إثمد المدينة

أ.د. أحمد حسن فرحات

لقد انطلقت هذه الأمة ، في مسيرتها العلمية خلال التاريخ ، من القرآن الكريم وتوجيهاته وإيحاءاته . وحيثما أجلت الطرف في أي كتاب من كتب التراث ، مهما كان موضوعه بعيدا عن العلوم الشرعية ، فإنك تجد أنه قد كتب بروح إسلامية ، وليس ذلك عجيبا ، لأن الأمة كلها كانت تبدأ دراستها بتعلم القرآن ، ومعرفة ما يجب عليها من أمر دينها ، فلم يكن من الممكن تجاهل هذه المرحلة ، أو القفز فوقها.

ثم إن كثيرا من العلماء خلال التاريخ ، كانوا يجمعون في دراساتهم بين علوم الشريعة وعلوم الكون ، ولم يعرفوا تلك الحدود الفاصلة ، بين هذين النوعين من العلوم - كما نعرفها في وقتنا الحاضر - فهناك من جمع بين الطب والتفسير ، ومن جمع بين الطب والفلسفة ، ومن جمع بين الحكمة واللغة والشريعة ، ومن جمع بين الفقه والتفسير والحديث والتاريخ والفلك ، إلى غير ذلك من مفردات العلوم والفنون.....

كذلك كانت المساجد ، هي الجامعات التي تخرج فيها أولئك العلماء بشتى تخصصاتهم . بل إن كثيرا من غير المسلمين ، كانوا يحضرون إلى المساجد لتلقي العلم من العلماء المسلمين . فكما لم تعرف حلقات العلماء تفريقا بين أنواع العلوم والفنون ، كذلك لم نعرف تفريقا بين أنواع الدارسين والمتعلمين .

وكان العلماء يجودون على طلبتهم بما عندهم من العلم ، عملا بالتوجيهات القرآنية والنبوية ، الداعية إلى التعليم والناهية عن كتمان العلم والمتوعدة عليه.... فلا عجب بعد ذلك كله ، إذا رأيت كتب التراث ، التي كتبها غير المسلمين ، أنها قد كتبت بروح إسلامية مع أن كاتبها غير مسلم.

ثم إن العلوم لم تكن في تلك المرحلة التاريخية إلا عند المسلمين . وكان من يريد العلم لابد له من أن يتعلم العربية ، لغة العلم في ذلك الزمان . وعلى هذا كان الغربيون يتباهون بتعلمهم للعربية ودراستهم بها.

وهاهو " روجر بيكون " يقول:

من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية ، فإنها هي لغة العلم .

وهاهو " الفارو القرطبي " يقول:

" يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم ، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها ، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق . فأين تجد اليوم عالما منا يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل ، وكتب الأنبياء والرسل؟ واأسفاه! إن شباب المسيحيين ، الذين هم أبرز الناس مواهب ، ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية . فهم يقرؤون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف . وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة . وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب . وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية ، إذا ذكرت الكتب المسيحية . بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم فواحر قلباه!؟

لقد نسي المسيحيون لغتهم ، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف ، قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة . ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية ، فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة ، بأعظم ما يكون من الرشاقة . بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم(1) ".

إن هذا كله يقودنا إلى أن أمتنا ، لم تعرف في تاريخها ذلك الانفصال ، بين علوم الدين وعلوم الكون ، والذي عرفناه في عصورنا المتأخرة . حتى إن شبابنا الذين يدرسون العلوم الكونية ، لا يلمون بكثير من الأوليات الإسلامية ، والتي لا يجوز الجهل بها ، لأي مسلم مهما كانت درجة تعليمه .

إن الازدواجية الثقافية لم تعرفها أمتنا خلال التاريخ . وإنما كانت الدراسات الإسلامية والعربية بحدها الأدنى ، هي القاعدة التي لابد منها لكل من أراد أن يدرس أي علم من العلوم . وعلى هذا درجت كل أمة ، ولا يجوز التفريط في ذلك بحال من الأحوال ، لأنه تفريط بوجود الأمة وذاتيتها وثقافتها.

ولقد أدركت جامعاتنا خطورة مثل هذا الأمر، فأصدرت اتحادات الجامعات العربية والإسلامية ، توصياتها بتعميم دراسة الثقافة الإسلامية في كافة التخصصات والفروع....

وكذلك فإن ما يدرسه طلبتنا من الثقافة الإسلامية والعلوم العربية ، في مراحل التعليم التي تسبق الجامعة ، يعتبر غير كاف لتحصيل الحد الأدنى من الصعيد الثقافي المشترك .

ولابد للمعنيين بالخطط التعليمية أن يأخذوا هذا الأمر بعين الاعتبار وأن يحملوه محمل الجد ، حتى لا يجد أبناؤنا أنفسهم في مواقف محرجة أمام غيرهم من أصحاب الثقافات الأخرى ، والذين قد يعرفون عن ثقافتهم الإسلامية أكثر مما يعرفون هم ، وكثيرا ما يفاجأ طلبتنا الدارسون في الغرب بمثل تلك المواقف المحرجة.

ثم إن العناية بهذا الصعيد الثقافي المشترك ، لن تكون على حساب التخصص العلمي والتفوق فيه . فإن أمتنا التي عرفت هذا المنهج خلال تاريخها ، قد عرفت آلافا من العلماء العظام ، في شتى فنون العلم والمعرفة . ولم يكن ذلك الصعيد الثقافي المشترك إلا عاملا إيجابيا في متابعة دراساتهم وتخصصاتهم .

بل إنه في كثير من الأحيان ، يكون حاميا وواقيا من الانحرافات ، والانزلاق وراء الشهوات والخرافات والأوهام ، التي تلبس لبوس العلم وتتدثر بدثاره.

وهاهو شاعر الإسلام الكبير، وفيلسوفه العظيم ، محمد إقبال يخبرنا عن أثر الثقافة الإسلامية ، في حمايته وتحصينه أثناء دراسته في أوروبا فيقول:

" ذهبت إلى أوروبا وخرجت منها كما خرج إبراهيم من نار النمرود. لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي ولا أن يغشي بصري وذلك لأني اكتحلت بإثمد المدينة...."

فأين هذا كله ، مما نجده في ثقافة الغرب المعاصرة ، والتي كتبت بروح معادية للدين ، وذلك نتيجة للظروف التاريخية ، التي حتمت الصراع بين العلم والكنيسة في أوروبا . ثم أراد لها المترجمون أن تنتقل بهذه الروح ، إلى العربية وإلى المسلمين ظنا منهم أن العلم لا يمكن أن يكون إلا منافيا للدين !!؟   

وسوم: العدد 846