السياسي والثقافي والربيع العربي

د.أحمد محمد كنعان

بين الثقافة والسياسة تاريخ مزمن من التنافر والصراع ، فقد حدثنا التاريخ عن طابور طويل من المثقفين المأجورين الذين دأبوا على تأييد السياسيين ، وتبرير أفعالهم وتمجيدها مهما كانت جائرة ، ضاربين بعرض الحائط كل المبادئ والقيم التي دبجوا حولها القصائد والروايات والمطولات .

وشهد التاريخ بالمقابل مثقفين نذروا أنفسهم شهداء على مذبح الكلمة ، ووقفوا بشرف ضد السياسات الجائرة ، منتصرين لأفكارهم ومبادئهم ، أوفياء لضمائرهم ، مستشعرين المسؤولية الأدبية التي يحملون همها ، فلا غرابة إذن أن يشهد تاريخ الثقافة والسياسة أسماء كبيرة لمثقفين مخلصين معاندين كسرت السياسة رقابهم ، ومثقفين آخرين مدجنين باعوا للسياسة رقابهم !

وقد شهد تاريخنا العربي الكثير من هذه المواقف المأساوية ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر موقف المثقف الأديب "ابن المقفع" مبدع "كليلة ودمنة" الذي سلخت السياسة جلده وهو حي ، لأنه تجرأ في إحدى رسائله على أحد العباسيين قبل أن يصير خليفة ، فلما صار خليفة أمر عماله بإلقاء ابن المقفع حياً في الفرن ليشوى على نار السياسة غير الهادئة ، جاعلة منه عبرة لمن يفكر بأن يقول للسياسي : لا !

أما أديب البلاغة "أبو حيان التوحيدي" فقد ذكر في كتابه الفريد "الإمتاع والمؤانسة" صنوفاً من الإذلال الذي تعرض له من أصحاب السلطان ، الذين أحرقوا كتبه ، وشهروا به وبعلمه وأدبه ، وانتهى به الأمر أن يموت شريداً مطارداً مقهوراً .

وعلى الجانب الآخر نجد صورة مغايرة للمثقف المدجن ، منها على سبيل المثال المثقف الأديب "الجاحظ" الذي عاصر اثني عشر خليفة فلم يصادم أحداً منهم ، بل ظل يدور معهم حيث داروا ، ويعلن الولاء لهم واحداً بعد الآخر ، وظل يمجد أفعالهم ، ويهديهم عصارة أدبه وفكره حتى آخر لحظة من حياته !

أما عصرنا الحاضر فقد سجل قائمة طويلة جداً من هذه المآسي التي عركت برحاها عدداً لا يحصى من المثقفين المخلصين الذين رفضوا بيع أقلامهم ورقابهم لأرباب السياسة ، وشهد بالمقابل عدداً لا يحصى من المثقفين الذين دأبوا على التسبيح بحمد جلاديهم من أرباب السياسة !

إنه باختصار تاريخ الصراع المزمن بين "سلطة الكلمة" التي يمثلها المثقف الوفي لفكره الملتزم بقضايا أمته ، وبين "سلطة السياسة" التي يمثلها الانتهازيون المتسلحون بقوة المال والنفوذ والصلاحيات التي بلا حدود !

والعجيب ، أن هذه العلاقة ما بين السياسي والمثقف تظل ــ على الرغم مما فيها من مجازفة ومخاطر ــ علاقة مغرية يسيل لها لعاب الكثيرين من مدعي الثقافة المستعدين لبيع أقلامهم وضمائرهم بثمن بخس ، دراهم معدودة !

إنه تاريخ المنافسة بين همين متباينين : همِّ السياسي الذي يحرص دوماً على شراء المثقف وتوظيف قلمه وفكره لصالح مشروعه السياسي ، وهمُّ الثقافي الذي يتوق للانعتاق من قيود السياسة لينطلق بالدفاع عن قضايا البسطاء والمسحوقين والمظلومين والمضطهدين ، وما بين هذا وذاك نجد شريحة واسعة من المثقفين الذين يقفون في منتصف السطر ، في وضع عصيٍّ على الإعراب !

ولا شك بأن هذه العلاقة التاريخية المتأزمة ما بين السياسي والثقافي تحتاج إلى وقفة طويلة لإخراجها من دائرة الصراع إلى دائرة الإبداع الذي يرتفع بالثقافة والسياسة معاً ، لكن ثمة عامل عَصِيُّ يقف دون تحقيق هذه المعادلة الصعبة ، فأبجدية السياسي تقوم على المصلحة والإلزام والخضوع ، وهي أبجدية تتعارض على طول الخط مع أبجدية المثقف الذي يتوق إلى المثالية ، إلى الحرية والانعتاق ، وكسر المسلَّمات ، وخلخلة البنى العتيقة .. وفي هذه النقطة تكمن مأساة المثقف الحر !

باختصار ، هي حكاية السياسي البراجماتي الذي يريد الوصول إلى هدفه بأقصر الطرق دون أي اهتمام بالأخلاق أو الضمير أو القيم .. وحكاية المثقف المثالي ، المولع بالتنظير ، الذي يحلم دوماً بالبديل .. ولعل الحالة الوحيدة التي يمكن أن يتلاقى فيها السياسي مع المثقف هي حالة الثورة التي تجبر الطرفين على التعاون لتحقيق انتصار الثورة ، إلا أن هذا التعاون ــ للأسف الشديد ــ لا يدوم طويلاً ، بل سريعاً ما ينهار بعد انتصار الثورة واستقرار الأوضاع ، فيعود الصراع بين الطرفين من جديد ، وغالباً بوتيرة أشد شراسة ، ما يعني أن هذا الصراع سيظل مرتبطاً بالظرف الآني الذي يجمع الاثنين أو يفرق بينهما .

لكن .. لماذا نطيل الحديث ــ نحن العرب ــ عن ثنائية المثقف والسياسي ونحن نرى أن المثقف لم يعد له اليوم تأثير فعلي في واقعنا العربي ، بعد أن تصدر السياسي المشهد ، وأصبح هو اللاعب الأساسي بل الوحيد على خشبة المسرح ، فيما بات المثقف بين خيارين لا ثالث لهما : فإما أن يسير في ركب السياسي ويتخلى عن أحلامه وقيمه ، وإما أن يقضي بقية حياته ملاحقاً مقهوراً مشرداً بين السجون والمعتقلات والمنافي .. وإن أخشى ما نخشاه ونحن نعيش تباشير هذا "الربيع العربي" الذي زرع بذوره بعض المثقفين المخلصين ، أن يجهضه السياسيون ويعيدونا إلى عصر الاستعباد ، وهذا ما يوجب على المثقفين جميعاً أن يكون لهم موقف حاسم يرفض مثل هذه النهاية لربيع ضحوا من أجله بالكثير .