تبرئة الاحتلال، وتجريم الدين، واستهداف قداسة المدينة في كونشيرتو القدس لأدونيس (1)

يمكن أن نتكلم عن قصيدة/ ديوان أدونيس (كونشيرتو القدس) ضمن مواقف الحداثيين من الدين والحضارة العربية الإسلامية من جهة، أو ضمن التيار الذي يستهدف المدينة المقدسة في السياق الثقافي بتجريدها من القداسة، وهما معا لا ينفك أحدهما عن الآخر، حيث تتقاطع هذه الأصوات مع الأصوات النشاز التي تطبع مع المحتلين وتتنازل صراحة أو ضمناً عن الحق في القدس وفلسطين، لنكتشف أن هذه الأصوات تتآزر فيما بينها وتتقاسم الأدوار فيما يشبه الأوركسترا التي يتآزر فيها العازفون لتكوين السيمفونية!!

وهذه الصفحات ستحاول ابتداء أن تقرأ قصيدة أدونيس من خلال قراءة الدكتور أحمد دلباني، وهو من أبرز الذين تناولوا ديوان / قصيدة أدونيس بالقراءة والتحليل والترويج، والذي يعتبر أحد (حواريي) أدونيس المتخصصين في إنتاجه والمروجين لفكره، وذلك في دراسة له بعنوان: ( أدونيس في عمله الشعري الأخير- كونشيرتو القدس-: متى ينتهي تاريخك يا جارية السماء والنبوات؟)، وهي بالتالي أقرب ما تكون إلى ( قراءة في قراءة)، مع التمثيل بالنصوص من القصيدة كلما دعت الحاجة.

ويصدّر الدكتور دلباني دراسته بالقول إن أدونيس في كونشيرتو القدس:" يخرج عن كورَس الأدبيات العربية التي ربطت ذاكرة المدينة العتيقة بالزمن الكولونيالي ومأساة الشعب الفلسطيني منذ قيام دولة إسرائيل"، ويتابع بالتأكيد أن " هذا العمل يخرجُ عن الإطار السياسيّ الضيق الذي سجن القول الإبداعي عن القدس في ذاكرة الدَّم وتنازع المرجعيات اللاهوتية حول الأحقية التاريخية للأمّة الموعودة بالسّماء في المدينة العتيقة". ويختم فقرته الأولى قائلاً:" إنها قصيدة – بانوراما تستحضر مدينة القدس بعيداً عن الهواجس النضالية التي طالما أسرت الفعل الإبداعي العربي في زمن المراثي ونوستالجيا الفراديس المفقودة، القدس في هذا العمل الأدونيسي ليست فردوساً مفقوداً، وإنما هي جحيم أرضي وانشقاق ذاكرة أسّس لها التنابذ التاريخي بين المنظومات الدينية للطوائف المختلفة وهي تحاول الاستئثار بوعود السماء والأبدية".

ويرى الدلباني أننا " أمام عمل إبداعي يحاول جاهداً تأسيس ذاكرة مضادة لتاريخ التنابذ والانغلاق والتناحر الذي أسست له الوحدانيات الدينية".، وأن "يكتب مرثية الأرض التي رأى أدونيس أنها ظلت رهينة للإلهي وحمامة ذبيحة بسيف السماء التي جسدت الحديث باسم المطلق في شكله الديني".

من البداية يؤكد الدكتور أحمد دلباني أن عمل أدونيس يختلف عما يدعوه كورس الأدبيات العربية التي ربطت ذاكرة المدينة بالزمن الكولونيالي ومأساة الشعب الفلسطيني منذ قيام دولة الاحتلال، وليس معنياً بموضوع الأحقية في المدينة المقدسة، وأنه قد تحرر في عمله ( الإبداعي!! ) هذا من الإطار السياسي الضيق الذي سجن الحديث عن القدس في ذاكرة الدم وتنازع المرجعيات اللاهوتية حول الأحقية التاريخية، كما أنه ليس معنياً بالنضال لتحرير الفردوس المفقود .. والقدس كما تصورها عقله الممسوح  وقلبه الممسوخ جحيم وليست فردوساً!!.

