مفهوم القدر

أ.د. أحمد حسن فرحات

من المعلوم أن مجتمعنا العربي والإسلامي مازال يعاني من حالة التخلف التي نزلت به ، وأنه لايزال يسعى جاهدا للتخلص منها ، والانعتاق من أسرها.

ومع ذلك فكثيراً ما نجده يتعثر في انطلاقه وخطوه ، ممايجعل سيره بطيئا وتقدمه قليلا . فإذا أضفنا إلى ذلك أننا في عصرسمته السرعة في كل شيء ، بدا لنا أن مثل هذا التقدم يكاد يفقد أهميته واعتباره .

إن حالة الفوضى الفكرية والثقافية ، التي تلقي بظلالها على المجتمع العربي والإسلامي ، تكاد تكون أحد الأسباب الرئيسة في هذه الحالة المرضية . ولقد نشأت هذه الحالة نتيجة تفاعل بين مورثات تاريخية ، ومقتبسات غربية . الأولى تعود إلى الماضي والأخرى إلى الحاضر.

وكما أن الموروثات لم تكن لأحسن ما يورث ، فكذلك المقتبسات لم تكن لأحسن ما يقتبس ، ذلك أن المريض لم يكن قادراً على التمييز ، وأن الأطباء الذين تولوا معالجته ، لم يحسنوا تشخيص حالته ، بعضهم عن قصد وبسوء نية . وبعضهم عن غفلة وعدم تقدير للمسؤولية .

وسنقصر الحديث - في هذه العجالة - على بعض الموروثات الخاطئة :

لقد ورث مجتمعنا العربي الإسلامي المعاصر، عن الماضي مفهومات خاطئة عن الإسلام . وما زالت هذه المفهومات الخاطئة ، تعمل عملها في قتل فاعلية المسلم المعاصر، وتصده عن الإسهام الإيجابي في حركة الحياة والبناء .

ولو أخذنا على سبيل المثال ، ما يتردد كثيرا على ألسنة الناس ،  من أن ما هم فيه من تخلف وانحطاط ، إنما هو بإرادة الله ، وبقضائه وقدره . وأن الأمر متروك إليه .

فإذا أراد هو أن يغير حالهم إلى الأحسن غيرها ، وأنهم تجاه ذلك ليسوا مطالبين بشيء ، إلا بالدعاء إلى الله ، أن يغير حالهم إلى أحسن...ثم تنتهي مهمتهم عند ذلك .

إن هذا المفهوم لـ((إرادة الله))  ولـ((القضاء والقدر)) مفهوم خاطئ لا يمت إلى الإسلام بصلة ، وهو دخيل على العقيدة الإسلامية ، والفكر الإسلامي .

إذ من المعلوم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما بعث ، كانت البشرية تموج بالانحراف عن سواء السبيل :

" إن الله نظر إلى أهل الأرض ، فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ""

"ولم يقبل النبي – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بهذا الانحراف السائد ، ولم يستسلموا له ، بحجة أنه كان بإرادة الله ، وبقضائه وقدره . وإنما وقفوا في وجهه ، يعملون فيه معاولهم ، حتى أتوا عليه . واستمروا في جهادهم وكفاحهم ، إلى أن تمكنوا من رفع راية التوحيد ، فوق معاقل القيااصرة والأكاسرة .

بل إن خالد بن الوليد – رضي الله عنه - قال للروم الذين حاصرهم في حمص :

"" والله لو كنتم في السماء لأطلعنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا" ".

بل هاهو ربعي بن عامر- الصحابي الجليل - يعبرعن مهمة المسلم الإيجابية في التغيير ، ويعتبرها تكليفا إلهيا ، حين يجيب رستم عن سؤاله :

""ما الذي جاء بكم إلينا؟"

فيقول ربعي:

((إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد ، إلى عبادة الله . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام )).

فمشيئة الله إذن تتم هنا ، بحركة المؤمنين وجهادهم ، لا بقعودهم وانتظارهم .

هكذا كان المسلمون الأوائل يفهمون معنى الإرادة الإلهية ومشيئتها ، لا كما يفهمها المسلمون المعاصرون المتكاسلون المتواكلون .

إن مثل هذه المفهومات الخاطئة ، تسربت إلى المجتمع الإسلامي ، من مصادر غير إسلامية ، وحاول أصحابها أن يجدوا لها مرتكزات ، في بعض الآيات القرآنية ، ليعطوها صفة الشرعية . ولتكون مقبولة عند المسلمين .

وقد استطاع هؤلاء أن يحققوا نجاحا في هذا المسعى . وما تزال آثار تلك المفهومات ، قائمة في عقول كثير من المسلمين وسلوكهم .

