آفة الأخلاق كبرياء تترتب عن غرور يكون وراءه تشبث بتوافه الأمور

اقتضت إرادة الله عز وجل أن تكون العظمة بالنسبة للإنسان  لا مادية تتحقق بحسن الخلق مصداقا لقوله عز من قائل مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم : (( وإنك لعلى خلق عظيم))، ويترتب عن نفس الإرادة الإلهية أن الضعة والصغار والذل والهوان يكونون مع سوء الخلق .

 ومعلوم أن آفة الأخلاق عند بني آدم الكبرياء وهو عبارة عن سلوك شيطاني، ذلك أن أول مخلوق سلك هذا السلوك الذميم هو إبليس اللعين الذي أبى أن يسجد لما خلق الله عز وجل بيده  لغرور ركبه وراءه التشبث بطبيعته النارية التافهة التي كبرت في عينه ، وظنها فوق الطبيعة الترابية لآدم عليه السلام .

وبالرغم من أن كبرياء  إبليس اللعين استهدفت آدم عليه السلام وذريته ، فإن الناس مع الأسف الشديد يركبونها كما ركبها بسبب اغترار يكون وراءه تشبث بتوافه الأمور مما لا يمكن أن يفضل به بعضهم بعضا .

ولقد أخذت الكبرياء عبر التاريخ في المجتمعات البشرية أشكالا تراوحت بين ما هو مزمن  منها كما سجل الوحي ذلك ،وكفى به شاهدا بالنسبة للطاغيتين نمرود وفرعون، وقد بلغ بهما الأمر حد ادعاء الألوهية و القدرة على الإحياء والإماتة ، ومثلهما كثير ممن يذكرهم التاريخ ، وبين أشكال دون ذلك من الكبرياء ترتبت عنها أنواع من الظلم عانت منه البشرية ، وقد يتدنى شكل الكبرياء إلى أدنى درجاته، فيتجلى من خلال سلوكات يومية مشينة  تنم عن سوء الخلق .

ولا يخلو مجتمع بشري من داء الكبرياء ، فالعالم اليوم كما كان عبر التاريخ ينقسم  فيه البشر إلى أقوياء وضعفاء ، ووراء هذا التقسيم الكبرياء المترتبة عن اغترار وراءه تشبث بما لا يزيد من قيمة ولا فضل  .

ومع أن البشرية قد قطعت أشواطا بعيدة في التطور المادي والتكنولوجي ، فإنها في المقابل لا زالت متخلفة أشواطا بعيدة في مجال  اللامادي أوالقيم والأخلاق ،وهي تقر بوجود عالم فيه أقوياء وضعفاء ، وهو تقسيم قوامه الاعتبارات المادية والتكنولوجية . ومن أجل التمويه على معرة هذا التقسيم يرفع الأقوياء ماديا وتكنولوجيا شعارات زائفة تدعي الدفاع عما تسميه قيما إنسانية ، وهي قيم متأثرة بالاستقواء المادي والتكنولوجي أو مستوحاة منه حتى صار ما يراه الأقوياء ماديا وتكنولوجيا قيما هو القيم ،وهي في حقيقة الأمر مجرد أوهام  يتوهمونها.

ولقد بلغ الكبرياء بهؤلاء الأقوياء درجة تعميم قيمهم على الضعفاء  أو عولمتها بعبارة العصرعلى أساس أنها هي القيم الوحيدة التي لا يجب أن تنازع أو تنافس .

ويقع الضعفاء ماديا وتكنولوجيا  مع الأسف ضحايا التفكير السائد لدى الأقوياء ، ويخضعون لفهمهم للقيم ، وينشدونها ظنا منهم أنها  هي عين الصواب دون أدنى تفكير في خلفيتها المادية.

وكما أنه لعالم الأقوياء ماديا وتكنولوجيا كبرياءهم ، كذلك لعالم الضعفاء الذين يقعون في خطإ تقليدهم كبرياءهم ، وكبرياء هؤلاء يتجلى بشكل واضح في فئات اجتماعية تتطلع إلى الالتحاق بفئات اجتماعية في عالم الأقوياء ، وتأبى عليها كبرياؤها أن تبقى في مستوى فئات تراها دونها بسبب أمور تافهة ومثيرة للسخرية .

