مناسبة المولد النبوي الشريف فرصة لتجديد العهد مع محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

مناسبة المولد النبوي الشريف فرصة لتجديد العهد مع محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم  من خلال استعراض شمائله

من أعظم نعم الله عز وجل على الخلق نعمة الرسالات التي أوكل بنقلها إليهم صفوة خلقه من أنبيائه ورسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وهي نعمة لا تضاهيها نعمة ،لأنها تدل على عناية الله عز وجل بهم، وهو العلي العظيم الملتفت إليهم بكلامه ،وهم مجرد عبيد وإماء ضعفاء ليسوا في مستوى التفاته ورعايته ورحمته ولطفه ...وما شاء الله تعالى من صفاته الحميدة . وفي ثنايا التفاته جل ثناؤه هداية لهم وإخراج لهم من ظلمات الضلال إلى أنوار الهداية .

وبعد شكر الخلق المولى جل وعلا على هذه النعمة العظمى، لا بد من شكر من أوكل بهم سبحانه وتعالى نقل رسالاته إليهم وهم المرسلون والثناء والصلاة والسلام عليهم  أجمعين كما أمر رب العزة جل جلاله في محكم التنزيل .

ومع كمال الدين في الرسالة الخاتمة المنزلة على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، تمت نعمة الله العظمى على العالمين ، وهي رحمة مهداة من ربهم يقيدهم شكرها أجمعين ، ومن شكرها أن يوفى من حملها إليهم حقوقه كاملة غير منقوصة .

ومناسبة مولده صلى الله عليه وسلم فرصة لهم ليوفّوه تلك الحقوق ،ومنها أنه صلى الله عليه وسلم له عليهم واجب عليهم الإيمان به، وتصديقه، واتباعه ،وطاعته وهي من طاعة الله سبحانه وتعالى ،والتأسي والاقتداء به ، وعدم التقديم بين يديه ، والأخذ بما أتى والانتهاء عمّا نهى ، والرضى بما قضى والتسليم به ، والصلاة والسلام عند ذكر اسمه الشريف ... إلى غير ذلك مما أوجب له الله عز وجل من حقوق على الناس ، وهو المبعوث إليهم رحمة أجمعين .

ورحمته في الدنيا تتجلى في هدايتهم إلى صراط مستقيم ، ورحمته في الآخرة عبارة عن شفاعة بين يدي جبّار السموات والأرض  يوم يعرضون عليه ، وهو ما جاء في حديثه الشريف صلى الله عليه وسلم حيث قال : " إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها " وفي رواية : " فتغلبوني تقحّمون فيها " . هذا حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس في عاجلهم وآجلهم ينقذهم من نار جهنم ، وبذلك كان رحمة للعالمين .

ولما كان هذا شأنه وقدره عند الله عز وجل ،فإن مولده صلى الله عليه وسلم أعظم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق ، وهو يستحق أن يحتفل به غاية الاحتفال ،لأن مولده كان إيذانا بحلول رحمة الله عز وجل بالناس ، وقد كانوا في ضلال وضياع قبل أن تحل بهم .

 ويجدر بالناس جميعا أن يتخذوا  من هذه المناسبة العطرة فرصة للتنافس في حب صاحب هذا القدر العظيم كأشد ما يكون التنافس . ولا يمكن أن يصل الخلق إلى محبته دون معرفته ، وهي معرفة لا تتأتى دون علم . وأجل علم هو استعراض شمائله وأحواله ،لأنه باستعراضها يحصل الأنس به، وبالأنس يحصل التأسي ، وبالتأسي تحصل  طاعته التي هي من طاعة الله عز وجل ، وبطاعته تحصل الاستقامة ، وبالاستقامة يحصل الفوز بالجنة والنجاة من النار . ولقد وعد الله عز وجل من يطيعه ويطيع رسوله صلى الله عليه وسلم برفقة صفوة خلقه من نبيئين  وصدّيقين وشهداء وصالحين وقد أثنى رب العزة على هؤلاء بقوله : (( وحسن أولئك رفيقا )) ، وذلك في قوله جل وعلا : ((  ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليه من النبيئين والصدّقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما )) .

ومما تتحقق به هذه الرفقة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله لأحدهم حين عبر له عن حبه لله وله : " إنك مع من أحببت " . وهذه البشارة منه صلى الله عليه وسلم لأمته كافة كانت يوم سأله أحدهم قائلا : " يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : ماذا أعددت لها ؟ قال : لا شيء ، إلا أنني أحب الله ورسوله ، قال : فإنك مع من أحببت " وراوية هذا الحديث هو أنس بن مالك قال بعد روايته : " فما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحتنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك مع من أحببت " ، ثم قال : " فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وعمر ، وأرجو أن أكون معهم بحبّي إياهم ، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم ".

ولله در هذا الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، فكان سؤاله سببا في بشارة للمؤمنين ، ولله دره وقد احتقر عمله حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا أعد ليوم القيامة فقال : لاشيء ، مع أنه كان له عمل صالح يشهد عليه حبه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم إذ لا يحبهما إلا مطيع لهما صالح العمل ولكنه لم ير عمله شيئا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما علم عليه السلام صدقه في محبة الله عز وجل ومحبته له بشره بالبشرى السعيدة بقوله : " إنك مع من أحببت " .

