" إن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل " حديث شريف

مشكلنا الكبرى في هذا البلد الحبيب الذي يستحق منا  جميعا حكاما ومحكومين بذل قصارى الجهود للنهوض به نهضة حقيقية تتجلى في نقله من لائحة العالم المتخلف إلى لائحة عالم الطليعة الحضارية ،هي داء الفساد العضال الذي استشرى ،وبلغ أقصى درجات الزمانة . ومعلوم أن الذي يقف وراء داء الفساد هو فيروس سوء الخلق الخطير والمدمر لجهاز مناعتنا  ، ولبيان ذلك أرى من الواجب استعراض حديث شريف في غاية الأهمية من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاب فيه عمن ساله عن أحب الناس وأحب الأعمال إلى الله عز وجل ، ونص الحديث كالآتي :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تطرد عنه جوعا ، أو تقضي عنه دينا ، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد ـ  يقصد المسجد النبوي ـ شهرا ، ومن كفّ غضبه ستر الله عورته ، ومن كتم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه  يوم القيامة رضا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها ، أثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام ، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل )

هذا الحديث الشريف والعظيم القدر والفائدة  يضع الأصبع على مكمن الداء الذي هو فساد العمل ، وهو الداء الذي يعاني منه وطننا الحبيب، وهو مشكلته الأساس وهي فساد الأعمال فيه في كل القطاعات العامة والخاصة، وذلك بشهادة الجميع ،ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو مكابر .

 ففي هذا الحديث يخبر المعصوم عليه الصلاة والسلام عن الفئة من الناس التي يحبها الله عز وجل، وهي الفئة النافعة للناس ، ولا يكون نفعها بالأقوال بل بالأفعال والأعمال ، ويخبر  عليه السلام عن الأعمال المحبوبة عند الله عز وجل ، ويسرد منها نماذج بدقة متناهية على سبيل التمثيل لا الحصر ، وعليها تقاس باقي النماذج الشبيهة بها ، وهي كالآتي :

ـ إدخال السرورعلى مسلم ، ولا يدخل السرور إلا على محزون نال منه الحزن ،وهو إنسان في وضعية ضعف بسبب حزنه الذي تكون وراءه أسباب ومسببات.

ـ كشف كربته ، وهي غمّ درجته فوق درجة الحزن ، وصاحبه يكون مستضعفا، ووراء كربته أسباب ومسببات أيضا .

ـ طرد الجوع عنه ، والجائع مستضعف أيضا أذله الفقر، وحرمه اللقمة التي تطفىء نار جوعه ، ووراء فقره المسبب لجوعه أسباب ومسببات أيضا.

ـ قضاء دينه ، ولا يوجد ما يغرق الإنسان في أوحال الذل والهوان كالدين الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من غلبته ومن قهر الرجال ، والمدين غريم مستضعف،وهو أسير لدى الدائن ، ووراء دينه أسباب ومسببات أيضا .

ـ المشي مع ذي الحاجة الملهوف ، وهو مستضعف  أسير حاجته التي تتوقف عليها حياته أو مصيره ، ووراء حاجته أسباب ومسببات أيضا.

 ولقد ركز رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذي الحاجة ، وهو عند إمعان النظر يجمع بين حالات المحزون، والمكروب، والجائع، والغريم ، وحالات أخرى شبيهة . ويفهم من تركيزه عليه السلام خطورة وضع ذي الحاجة حتى أنه فضّل أن يقف معه على أن يقوم في مسجده بالمدينة المنورة شهرا كاملا ،علما بأن صلاة واحدة فيه تعدل ألف صلاة في غيره ، كما أنه كرر ذكره في نفس الحديث مرغبا في الوقوف معه حتى يدرك حاجته بذكر جزاء عظيم على ذلك يوم القيامة، وهو ثبات الأقدام يوم تزلّ أو تزول من فرط هول يومئذ .

ولما كان الوقوف مع هذه النماذج البشرية المستضعفة الوارد ذكرها في هذا الحديث يقتضي التعامل معها والاحتكاك بها وبغيرها ممن لهم صلة بموضوع الوقوف معها نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما  يفسد هذا الوقوف، وهو من صالح الأعمال ، وكان تحذيره كالآتي :

ـ تحذير من الغضب ، وهو نار محرقة قد تحرق العمل الصالح ، وجعل عليه السلام جزاء كف الغضب سترا يستر به الله عز وجل عورة الكاف عنه ،وما أكثر عورات الإنسان في هذه الحياة .

