الإحالة على المعاش تحول دون تقديم المربين مزيدا من خدمة للتربية

إذا كانت الإحالة على المعاش تحول دون تقديم المربين مزيدا من خدمة للتربية  فلا شيء يحول دون تقديم النصح لها كل من موقعه وحسب اختصاصه

من المعلوم أن الخبرة والكفاءة في مجال من المجالات  أو ميدان من الميادين لا تزولان إلا برحيل أصحابهما عن الدنيا ، ولهذا لا مبرر لتعطيلهما بسبب إحالة أصحابهما على المعاش ، ذلك أن توقف ممارسة مهامهم  لا تعني توقف نصحهم بوضع خبراتهم وكفاءاتهم رهن إشارة من يطلبها أو من هم في حاجة ماسة إليها.

ومن المؤسف أنه لا توجد خطة لدى دولتنا من شأنها أن تجعل عطاء الذين يحالون على المعاش لا يتوقف ولا ينقطع ، بل تتعامل معهم كتعاملها مع الذين يرحلون عن هذه الدنيا  وتطوي ملفاتهم وإن كان بعضهم في قمة العطاء لو وجدت أساليب وطرق للتعامل مع عطائهم .

ومع أنه لا يفضل قطاع قطاعا آخر  في المجتمع من حيث الأهمية ، فإن قطاع التربية له  ما يميزه  عن غيره  باعتباره القطاع الحاضن الأول  للمواطن قبل أن يسلمه إلى قطاعات أخرى ليقوم بدوره ويضطلع بمهمته  فيها، لهذا يتوقف  نجاح سير كل  القطاعات على نجاح سير قطاع التربية ، كما أن تعثرها يعزي إلى تعثره .

وليس من قبيل الصدفة أن ينخرط المجتمع بكل فئاته في مناقشة قضية  قطاع التربية حين يختل أويراد تصحيح مساره لأن الجميع معني به .

 وبناء على هذه الأهمية التي تولى لهذا القطاع ، فإن المجتمع يولي ذات الأهمية للمشتغلين فيه لأنهم طرف وازن ورقم صعب  في نجاحه أو فشله . ومع أن المجتمع بجميع فئاته يتحمل مسؤولية صيانة هذا القطاع ، فإن الكثيرين ينحون باللوم على المشتغلين فيه ساعة فشله، بينما  لا يشكرون سعيهم حين نجاحه ، وفي المقابل يلومهم المشتغلون فيه أيضا كل الفئات الاجتماعية ساعة تعثره، ولا يعترفون لها بدورها حين يحالفه النجاح.

وينطبق مثل العميان الذين يريدون تعريف الفيل على من يخوضون في  مناقشة موضوع فشل هذا القطاع لأنهم يلتمسون الفشل في جوانب منه دون أخرى ، تماما كما يلتمس العميان تعريف الفيل من خلال جزء من  أجزاء جسده، وكلهم يظن أنه قد أدرك تعريفه التعريف الصحيح. ومعلوم أن العوامل المتحكمة  في قطاع التربية على اختلافها البشرية، والمادية ،والمعرفية ...وغيرها ترتبط جدليا فيما بينها، وتتبادل التأثير والتأثر فيما بينها ، وعليها ينطبق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الذي يشبه فيه المؤمنين بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، فكذلك الشأن بالنسبة للعوامل المتحكمة في قطاع التربية ، ذلك أن إفلاس القطاع بسبب إفلاس عامل من العوامل يترتب عنه بالضرورة إفلاس باقي العوامل ، لهذا من إهدار الوقت والجهد فيما لا طائل وراءه محاولة حصر إفلاس أو تعثر قطاع التربية في عامل دون آخر .

وقد يقول البعض إن أهم عامل في هذا القطاع هو العامل البشري ، وهو أمر لا ينكر، ولكن هذا لا يقلل من أهمية باقي العوامل المتعالقة  فيما بينهاجدليا ، و بناء على هذا قد يكون إفلاس العامل البشري وراءه إفلاس عوامل أخرى مباشرة وغير مباشرة لا يلقى لدورها بال .

