القول بصيام التاسع من ذي الحجة بحساب أهل المغرب الذي هو يوم العيد بمكة باعتبار اختلاف المطالع قولا غير دقيق، فليس الخلاف ناشئا عن الأخذ باختلاف المطالع وحسب، وإنما لاعتماد الرؤية البصرية المجردة أيضا. وهنا ننبه إلى أمور:
1- الأحاديث النبوية تكلمت عن الرؤية مطلقا. فحديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" أشار إلى الرؤية وسيلةً لتحديد بداية الشهر القمري، لكنها رؤية غير مقيدة. فالقول بالرؤية المجردة اجتهاد وليس نصا، أما الحديث فلم يتكلم لا عن رؤية مجردة ولا غير مجردة.
2- إن الرأي القائل بالرؤية المجردة لم يَلزم هذا المعيار حين أجاز استعمال النظارات العادية. والأصح أنه لم يُجز بل هو لم يتفطن أصلا إلى أن الراصد الذي يضع نظارات على عينيه رؤيتُه غير مجردة. فعلى قولهم وجب رد شهادة من يثبت رؤية الهلال إذا كان يستعين بنظارات لتصحيح النظر. ولا ريب أن في لجان مراقبة الهلال مِن هؤلاء الكثير.
3- أما إذا فُرّق بين النظارات من جهة والمنظار والتلسكوب والكاميرا العادية وسي سي دي كاميرا (CCD) من جهة أخرى فلَنا أن نسأل عن معيار التفريق. فالظاهر أن النظارات أداة يتوسل بها الناظر لرؤيةٍ أوضح، مثلما أن المنظار والتلسكوب وسي سي دي كاميرا وسائل وأدوات لرؤيةٍ أبْيَن. أما تجويز استعمال النظارات وردّ الأدوات الأخرى فهو مجرد تحكم.
4- لماذا يُباح استعمال الأدوات التقنية في عبادات كثيرة ويُمنع في مراقبة الأهلة؟ أليس يَستعمل الإمام مكبّرَ الصوت في صلاته وفي خطبة الجمعة؟ فلمَ لا يستعين الراصد بالتلسكوب؟
نَخلص إلى أن الإفتاء بصيام يوم عرفة باعتبار رؤية البلد إفتاءٌ دون إحاطة بالمسألة من جوانبها كلها، وأحد هذه الجوانب هو النظر في شرعية الاستعانة بالأدوات لرصد الهلال. فلمَ الإصرار على لزوم فتوى قديمة لزمن قديم لم تكن فيه غير الرؤية البصرية المجردة وسيلةً لتحرّي الأهلة؟
ونُذكّر بجانب آخر معتبر، ذلك هو ضرورة التفريق بين المطلع والبلد. فقد يكون البلد واحدا والمطلع مختلفا، كما هو الأمر بالنسبة للبلدان المترامية الأطراف. ومثالُ ذلك فرنسا، ولقد كان رصد هلال رمضان عام 1429ه واقعا في حالات ثلاث: إمكان الرؤية بالعين المجردة، واستحالة الرؤية، وعدم إمكانها. فيوم السبت 31 غشت 2008 كانت الرؤية في أقصى شمال فرنسا مستحيلة، وفي معظم فرنسا غير ممكنة لا بالعين المجردة ولا بالتلسكوب، وفي جزر بولينيزيا الفرنسية بالمحيط الهادي ممكنة بالعين المجردة. فما العمل وقد اختلفت المطالع والبلد واحد؟ وأي منطقة من البلد تَلزم رؤيتُها باقي المناطق؟ أم أن الصواب أن كل منطقة تعمل برؤيتها؟
والشيء بالشيء يُذكر، فإن رؤية هلال ذي الحجة في المغرب لهذا العام (1440ه) كانت ممكنة في مناطق باستعمال التلسكوب، وممكنة بالعين المجردة والتلسكوب في مناطق أخرى يوم الخميس 01 غشت 2019. فماذا لو أعلنت لجنة مدينة "الداخلة" رؤيةَ الهلال بالعين المجردة وليست هي ممكنة في شمال المغرب إلا بالتلسكوب؟ فهل يصوم الشماليون يوم عرفة باعتبار رؤية الجنوبيين؟ إذا كان الجواب: لا يصومون لرؤيتهم سقطت فتوى "لكل بلد رؤيته"، ذلك أنه صار للبلد والحال هذه رؤيتان. وإذا كان الجواب: نعم يصومون لرؤيتهم، فما الذي يمنع أن يصوم أهل بلد لرؤية أهل بلد آخر؟ ويكفي أن نتصور المنطقتين بلدين مستقلين.
يتحصّل من النظر في مسألة "البلد" و"المطلع" باعتبار ما طرأ في الزمن المعاصر مما يسّره العلم الحديث جملة أمور، لعل أهمها ما يلي:
أولا: إخفاق الفقهاء القدماء في إدراك حقيقة اتحاد المطالع واختلافها. فاتحاد المطلع واختلافه لا يتحدد بدلالة المسافة وحسب، وإنما يتعين أيضا بدلالة الموقع على خطوط الطول والعرض. ولذلك قد يتباعد البَلَدان البعد كله ويتحدان في المطلع، وتتقارب البُلدان والمطالع مختلفة.
ثانيا: عدم صلاحية مقاييس القُرب والبُعد كما تَصوَّرها القدامى (مسافة القصر، اتحاد الأقاليم واختلافها، 24 فرسخا... إلخ) لمَيز البلدان التي اتحدت مطالعها من البلدان مختلفة المطالع. أما اعتبار البلدان بحسب الحدود السياسية فلا وجه له البتّة.
ثالثا: اتساع مناطق الرؤية متى استُعملت أدوات الرصد الحديثة، حتى صارت الرؤية تشمل قارات متباعدة.
رابعا: تَغيّر معنى الرؤية نفسه، إذ زاحمت الرؤيةُ المتوسلة بالأداة الرؤيةَ المجردة.
ومن ثم يتبيّن أن اعتبار اختلاف البلدان لا يستند إلى دليل مقنع، فلا يبقى إلا القول باختلاف المطالع. ومتى اعتُبر القول به كما أدركه القدامى كان القول غير موفق. إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد وقع الخطأ في تصور حقيقة المطلع. ثم إنه متى قيل باعتبار اختلاف المطالع لم يمنع ذلك من تفرّق أهل البلد الواحد، وسقطت حجة لَمّ الشمل ودرءِ الفتنة، وحضرت قاعدة "حكم الحاكم يرفع الخلاف" -التي أخرجها بعض الفقهاء عن سياقها- لتحلّ محل الإقناع بدليل عقلي أو نقلي.
أما جماع القول فأنه ليس في الشرع ما يمنع الاستعانة بأدوات الرصد الحديثة لمراقبة الهلال، ومتى ما استُعملت تلكم الوسائل ضاق الخلاف ولم تتشعب المسالك.
________________________________________
[1] - لا تخرج الأدلة عن النصوص الآتية وما شابهها:
- قول الله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، البقرة، الآية 185.
- حديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، أخرجه البخاري.
- حديث "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه"، أخرجه البخاري.
- ثم حديث كُرَيب عند القائلين باعتبار اختلاف المطالع.

وسوم: العدد 838