ـ تحذير من الغيظ ، وهو أشد أنواع الغضب الذي يفضي عدم كتمه أو كظمه إلى إنزال الأذى بمن تسبب فيه إذا طاوع غيظه ، وقد جعل عليه السلام جزاء كظمه  عطاء في الآخرة يرضي صاحبه .

ـ تحذير من سوء الخلق المفسد للعمل ، وهنا مربط الفرس كما يقال ، ولبيان كيف يفسد سوء الخلق العمل سرد رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبيها في منتهى الدقة والإفحام، وهو إفساد طعم الخل الحامض لطعم العسل الحلو ، فتكون النتيجة طعما مزّا وهو خليط من الحلو والحامض ، فلا يستفاد معه من حامض خالص الحموضة  ولا من حلو خالص  الحلاوة ، وهو طعم فاسد ، فكذلك الشأن بالنسبة للعمل حين يخالطه سوء الخلق ،فيجعله فاسدا كفساد شراب العسل إذا خالطه الخل.

ومن سوء الأخلاق المفسدة للأعمال نذكر على سبيل الذكر لا الحصر الغش، وهو أم المفاسد أو أبوها  يصيب كل الأعمال:  وهو مشتق من الغشش الذي يطلق على المشرب الكدر، وهو مشرب فاسد، لهذا يفسد الغش كلما يخالطه ، ويكون سببا في النقص من قيمته بل يكون سببا في إتلافه .

 ويكون الغش ماديا كما يكون معنويا ،وله أحوال تعدد ولا تعدّ ، والغش خيانة للأمانة، ولصوصية أوسرقة موصوفة ، وتدليس ، وتغرير ، وكذب ، وزور ، وتزوير ،وتهاون ، وتكاسل ، وتسويف ، وتراخ في أداء الواجب ، و تعسف أو استغلال غير مشروع  للمنصب والسلطة وما  يوضع رهن إشارتهما خدمة للصالح العام من مساكن ومراكب وتجهيزات وتمويلات وسفريات ... وغير ذلك.

ويمكن اختصار الفساد المستشري في وطننا الحبيب في كلمة غش بكل ما تحمله من دلالات ، وقد أصاب كل القطاعات العامة والخاصة : تجارة ، وصناعة ، وزراعة أو فلاحة ، ووظيفة ، وتطبيبا ، وتعلمينا ، وقضاء .... وغير ذلك ، وما يروى من أخبار عن فسادها  يتداولها الناس بينهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو تنقلها وسائل الإعلام يؤكد حجم الفساد اللاحق بها ، الشيء الذي جعل الناس يفقدون الثقة نهائيا في إمكانية علاج فسادها ، ذلك أن المتسوق على سبيل المثال  لا يقتني بضاعة إلا وهو على يقين تام بأنها مغشوشة ، ويبذل قصارى جهوده ليحتاط من أن يكون ضحية غش، لكنه في النهاية  يقع في شراكه ، وهو ما جعلنا نقبل على بضاعة غيرنا لفقدان الثقة في بضاعتنا  المغشوشة. وما قيل عن البضاعة يقال عن غيرها مما يفسده الغش ماديا أو معنويا .

وأخطر غش يمتد فساده إلى كل شيء هو الغش السياسي ، ذلك أن الغش في التجربة الديمقراطية عن طريق اللعب بالأصوات  بيعا وشراء ، وبالصناديق الزجاجية الشفافة في شكلها ،والمعتمة في حقيقتها ، يجعل الأمور تؤول إلى غير أهلها ، ويكون ذلك مصدر علة وداء الفساد الذي ينتشر انتشار المرض الخبيث في الجسم فيدمره تدميرا.

فهلا استفدنا من نصيحة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، فأحجمنا عن خلط عسل أعمالنا بخل فساد أخلاقنا ؟  نأمل ونحن على موعد مع وعود باستبدال غير الأكفاء من المسؤولين بذوي الكفاءة أن يكون هذا الحديث منطلقنا نحو أول خطوة لعلاج فساد يعاني منه وطننا الحبيب .     

وسوم: العدد 840