ولقد حاول ابن تيميه - في عصره - أن يتصدى لعلاج هذه المشكلة ، ويكشف عن وجه المغالطة فيها ، وذلك بتفريقه بين :

((الإرادة الإلهية الكونية)) و((الإرادة الإلهية الشرعية))

وكذلك بين((الإذن الكوني)) و((الإذن الشرعي))

وبين((كلمات الله الكونية)) و((كلمات الله الشرعية))

وبين((البعث الكوني)) و((البعث الشرعي))

و((القضاء الكوني)) و((القضاء الشرعي)) ... وأمثال ذلك.

فالإرادة الكونية هي المرادة بمثل قوله تعالى:

((ه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون))(1)

وقوله :

((وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له(2))).

والإرادة الشرعية هي المرادة بمثل قوله :

((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر(2)))

وبقوله : ((يريد ليطهركم(4)..))

فمعنى الإرادة الكونية : أن ما أراده الله كائن ، لا محالة .

ومعنى الإرادة الشرعية : أن ما أرداه من شرعه لكم كان لمصالحكم .

وعلى هذا :

فالإرادة الكونية لا يمكن أن تخالف . بينما الإرادة الشرعية يمكن مخالفتها .

ومن ثم فالتكليف محصور فيها ، دون الكونية . يقول ابن تيميه:

((..الإرادة ، والإذن ، والكتاب ، والحكم ، والقضاء ، والتحريم . وغيرها : كالأمر. والبعث ، والإرسال . ينقسم في كتاب الله إلى نوعين:

أحدهما:

ما يتعلق بالأمور الدينية ، التي يحبها الله تعالى ويرضاها ، ويثيب أصحابها ويدخلهم الجنة ، وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وينصر بها العباد من أوليائه المتقين ، وحزبه المفلحين ، وعباده الصالحين .

والثاني:

ما يتعلق بالحوادث الكونية ، التي قدرها الله وقضاها ، مما يشترك فيها المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، وأهل الجنة وأهل النار ، وأولياء الله وأعداؤه ، وأهل طاعته الذين يحبهم ويحبونه ، ويصلي عليهم هو وملائكته ، وأهل معصيته الذين يبغضهم ويمقتهم ويلعنهم اللاعنون.

فمن نظر إليها من هذا الوجه شهد الحقيقة الكونية الوجودية ، فرأى الأشياء كلها مخلوقة لله مدبرة بمشيئته ، مقهورة بحكمته...))(1)

والذي يجب أن ننتبه له: أن الناس مطالبون بالشرعيات ، لا بالكونيات .

فما شرعه الله لنا سواء ورد بلفظ((الإرادة)) أو((الأمر)) أو((الإذن)) أو((البعث)) أو((الكتاب)) أو((الكلمات))هو الذي يجب علينا فعله . وعليه يكون الحساب من إثابة المطيع وعقوبة العاصي . وقد أمرنا الله بالاستجابة لنبيه بقوله:

((يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم(1)))

ونهانا عن مخالفة أمره بقوله :

((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(2))) .

وبين مهمة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :

((لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم(4))).

وقال أيضا :

((هو الذي أرسل رسوله بالهذى ودين الحق ليظهره على الدين كله(5)))

. وقال أيضا:

((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره))(1).

وهكذا نجد في مثل هذه الآيات ، أن الرسل و أتباعهم ، مطالبون بتغيير الواقع الكوني إلى واقع كوني آخر، مطابق لما جاء به الأمر الشرعي ، والإرادة الشرعية . وأن عليهم أن يضحوا في سبيل ذلك ويجاهدوا :

((وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس))

((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))

((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله))

فتغيير الواقع المنحرف ، واجب شرعي فرضه الله . وهو وإن كان يتم بفعل الله الكوني إلا أنه مترتب على عمل المؤمنين وجهادهم ، طبقا لسنة التغيير الإلهية: ((إن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))

ومن هنا كانت الإجابة الإلهية ، عن تساؤل المؤمنين عما أصابهم يوم أحد:

((أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم...)) ومثل هذا سنة إلهية  ثابتة :

((وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم))

فإذا كان كل ما يقع في هذا الكون ، إنما يقع بقضاء الله وقدره . فإنه في نفس الوقت يقع طبقا لقانون العدل الإلهي ، الذي جعل الإنسان مستخلفا في الأرض بما أعطاه الله من أهلية التكليف ، وبما سخر له مما في السموات والأرض .

ومن خلال ما تقدم ، تظهر لنا أهمية المسلم وفاعليته في ميزان الله ، وفي التاريخ الإنساني . وأن عليه أن يرتفع في نفسه وسلوكه ، إلى مستوى ((الشاهد)) . لأنه هو مطالب بأن يحمل رسالة الإسلام إلى العالم ، وأن يغير مقتضيات الواقع الكوني المخالف لشرع الله ، إلى مقتضيات متوافقة مع هذا الشرع . ومن ثم يكون قضاء الله وقدره الكوني موافقا لما جاء به أمره وقضاؤه الشرعي .

ورحم الله أمير المؤمنين عمر حين قيل له:

أتفر من قدر الله ياعمر؟

قال: نعم ، أفر من قدرالله إلى قدرالله...

وسوم: العدد 850