سمعنا وأطعنا

علي أبو عون 

[email protected]

 (من أغلى ما أملكه وضوحي وصراحتي ، ولكنني دفعت ثمنا ليس بالهيّن من أجله على مستوى الأصدقاء أو حتى في دوائر العمل المختلفة) هذه المقولة ستجدها محفورة في ذاكرة الكثيرين ممن احترموا عقولهم، وتعاملوا مع الغير على أنهم بشر يصيبون ويخطئون.

كثيرٌ من العاملين في الصف الدعوي جُبِلَ على ( ثقافة سمعاً وطاعة ) تلك الكلمة التي فُطِمَ عليها الأفرادُ منذ نشأتهم في الحاضنات الدعوية، وأصبحت سيفاً بيد المسؤول يشهره عند كل مفرق ومنعطف.

ثقافةُ السمعِ والطاعة تلك التي كانت من لوازم العمل التنظيمي، ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى تماسكِ صفه، ولُحْمةِ أفرادِه، ووحدةِ آرائهِ ومواقفِه، أصبحت في بعض الأحيان تُسْتخدم في غيرِ مواضعِها، وتُفْهم على الوجه الذي لا يُراد لها، حيث غيبتْ الكثير من العقولِ المعطلة ، وصُمَّتْ آذانُ الطبقةِ العليا عن السماعِ لملاحظات ونصائح الأفراد، إما استخفافاً بعقولهم ، أو تطبيقاً لنظرية " ما أريكم إلا ما أرى " ، وتحطمت آمالُ الكثيرِ من أصحابِ النظرةِ العميقةِ والرؤية الواضحة، وأصحاب المشاريع الإصلاحية عند الاصطدام مع أصحاب العقول المتحجرة، التي لا يمكن لها أن تستوعبَ أنَّ غيرَها يملك من أدوات الفهم ما يؤهلها لإبداء آرائها، وهذه الثقافة ليس مردُّها إلى قوة المتنفذين، أو تسلط المتعنتين بقدرِ ما هو ضعف في الأفراد ناتج عن خوفهم من إبداء آرائهم، أو جهلهم في مبدأ السمع والطاعة، وكأن الرأيَ وحيٌ من السماء، لا يُناقشُ فيه ولا يُجادل، ولا أقصد هنا تلك القرارات التي تمس بالأمن القومي، أو تلك التي تحدد السياسات الكبرى، وإنما أقصد الاجتهادات في مواقع العمل المتعددة، فكم نحن بحاجة إلى تحديد مفهوم السمع والطاعة، وهل هو على إطلاقه أم له شروط تقيّده، وهل كل الأوامر الصادرة من الجهات العليا تنزل إلى الأفراد منزل الإلزام وفق هذا المبدأ.

إن المتتبعَ لمواقفِ الفاروق عمر بن الخطاب تجاه أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم يَلْحَظُها مواقف تنبئ عن شخصية فريدة في نوعها ، تختلف تمام الاختلاف عن بقية شخصياتِ الصحابة من حيث الجرأة على إبداء آرائه وتوضيح مواقفه، ومحاولة فهم الأسباب التي أدت إلى هذا الرأي، فلم يستسلم لذلك الأمر الصادر من الجهة العليا طالما أنه واقعٌ في دائرة الاجتهاد ويحتمل أن يتغير إلى ما هو أفضل.

والأمثلة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى في هذا المقال، وأكتفي هنا بذكر مثال يدل على جرأة الجندي في إبداء رأيه الذي يراه الأنسب، ويدل على روعة استماع القائد لآراء جنوده، في غزة بدر وتحديداً في مشورة  الحباب بن المنذر بن الجموح لدليل واضح على تشغيل هذا العقل، وتحريك الطاقة المحركة له، وعدم الاستسلام لأمر ما إن كان مصدره الاجتهاد، قال الحباب : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نغور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه ، فملئ ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية.

البشر كلّهم عرضة للخطأ والصواب إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يفهم البشرُ أيضاً –وخصوصاً ممن علا شأنُهم- أنهم عرضة للنقد، بل وبحاجة إلى ثقافة النقد البناء كي يتجاوزوا الخلل والزلل، ويقوّموا كلَّ اعوجاج قد يعتريهم في طريق العمل، وأنهم بحاجة أيضاً إلى توسيع دائرة المشورة، والاستماع إلى آراء الغير، وهذه الكلمات ليست موجهة إلى رئيس أو وزير، هذا الكلام موجه إلى المدير وموظفيه ، إلى الأب وأبنائه، إلى القائد وجنوده، إلى الأصدقاء فيما بينهم، أن الله خلق للإنسان عقلاً ليستخدمه، لا ليكون أداة طيعة بيد غيره، خلق الله للإنسان عقلاً ليفكر ويحلل ويستنتج ويميز الخيرَ والشر، والحقَّ والباطل، والمعروفَ والمنكر، والصواب والخطأ، فتفكروا يا أولي الألباب.