حق العلم في البيان مقدم على حق العالم في التوقير والاحترام ..!!

نشر ثقافة أخطأتَ ... وأخطأتُ ، جزاك الله خيرا

يتداول بعض الناس بإعجاب وتقدير حكاية مدارها على توقير عالم لعالم في مجلس علم . وتوقير العلماء جميل . وهو حين يصدر عن عالم في حق مثله أجمل . ولكن حين يكون الضحية هو العلم أو المتعلم فإن هذا الجميل يصبح قبيحا منكرا مستنكرا ، يجب أن نجاهر في استنكاره ، وبيان وجه النكارة فيه ، من غير غمط لحقوق العلماء ومكانتهم. الحرص على مكانة العالم ولاسيما في عيون طلابه ومريديه أمر معتبر ومطلوب ، ومقصد مشروع شريطة أن لا يكون ذلك على حساب حق العلم ، كما على حساب المتعلمين وحقوقهم في المعلومة الصحيحة الموثقة .

تقول القصة التي ما يزال يقصفنا بها على سبيل الإعجاب والتقدير بعض الذين " يخوضون مع الخائضين " بدون تأمل ولا تدبر - والتدبر النظر في المآلات - : إن عالما كبيرا متمكنا زار مدينة غير مدينته ، وقصد حلقة عالم متمكن مشهور فيها ، وحين التحق بحلقة هذا العالم وهو يدرس الحضور جاء على لسان صاحب الحلقة " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلّق وظاهر وآلى من نسائه .."

واستمع العالم المفضال إلى قول أخيه الفاضل ينسب إلى رسول الله الأفعال الثلاثة الطلاق والظهار والإيلاء ، وصمت حتى انتهى الدرس . وانفض الناس ، وأتيحت له فرصة الانفراد بأخيه في مجلس خاص فنبهه إلى أن الظهار لم يقع من رسول الله ، . فانتبه الرجل العالم إلى خطيئته ، وأنه في مجلس قابل جلس إلى الناس واعترف بخطئه ، واعترف بفضل أخيه في التنبيه عليه إلى آخر القصة الوردية التي يتهاداها بعض الذين لا يتدبرون . وتتكاثر التعليقات على هذه الحكاية بعبارات التمجيد والتبجيل لأدب وتواضع العلماء ، دون تمحيص ولا تأمل ولا تدبر.

 يقول الله سبحانه وتعالى في الظهار : (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ الَّلائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا )

وأراك أو أراني في مجلس ينسب أحدهم فيه قول المنكر والزور إلى سيدنا رسول الله كذبا أو خطأ ، فيبلغ بنا الدهان أو المداهنة إلى الحد الذي نغضي عن هذا الكذب الصريح على سيدنا رسول الله ، والكذب عليه ليس كالكذب على أحد من الناس ، ثم نترك كرة الكذب هذه تتدحرج أو نصفق لها وهي تتدحرج ثم نسجل على ذلك ألف إعجاب وإعجاب .

 ولو كان في القلوب غيرة حقيقية على سيدنا رسول الله . لكان تخطئة صاحب الخطأ على رؤوس الناس أهون ألف مرة من نسبة قول المنكر والزور إلى سيدنا رسول الله صلى الله وسلم عليه .

ثم لنتدبر كم من طالب علم حضر الجلسة التي تم فيها نسبة قول المنكر والزور إلى رسول الله وعلقت العبارة ذات الطلاوة في ذهنه ووقرت في قلبه . ثم غادر ذلك المجلس . ولم يتح له أن يحضر مجلس التصحيح التالي ، وربما كان " أفاقيا " فذهب إلى أفقه يكرر على طلاب العلم من أمثاله عبارة شيخه المفضال الحجة الثبت وهو يظن أنه يأوي إلى ركن شديد ، فعلى كاهل من تقع مسئولية نسبة زور القول ومنكره إلي سيدنا رسول الله ؟! . أعلى الشيخ الذي أخطأ أولا ، أو عن الساكت عن الحق في لحظته ، حين نسب إنسان المنكر والزور إلى رسول الله ..!!

وحين يمرر العالم الثاني نسبة هذه الخطيئة إلى رسول الله ولو إلى حين ، ويتركها تنتشر مجاملة أو مداهنة أو توقيرا مدعى لمقام إنسان أخطأ ، ثم يجد في المسلمين من يؤيده ويدعو إلى التأسي والاقتداء به ، وحين يصدر كل أولئك عن أقوام يتسمون بالعلماء ؛ فإن الخوف كل الخوف أن نكون في حال تحدث عنها سيدنا عبد الله بن مسعود حين قيل له " ويل لمن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر . فقال بل ويل لمن لم يعرف قلبه المعروف من المنكر " فهل أصبح المسلمون وأخص علماءهم في ساحة الخلط بين المعروف والمنكر . دون أن يتنبه أو ينبه أحد على حقيقة الدرك الذي تتسفل فيه ثقافة أمة من الأدعياء .

أليس من حق أن نربي أجيال المسلمين على ضرورة رفع " كف قف " في وجه كل مخطئ بالأدب والاحترام والتوقير . من غير ادعاء أدب هو إلى الدهان أقرب . فماذا كان يضير العالمين لو أن الثاني نبه الأول في لحظته على قواعد الأدب فقال : سيدي حبذا لو نتأمل في نسبة الظهار إلى سيدنا رسول الله !! أو سيدي هل يليق أن ننسب الظهار إلى سيدنا رسول الله .؟! أو سيدي هل عندكم مرجع في خبر نسبة الظهار إلى سيدنا رسول الله ؟! أو أي صيغة من صيغ التنبيه والتذكير والدعوة إلى التأمل والمراجعة ..؟! أليس هذا أولى من السكوت على هذه الخطيئة الكبيرة تنسب إلى سيدنا رسول الله ، وكأنها ذباب مر أمام أعيننا فقال لها أحدنا بيده هكذا ..؟!

إشاعة ثقافة تصحيح الخطأ ، الخطأ غير الاجتهادي ، يجب أن تكون هي القدوة وهي الأسوة . وكلنا يعلم صعوبة أن يواجه الأخ أخاه بما يكره . ولكن يجب علينا أن نشيع أيضا ثقافة أننا بشر خطاؤون ، وأننا طلاب علم مستعدون للتعلم من كل من يعلمنا إذا جهلنا ابتداء ، أو من يذكرنا إذا نسينا ، أو من ينبهنا إذا غفلنا ..

إن ما يحدث في عالمنا الفقهي والفكري والاجتماعي والأخلاقي - عالمنا بخصوصيته - فيه التردي ما يجعل هذه الأمة تعاني ويكثر في أبنائها العناء والشقاء .

التصحيح للعالم بحقه ليس تصغيرا له ، ولا تقليلا من شأنه ، وإن كان عنده فضل بيان فيما صُحح له وجدها فرصة ليبين ، وإن كان غير ذلك استدرك على نفسه، وعلى مستمعيه من تلامذته وغيرهم .

يثير العجب بعض الناس يطالب بحقه في الرد على الحاكم حكمه ويغضب إذا قلت له إن سيدنا يوسف لبث في السجن بضع سنين بمعنى أقام وليس لبس ثوبه في السجن لا يغيره بضع سنين ...

كيس قطن ويغضب ويجد قوما له يغضبون .

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 838