ومثل هذا الكلام ما تقوله الكاتبة ناديا عيلبوني في مقالة لها بعنوان ( القدس والمقدس والغرائز الوحشية): "أهذه هي المدينة التي كانت السبب في حروب تاريخية أحرقت الأخضر واليابس وسفكت فيها، وعلى ترابها، ومن أجلها دماء آلاف البشر؟ حاولت أن أضع اللوم على من احتلوا المدينة وعبثوا بهويتها حاولت وحاولت... وحاولت، إلا أنني كنت في قرار نفسي أعرف تماما، أن الأسباب الحقيقية لهذا النفور والاغتراب، تقع في دائرة أخرى... لا، لم يكن السبب في ذلك كله هو الاحتلال. الاحتلال الذي تعمدت تجاهله إلى الحد الذي لا أذكر حتى هذه اللحظة، أنني رأيت إسرائيليا واحدا في مناطق القدس الشرقية"... المهم أن الاحتلال ليس المشكلة عند الكاتبة، ولكن المشكلة في رأيها تكمن في قداسة القدس عند الأديان الثلاثة التي تؤدي إلى الحقد وسفك الدماء، ما جعلها تتمنى أن تصحو القدس وقد نزعت عنها قداستها، كما تمنت ألا تكون القدس في فلسطين.

إنها مغالطات وتحريفات للحقيقة والواقع، وجريمة بحق الوطن والشعب، تحت مسمى الحداثة والإبداع الأدبي يقوم بها أدونيس ومن يروج له، أولاً لأن مبدأ احتلال أراضي الغير بالقوة، وطردهم منها، سواء كانت تلك الأرض ذات قداسة أو لم تكن، هو جريمة بكل المقاييس وفي جميع المبادئ والمواثيق الأرضية والأعراف البشرية فضلاً عن الشرائع الدينية، وبالتالي فإن من الخيانة العظيمة تجاهل المحتل الغاصب وعدم إدانته والتحريض ضده بحجة أن ذلك يوقظ ما أسماه ( ذاكرة الدم) والتنابذ التاريخي بين المنظومات الدينية للطوائف المختلفة، ذلك أن الفلسطيني ومعه عمقه العربي والإسلامي حين يتحدث عن حقه في القدس ويعمل للنضال من أجل تحريرها فليس ذلك تعطشاً منه للدم، ولا يحركه في ذلك عنصرية دينية أو قومية تعادي الآخر المختلف دينياً أو قومياً.

       

وهذا الكلام منها ومن أدونيس والدلباني يتضمن عدداً من المغالطات؛ فهو من جهة لا يزال يروج لخرافة أن الدين ليس إلا صناعة بشرية وأن فكرة المقدس التي هي إحدى مفردات الدين هي كذلك ليست إلهية بل إنسانية، في حين أن أصل الدين هو رباني بالرغم من حدوث التحريفات هنا وهناك، وقد نبه الرسول عليه السلام إلى أن حرمة مكة هي ربانية وليست بشرية لمنع انتهاكها حين قال في اليوم التالي لفتح مكة: (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس).

ومن جهة أخرى فإن وظيفة المقدس كما تظهرها أحكام الشريعة تبدأ بحماية الإنسان في المكان المقدس ومن ثم سائر مكونات البيئة من حيوان وطير ونبات، وليس هدف المقدس هو الانتهاك والعدوان، وذاك ما يتضح جلياً في حرمة المسجد الحرام مثلاً.

وثالثاً، فإن هذه الرؤية من أدونيس ومن شايعه، تلبس الحق بالباطل، وتخلط الحابل بالنابل، وتجعل المتسامحين وسفاكي الدماء في كفة واحدة، ذلك أنه وفي شأن القدس تحديداً، لا مجال للمقارنة بين ما فعله الصليبيون ولا الإنجليز ولا الاحتلال الصهيوني للمدينة المقدسة، وبين الفتح الإسلامي العمري للمدينة ولا التحرير الصلاحي لها، ولو أراد صلاح الدين ارتكاب المجازر وانتهاك الحرمات لتذرع بالثأر والانتقام ممن غاصت ركب خيولهم في دماء مسلمي القدس.

وهنا يتجلى الفرق الشاسع بين الدين الذي يكون سيداً للمؤمنين به فيلتزمون أحكامه ويكفون عن ارتكاب الجرائم، وبين أديان أخري يستخدمها أصحابها لارتكاب الموبقات.

وسوم: العدد 846