تأملات في سورة القمر

" اقتربت الساعة وانشق القمر " ... لقد انشق القمر فلقتين حقيقة حين سأل أهل مكة النبيَّ صلى الله عليه وسلم آيةً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن فعلتُ تؤمنون ؟ " قالوا : نعم . وكانت ليلةَ بدر ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّـَه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر فلقتين ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين : " يافلان يا فلان اشهدوا "  . فما بقي أحد في مكة إلا رآى نصف القمر على أبي قبيس ، ونصفه الآخر على قـُعيقـُعان . فقال الكفار : هذا من سحر ابن أبي كبشة – يريدون النبي صلى الله عليه وسلم _ سحركم ، فاسألوا السفـّار ، فلما قدم المسافرون سألهم أهل قريش هل رأوا القمر فلقتين في يوم انشقاقه ؟ قالوا : قد رأينا . فثبت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وازداد الكفار عتوّاً واستكباراً وقالوا " سحرٌ مستمر " أي شديد ، سحركم محمد بسحره القوي المتمكن ... وقد روى بعض  المؤرخين العرب في العصر الحديث اعتماداً على مؤرخ صيني قديم روى في تاريخه – وقد عاصر النبي صلى الله عليه وسلم – أنهم في الصين تعجبوا من رؤية القمر قسمين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب فترة من الليل ثم عاد قسماً واحداً . ... بل إن دارسي جيولوجيا القمر  يعتقدون أن القمر قسمان ملتصقان . .. فسبحان الله العظيم .

انشق القمر ، ولمّا تبدأ الساعة ، ولكنها قريبة كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام . ولو رتبنا الأمر حسب حدوثه أو تسلسل الحدوث حين تقوم الساعة لقلنا " انشق القمر واقتربت الساعة " . فلماذا قدم الساعة – ولم تحدث – على انشقاق القمر وقد حدث ؟. والجواب أنه تقدم ذكر الساعة  - أ  : لأهمية اليوم الآخر وضرورة الإيمان به .

-         ب : وللأن من شق القمر – سبحانه- صادق في وعده بمجيء اليوم الآخر .

-         ج : ولتنبيه الناس إلى خطورة الأمر ، والاستعداد لما هو آت .

لكن من ينظر ببصره لا ببصيرته ويتبع هواه لا يرى الحقيقة أبداً إنما يركب رأسه ويزداد عتوّاً واستكباراً وبعداً عن الحق  وكفراً به .  أعرضوا عن الحق واتبعوا أهواءهم وكذّبوا الرسول  فضلوا وزاغوا " وكذّبوا واتبعوا أهواءهم "  ومن تبع هواه ضيّع الطريق وتاه ، وغاص في أوحاله " و من أضل ممن اتبع هواه  بغير هدىً من الله " .

وما أرسل الله من رسول إلا ونبـّه إلى مصارع الكافرين ليعتبر الناس ويرعووا ، ويتفكروا ويتدبّروا . وقد قص الله تعالى في هذه السورة الكريمة قصة نوح وهود وصالح ولوط وموسى  مع أقوامهم . وحدد نهاية الكافرين المخيفة ليعتبر الإنسان ويختار الطريق الذي يرتئيه ، فإذا نال القصاص  العادل والعذاب الذي ينتظر الكافر فقد أعذر من أنذر .

فالكفار من قوم نوح أغرقهم الله ، ونجّى المؤمنين .

وقوم هود الكافرون اقتلعتهم الريح الشديدة ، وطوّحت بهم .

وقوم صالح المستكبرون أخذتهم الصيحة – الصاعقة – فكانوا كالقش اليابس المتفتت.

والكافرون قوم لوط طمس الله أعينهم ، ورجمهم ملائكته بالحجارة ثم قلبت بهم الأرض .

أما فرعون وجنده فأغرقهم الله تعالى في البحر،  فلم ينجُ منهم أحد .

وتدبر معي الجملة المكررة عند نهاية كلٍ من  قصص قوم نوح وهود وصالح  " فكيف كان عذابي ونذرِ " للدلالة على شدة أخذ ربك للعاصين المتمردين حين يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فيستأصلهم ، ويقطع دابرهم ، وكأنهم ما كانوا . وتأمل الآية حين تأتي بأسلوب آخر " فذوقوا عذابي ونذرِ " فالتذوّق قمة السخرية والاستهزاء من قوم لوط فإن فعلتهم شنيعة مقرفة تستحق قبل الاستئصال أن يذوقوا العذاب ألواناً ، فطمس الله أبصارهم ، ثم رجموا بحجارة من سجيل منضود مسوّمة عند الله الممنتقم ، ثم جعل الله الجبّارعالي قراهم سافلها .