ففي مجتمعنا العربي عموما والمغربي خصوصا ، ونحن مصنفون ضمن عالم الضعفاء ماديا وتكنولوجيا، نجد فئات اجتماعية عندنا تستبد بها كبرياؤها، فتركب غرورها معولة على تفوقها المادي تقليدا لما هو كائن في عالم الأقوياء ماديا وتكنولوجيا ، فمن هذه الفئات من تظن أنها فوق غيرها لأنها تسكن مساكن   وتركب مراكب ، وتلبس ملابس ... قيمتها المادية أكبر من قيمة مساكن ومراكب وملابس ... غيرها ، وهي عند التأمل أمور لا يمكن أن تكون معيار تمييز أو تفاضل بين الناس لأن التفاضل يكون بأمور لامادية مما صار يسمى اليوم الراسميل  أو الأرصدة اللامادية أو شيئا من هذا القبيل ، الشيء الذي يعني بداية نشوء وعي بأن المادي ليس وحده المعتبر في هذه الحياة .

وكم تبدو أحوال الكبرياء لدى بعض الفئات عندنا مثيرة للسخرية وللشفقة في نفس الوقت ، فلا يكاد الواحد منها يرتدي لباسا  مما يكبر في عينه ،ويكون باقتنائه مقلدا لغيره ممن يظنه متفوقا عليه ماديا حتى يظن أنه قد صار فوق غيره ممن لا يلبسون لباسه ، فيجعله لباسه هذا  يزدري هذا الغير ، والمؤسف أن هذا الأخير قد تحصل له أيضا  نفس القناعة ، وتنطلي عليه حيلة من يزدره بسبب لباس ، ولا يخطر بباله أنهما لا يختلفان وهما عاريلن ، ولا يتفاضلان وهما كذلك إلا بما هو لامادي . وما قيل عن الاغترار باللباس والانخداع به ينطبق  أيضا على الاغترار بكل الماديات من مساكن ومراكب وغيرها .

والأكثر إثارة للضحك والسخرية والشفقة أيضا أن بعض الفئات عندنا تستنكف على سبيل المثال لا الحصر في تصرفاتها اليومية  عن الحديث بلغتها الأم ، وتحرص أشد الحرص على أن تظهر لغيرها الحديث بلغات أجنبية  في الأماكن العمومية مباهية بذلك ، وهي تظن بنفسها التفوق على غيرها بسبب ذلك . وقد يحرص الأب والأم من هذه الفئات على مخاطبة أبنائهم بلغات أجنبية  في حضرة غيرهم لأنها بالنسبة إليهما معيار التميز عن غيرهما ممن يخاطبون أبناءهم بلغتهم الأم ، ولهذا السبب تتهافت فئات من هذا الصنف على إلحاق أبنائهم بمؤسسات تعليمية من شأنها أن تمكنهم من التحدث باللغات الأجنبية لا لطلب علم أو معرفة بها ،ولكن لتكون سبب تميز يميزهم عن غيرهم ، ويحقق حاجتهم من الكبرياء  والخيلاء ، ويخفف عنهم من حدة عقدة الشعور بالنقص أمام الأقوياء من العالم المتفوق ماديا وتكنولوجيا .ومن المؤسف  والمحزن أن لهؤلاء أيضا ضحايا كثر يلهثون وراء تقليدهم رغبة في إدراك مرتبتهم الاجتماعية ، وهي مجرد أوهام يتوهمها هؤلاء وأولئك .

ويبدو تهافت الفئات الاجتماعية الضعيفة  عندنا على اللحاق بفئات الكبرياء أو الكبراء مثيرا للضحك و للسخرية وللشفقة في نفس الوقت ، وهو تهافت كتهافت على سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد عنده الحقيقة وهي أنه كان ضحية تقليد من غرته توافه الأمور وصيرته متكبرا ، وجعلته أضحوكة عند أولي الألباب ممن يرون العظمة والقدر والشأن في اللامادي  من حسن الخلق ، كما يرون الضعة والتفاهة في سوئه ، وأسوأ ما في حياة الإنسان كبرياؤه لهذا جاء في الحديث القدسي : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار " . ولقد جعل الله تعالى عقوبة معجلة للمتكبرين في الدنيا حيث تكون نهايتهم مخزية ومذلة كما كانت نهاية رأس الكبرياء فرعون ، وجعل لهم عقوبة أبدية أشد خزيا  في نارجهنم . 

وسوم: العدد 841