وإن مناسبة مولده الشريف هي فرصة لتجديد العهد مع حبه عليه الصلاة والسلام عسى أن نحظى برفقته ورفقة النبيئين  والصدّقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

ومعلوم أن شرط الحب الصادق هو طاعة المحبوب في المكره والمنشط ، ولا يمكن لمن يحب صدقا ألا يطيع محبوبه فيما يأمره به وينهاه عنه ، وقد يفضي حب الإنسان غيره أحيانا إلى إتيان ما لا يؤتى من الأفعال تعبيرا عن محبته له ، وإن بعض الناس ليفقدون عقولهم عشقا وولها بمن يحبون، فما بل الناس إذا كان المحبوب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة وشفيع الأنام ؟ وهو الذي اشترط الله عز وجل فيمن أراد أن يكون محبوبا عنده اتباعه وطاعته مصداقا لقوله عز من قائل : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) .

فهل سنحذو حذو الذي نال بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنك مع من أحببت " حين لم يغتر بما أعد ليوم القيامة ، ولم يزك نفسه ، بل تحبب إلى الله عز وجل ورسوله ، فشفع له صدق حبه لهما ، ونال رفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي رفقة النبيئين والصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وبقي أن نقول كلمة للذين ينكرون الاحتفال بمولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ، وهي : إن لم يحتفل بمولده ،فأي مولد يستحق أن يحتفل به، ومولده يرمز إلى حلول أعظم النعم على الإطلاق ؟ أوليس الله تعالى قد أنزل قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ذكر فيه مولد نبييّن كريمين هما  موسى وعيسى عليهما السلام ؟ فلو لم يكن لمولدهما شأن عنده لما ذكرهما ، وكمولدهما ذي الشأن العظيم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم  الذي لا بد أن يعظم ويجل، ويكون مناسبة لاستعراض شمائله وهي دروس وعبر ، وتتضمن تربية عظيمة للنفوس . فلو أن الناس اجتمعوا في بيوت الله عز وجل ووقفوا كل ليلة من ليالي هذا الشهر العظيم عند إحدى شمائله ، وعدلوا على ضوء استعراضها  من سلوكهم اقتداء به لحصلت لهم استقامة الصالحين . و عجبا كيف ينكر استغلال فرصة المولد مذنبون هم في أمس الحاجة إلى علاج عبر استعراض شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟

ومن الجهل  الصارخ لدى المنكرين الاحتفال بالمولد الشريف أنهم لا يميزون بين احتفال المحبين المستعرضين للشمائل المحمدية وبين المبتدعين الذي يحتفلون بما يخالف سنة سيد المرسلين . إن هؤلاء تنطبق عليهم قولة الفيلسوف ابن رشد رحمه الله تعالى حين حرّم بعض حكام زمانه تعاطي الناس الفلسفة بذريعة أنهم يتزندقون بتعاطيها  والقولة هي : " مثل من منع الفلسفة عن الناس كمثل من منع عنهم الماء لأن قوم شربوا الماء فشرقوا فماتوا" . هكذا شأن الذين ينكرون الاحتفال بالمولد بسبب ما يأتيه المبتدعة من بدع مخالفة لكتاب الله عز وجل ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتي لا حاجة لسردها لأنها غير خافية  على الناس وهي مما ينكرونه لضلالها.

 ومن ضيق أفق منكري الاحتفال بالمولد أنهم ينعتون ما يلعب به الصبية والصبايا من دفوف ومفرقعات بالبدع أيضا مع أن الأمر يتعلق بلعب  صغار لا بجد كبار ، وهو لعب يفرح به هؤلاء الصغار ، ويرتبط في أذهانهم بشخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فتكون تلك اللعب التي يحصلون عليها وسيلة إلى محبته عليه الصلاة والسلام .

ومما ينكره منكرو الاحتفال بالمولد على المحتفلين ما يصيبونه من طعام وشراب بالمناسبة من باب التوسعة على العيال وابتهاجا بالمناسبة ، وهي ما يفعلونه عند كل ابتهاج ،ولسنا ندري لماذا  يستثنى الابتهاج بالمولد عن الابتهاج بغيره من المناسبات وهو أعظم منها جميعا؟

ومما ينكره منكرو الاحتفال بالمولد إنشاد الأمداح التي تتغنى بشخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم مع أنه خير من يمدح على الإطلاق ،علما بأنه وفد عليه الشعراء فمدحوه ، وأعطاهم كما كان شأن الشاعر كعب بن زهير الذي كساه بردته وأنصت إلى مديحه وكان أوله عزلا ومع ذلك لم يتأفف من سماعه  كما يتأفف منه منكرو المديح  الذين ينصبون أنفسهم متحدثين باسم الإسلام وأوصياء عليه  ، ويركبون في ذلك غرورهم ، ويزكون أنفسهم التي لا يزكيها  سوى سيدها ومولاها سبحانه وتعالى .

وفي الأخير نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لحبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ،وأن يجعلنا يوم القيامة معه بمحبته لا بأعمالنا إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد و على آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 850