وتدبّر كذلك الآية الرائعة المكررة أربع مرات بعد القصص الأربع الأولى " ولقد يسرنا القرآن للذكر ، فهل من مُدّكِرٍ " ليحث الله تعالى الناس على قراءة القرآن ودراسته وفهمه للعمل به . فقد يسّره للناس وأعانهم على فهمه ، وقص عليهم أنباء الأمم الغابرة مع أنبيائهم ، وعقبى أمورهم وأمور المرسلين ، لتكون حجة عليهم ، والتكرار أسلوب تربوي رائع لتثبيت المعنى في النفوس  وتأصيله فيها . ...و" هل "  حرف استفهام قال العلماء فيها : اللام للاستعراض ، والهاء للاستخراج . فالمفروض على أولي العقول أن يستعرضوا مصير الأمم فيؤمنوا بالله ، وينالوا الخير في الدارين . .. إن المسلم لا يرقى في درجات الفضل والكرامة إلا إذا أمعن في الفهم والتدبُّر .

وقد يخطر في بال أحدهم حين يقرأ " فتولّ َ عنهم " أن يتركهم فلا يدعوهم إلى الله ، وهذا فهم خاطئ ، إن واجب الدعاة أن لا يوفروا طريقة في الدعوة إلى الله تعالى إلا سلكوها ، هذا واجبهم . لكن ليس عليهم أن يفرضوا على أحد أن يؤمن ، فالإيمان هبة من الله تعالى للسعداء " إنك لا تهدي من أحببت ، ولكن الله يهدي من يشاء " كيف هذا ؟! فالجواب : " وهو أعلم بالمهتدين " وهذا أمر دقيق ينبغي أن نفهمه فهماً صحيحاً .. فالله تعالى يعلم من يستجيب للإيمان ويتقبله فيهديه إليه . ولهذا كانت القاعدة الدعوية الواضحة " لا إكراه في الدين ، قد تبيّن الرشد من الغيّ " .وسيعلم الكفار سوء صنيعهم حين يخرجون من الأجداث استجابة للنفخ الثاني في الصور – ولات حين مندم – " يوم يدعو الداعِ إلى شيء نُكُرٍ " و" النّـُكُرُ " هنا على قول بعض المفسرين : العذاب الشديد ، وأعتقد  - كذلك - أنه يوم القيامة الذي كان الكفار ينكرونه ويأبون الإيمان به ، فيرون أنفسهم فيه فيخشعون ويذلون حين يعرفون الحقيقة " يقول الكافرون : هذا يوم عسر " وتأكيده في سورة المدّثر " فذلك يومئذ يوم عسير ، على الكافرين غير يسير " . ويؤيد ذلك قراءة مجاهد وقتادة " نُكِر" بصيغة المبني للمجهول .

وتصور ذلك الخروج الرهيب من القبورالذي يقشعر له جلدي كلما ذكرتُه وعشت في ظلاله – جعلنا الله من الآمنين – ففي هذه السورة " كأنهم جراد منتشر " وفي سورة القارعة " يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " نجد موقفين مختلفين ، أحدهما : عند الخروج من القبور ، يخرجون فزعين لا يهتدون إلى أين يتوجهون ، فيدخل بعضهم في بعض ، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض ، لا جهة له يقصدها . ثانيهما : فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر ، فللجراد جهة يقصدها .

وتأمل كلمتي خشّعاً... ومهطعين أما الخشوع فالذلة في النظر والخضوع للأمر والاستسلام لما هو آتٍ . وأضاف الخشوع للأبصار لأن أثر العز والذل يتبين في ناظر الإنسان . قال الله تعالى " خاشعة أبصارهم " وقال كذلك حين تظهر لهم النار ويعرفون أنهم إليها صائرون فلا يتجرؤون أن ينظروا إليها : " خاشعين من الذل ، ينظرون من طرْف خفيّ " . وأما الإهطاع فالإسراع إلى مصدر الصوت مع فتح الآذان ومد العنق وتصويب الرأس والنظر إلى مصدر الصوت . .. مرحلة لا بد أن يجتازها الثقلان من إنس وجن . نسأل الله السلامة والنجاة .