وما يعنينا  في هذا المقال هو موضوع الخبرة والكفاءة التي يتوفر عليها المشتغلون في قطاع التربية والتي تعد صمام أمانه ما داموا في الخدمة ، فإذا توقفت خدمتهم بسبب بلوغهم سن الإحالة على المعاش تتوقف خبراتهم وكفاءاتهم ،مع أنه بالإمكان ألا تتوقف، وذلك من خلال وضعها رهن الإشارة بطرق تختلف عن طرق توظيفها مؤسساتيا  كما كانت خلال فترات مزاولة المهام ، وبعبارة أخرى بإمكان المربين على اختلاف مهامهم أن يتوجهوا بالنصح والتوجيه لغيرهم ممن يزاولون مهامهم في القطاع  إذا ما فكرت الجهات الوصية عليه في وضع آليات الاستفادة من خبراتهم وكفاءاتهم ، ووفرت لذلك الظروف المناسبة . ولا يجب أن يفهم من وضع الآليات وتوفير الظروف شراء تلك الخبرات والكفاءات بمقابل بل المقصود هو تطوع أصحاب تلك الخبرات والكفاءات دون مقابل احتسابا للأجر عند الله عز وجل عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة قيل لمن ؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم " ، وعملا بقوله عليه الصلاة والسلام : " من كتم علما ألجمه الله لجاما من نار يوم القيامة " .

وبناء على هذا لا مبرر لوقف المربين الذين أحيلوا على المعاش نصحهم المتمثل في وضع خبراتهم وكفاءاتهم رهن إشارة من يطلبها أو من يحتاجها ، ولا ذريعة لهم  يتذرعون بها  تعطيل واجب النصح ، وعليهم أن يجتهدوا في البحث عن طرق إسداء هذا النصح خصوصا في زمن التطور المعلوماتي الهائل .

وإذا  كان بعض هؤلاء قد وصلوا عملهم في القطاع العام بعملهم في القطاع الخاص واضعين خبراتهم وكفاءاتهم رهن إشارته ، وربما بذل بعضهم فيه من الجهد ما لم يبذلوه في القطاع العام وحسابهم عند ربهم ، فإن النصح وإن تحقق بخدمتهم  في القطاع الخاص، فإنه لن يبلغ درجة نصح أريد به وجه الله عز وجل والدار الآخرة ، وهو ما نقصده في هذا المقال .

ومن هذا النصح  ألا يسكت المربون المحالون على المعاش وهم يرون قطاع التربية مقبلا على مغامرات ربما تكون غير محمودة العواقب من قبيل مغامرة تهميش اللغة العربية في تدريس بعض المواد أو ما بات يعرف بفرنسة مواد دراسية معينة ، وغير ذلك من الإجراءات التي اتخذت مؤخرا من قبيل مغامرة  التعاقد مع أطر في أمس الحاجة إلى تدريب وتأطير حقيقيين عوض تداريب شكلية في فترات زمنية  قصيرة لا يمكن أن يتحقق فيها المطلوب حتى صار أمرها كأمر الكتيبات السوقية التي يضع لها أصحابها عناوين من قبيل : " تعلم اللغة الفلانية في خمسة أيام بدون معلم ". ومعلوم أنه لا مندوحة عن تداريب جيدة يشرف عليها أصحاب الخبرة والكفاءة  سواء كانوا من الذين لا زالوا في الخدمة أو من الذين غادروا ، ويشترط في هؤلاء أن ينصحوا دون انتظار أجر إلا من الله عز وجل ، وتكون في مدد زمنية معينة  . ومن الغريب أن يخضع المجندون في القطاع العسكري لحول كامل من التداريب ، بينما يلتحق بقطاع التربية من لم يتدرب سوى أسابيع  معدودات  الله أعلم بجدية ونجاعة  تداريبهم، وإن كنا لا نقلل من شأنها بل نشك في سرعة إنجازها وفي الفترات الزمنية المخصصة لها .

هذه وغيرها من  المغامرات الطارئة  مؤخرا على قطاع التربية ، والتي لا يعلم إلا الله ما سيترتب  عنها من عواقب بالنسبة لقطاع هو في حكم مفلس أو شبه مفلس تقتضي إسهام المربين المحالين على المعاش في تجنيبه ما لا تحمد عقباه.

والواجب انطلاقا من شعور هؤلاء المربين المحالين على المعاش بمسؤولية النصح لقطاع أمضوا في خدمته زهرة شبابهم أن يطرقوا كل طرق من شأنها أن تيسر لهم النصح له  في هذا الظرف بالذات الذي يمر فيه القطاع بمرحلة دقيقة للغاية، مع ما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي من إمكانيات إيصال النصح وانتشاره على أوسع نطاق . والله تعالى من وراء القصد.

وسوم: العدد 841