حين دعا نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام " أني مغلوب ، فانتصر " جاءه الفرج .. وهكذا يكون المسلم مع ربه محباً له ، عائذاًبه ، معتمداً عليه . وقد نادى إبراهيم عليه صلوات الله ربه حين ألقاه الكفار في النار ، فصارت عليه برداً وسلاماً . وقال موسى واثقاً بربه متوكلاً عليه -  حين أبدى قومه يأسهم من النجاة " إنا لمدركون "  لما رأوا فرعون يجد إليهم السير بجنوده - " كلا ، إن معي ربي سيهدين . " فنجاهم الله وأغرق فرعون وجنده .  وهذا الحبيب المصطفى عائداً من الطائف بعد أن طرده أهلها وآذَوْه ينادي ربه ، ويخاطبه بالدعاء المعروف الذي يأخذ بالقلوب " اللهم إني أشكوإليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس برحمتك يارب العالمين،أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي ، أعوذ  بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخره  أن يحل بي سخطك أو ينزل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك "

فيرسل الله تعالى إليه جبريل مع ملك الجبال يستأذنه أن يطبق على أهل مكة الأخشبين ... ينادي النبي الكريم نوح ربه فيأتيه الفرج " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ، وفجرنا الأرض عيوناً ، فالتقى الماء على أمر قد قُدِرَ ، وحملناه على ذات ألواح ودسرٍ " وتصور معي بقلب بصيرتك كيف تدفق الماء من السماء بما لا يتخيله البشر ، وأن الأرض كلها تفجرت أنهاراً ضخمة تخرج ما في بطنها من ماء يعلو ويعلو .. إن أكبر السفن لتغوص مهما كانت ضخمة الحجم ومحكمة الصنع حين تتجاذبها أمواج كالجبال ، بل تكسرها بلطمة من موجة عملاقة فتحطمها ، فكيف واأنهارٌ بل بحارٌ من ماء السماء تتصل ببحار الأرض ؟!! وأنى لهذه السفينة البدائية إذا ما قورنت بسفن هذا العصر العملاقة أن تظل فوق الماء وبين الماء دون أن تتلاشى؟! ...إن رب الماء والأرض والسماء يقول : " فاصنع الفلك بأعيننا ووحينا " وقال في مسير الفلك بأمانه سبحانه "  تجري بأعيننا " إنها رعاية الله وعنايته ورحمته بالمؤمنين .. ألم يقل الله تعالى لموسى عليه السلام " واصطنعتك لنفسي  " ألم يقل له كذلك : " ولتُصنع على عيني " ألم يقل لحبيبه محمد :" واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا "؟! فمن كان الله معه فممن يخافُ ولِمَ يخافُ ، وعلامَ يخافُ؟ .

وتأمل معي الردَ القاصم على تخرصات المشركين  حين وصفوا نبي الله صالح بالكذب والتكبر والتعاظم في قوله تعالى :" ... بل هو كذاب أشِرٌ ، سيعلمون غداً مَنِ الكذابُ الأشِرُ " إنه تهديد ووعيد ،وصفعة أليمة على وجوههم . .. ثم هو رد اعتبار لنبي كريم افترى قومه عليه .

وانظر معي إلى شديد العذاب الذي كرر مرات عديدة بأسلوب مخيف " فكيف كان عذابي ونُذُرِ " إنه والله عذاب شديد وقاس جداً بما لا يُتصور .

وما أقوى التهديد في قوله تعالى بلغة مهيمنة صادرة عن قوي جبار

" سيهزم الجمع ويولون الدُّبُر ،

بل الساعة موعدُهم ، والساعة أدهى وامرّ

إن المجرمين في ضلال وسُعُر

يوم يُسحبون في النار على وجوههم : ذوقوا مسّ سقر "

وما دامت آثار الأقوام الغابرين واضحة فلم لا يعتبر أصحاب العقول ؟ ألم يقل الله تعالى منبهاً أهل مكة وغيرهم إلى بقايا عاد وقوم شعيب يمرون عليها في أسفارهم وتجاراتهم " وإنهما لبإمام مبين " وهذا القرآن لنا وللعالم أجمع ، أفلا ينتبه الغافلون ويتدبر بنو البشر ؟

لنضعْ في شغاف قلوبنا قوله تعالى في إحصائه لحركاتنا وسكناتنا وتصوير كل أعمالنا :

"وكل شيء فعلوه في الزُّبُر

وكل صغير وكبير مستطر "

فهل يخفى على الله شيء ؟ حاشا وكلا .. فمن كان ذا لب وقلب سليم وعقل حكيم كان من المتقين .. فما للمتقين يارب ؟

"  إن المتقين في جنات ونهَر "  والجنات عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .. "

في مقعد صدق عند مليك مقتدر " .  فهنيئاً لمن كان للرحمن مصيره في رضا منه وفضل ورضوان ...

وسوم: العدد 838