هل القرآن حمال أجه ؟

أ.د. أحمد حسن فرحات

من الأقوال المأثورة في تراثنا:"لا يفقه الإنسان كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها" و قد تركت هذه الكلمة آثارها في كتب التفسير،و كتب العقائد و الفرق،فكثيرا ما يجد القارئ لتفسير آية أقوالا عدة،و وجوها مختلفة،يقف حيالها حيران،لا يدري ماذا يأخذ،و ماذا يدع،و كذلك الآية الواحدة تستشهد بها الفرق المختلفة،و كل منها تحملها المعنى الذي تريد،و هي تود نصرة قولها و تأييده بآية من القرآن ليكون مقبولا عند الناس،لا مجال بسم الله الرحمن الرحيم

للاعتراض عليه،حتى قال بعضهم:إن القرآن قد وسع الفرق الإسلامية كلها،نظرا لأن كل فرقة تحاول جاهدة أن تجد مستندا لما ذهبت إليه من القرآن.

و الحقيقة أن هذا القول المأثور: (لا يفقه الإنسان كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها) يمثل نصف الحقيقة،و النصف الآخر هو:(و حتى يستطيع أن يرجح واحدا من هذه الوجوه) ذلك أن رؤية وجوه عدة لمعنى الآية يدل على التبحر و سعة المعرفة الأفقية،و لكن ترجيح واحد من هذه المعاني يدل على الرسوخ في العلم و التعمق في الفهم،و القرآن نزل ليكون حكما بين الناس فيما اختلفوا فيه،و الحكم لابد أن يكون له قول واحد ليكون حجة و قابلا للتنفيذ،أما إذا تعددت أقوال الحكم و لم يمكن الترجيح بينها فكيف يمكن أن تكون حكما؟ و هكذا بدلا من أن يحكم القرآن بين الناس يما اختلفوا فيه،يختلف الناس في فهم القرآن،و ينشأ عن ذلك فرقة و خصام و مذاهب و اتجاهات،على حين نجد القرآن يأمرنا بالاعتصام بحبل الله و ينهانا عن التفرق:"و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا" آل عمران 103،كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا المخرج حين نزول الفتن بما رواه علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال:قلت يا رسول الله،ستكون فتن فما المخرج منها؟ قال:"كتاب الله،فيه نبأ من قبلكم،و خبر ما بعدكم،و حكم ما بينكم،هو الفصل ليس بالهزل،من تركه من جبار قصمه الله،و من ابتغى الهدى في غيره أضله الله، و هو حبل الله المتين،و هو الذكر الحكيم،و هو الصراط المستقيم،و هو الذي لا تزيغ به الأهواء،و لا تختلف به الآراء،و لا تلتبس به الألسن،و لا يخلق عن كثرة الرد،و لا تنقضي عجائبه،و لا يشبع منه العلماء،من قال به صدقنو من حكم به عدل،و من عمل به أجر،و من دعا إيه هدي إلى صراط مستقيم"[1].

و الشاهد في هذا الحديث قوله:قلت يا رسول الله،ستكون فتن فما المخرج منها؟ قال:"كتاب الله. ثم قال: و هو الصراط المستقيم،و هو الذي لا تزيغ به الأهواء،و لا تختلف به الآراء،و لا تلتبس به الألسن".

كما بين لنا القرآن الكريم أن سبب اختلاف النس منشؤه البغي بينهم مع وجود البينات و العلم و الكتاب:"كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" البقرة 213،و معنى الآية:كان الناس أمة واحدة،أي على شريعةمن الحق فاختلفوا،"فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين" فكان أول نبي بعث نوحا،"و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيهو ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم،أي من بعد ما قامت عليهم الحجج،و ما حملهم عل ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض.

كما ينهانا أن نتفرق و نختلف كما اختلف أهل الكتاب إذ قال:"و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات و أؤلئك لهم عذاب عظيم" آل عمران 105،و خاطب نبيه في شأن أهل الكتاب:"إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء" الأنعام 159،و بين سبب العداوة و البغضاء بينهم بقوله:"و من الذين قالوا إنا نصرنا أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة"المائدة 14.

فتحصل من ذلك كله أن منشأ الاختلاف لا يرجع إلى أصل الكتب لمنزلة،و إنما يرجع إلى سلوك الناس تجاهها نتيجة بغيهم بينهم أو نسيانهم حظا مما ذكروا به.

و قد بين لنا القرآن الكريم أن كونه من عند الله يقتضي عدم وجود الاختلاف فيه،

"و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" النساء 82،فدل ذلك على أن الاختلاف فيه لا يرجع إليه و إنما يرجع إلى ما عند الناس، و من ثم لابد أن تحكم آراء الناس بالكتاب،و لا يحكم الكتاب بآراء الناس.

و للوصول إلى فهم محدد لكتاب الله لابد من التزام منهج صارم في التفسير يقوم على أمرين:

الأمر الأول:مراعاة نظام الكلام الذي يشمل تسلسل المعاني و ترابطها الوثيق،و التناسب بين السابق و اللاحق في نطاق الآيات و السور،فتظهر بذلك وحدة القرآن الموضوعية،و تتضح قاعدته البيانية،و يبدو القرآن بذلك كلاً موحدا،لا تفاوت في مبانيه،و لا اختلاف في معانيه.

الأمر الثاني:اعتبار تفسير القرآن بالقرآن أصلا في بيان معاني الكلمات القرآنية،و اعتبار أسلوب القرآن قاعدة حاكمة في اختيار المعاني و ترجيح بعضها على بعض،و ذلك لأن تفسير القرآن بالقرآن تفسير صاحب الكلام لكلامه،و لا يمكن أن يقدم عليه أي تفسير مهما كان.

و مثل هذا المنهج الصارم لا يمكن الوصول فيه إلى نتائج قاطعة حاسمة إلا إذا أخذ مأخذ الجد في التطبيق، و يتطلب تعمقا في الفهم، و تدقيقا في النظر، و صبرا على التأمل الطويل،و التدبر الواعي،و لكن الثمرة لذلك كله فهم صحيح لكتاب الله،بعيد عن التكلف و التعسف، و تصحيح للأخطاء المتوارثة،و نظرات جديدة تدفع بالمسلمين خطوات واسعة إلى الأمام،و تكون منطلقا لنهضة إسلامية حقيقية،حيث تؤدي إلى توحيد الفهم الذي يجمع المسلمين على صعيد واحد و كلمة سواء،و بذلك يكون القرآن كما أراده الله أن يكون حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه،فلا يقدمون بين يديه آراءهم،و لا يحملونه ما لا يحتمل،و إنما يستلهمون مراده،و ينتهون إلى حيث ينتهي بهم.

و مثل هذا المنهج يحتاج إلى توضيح بالأمثلة،و هو ما نرجئ بيانه إلى فرصة أخرى. - وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. –

[1] أخرجه الترمذي و الدارمي و غيرهما من طريق الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه،و فيه كلام،و يميل القرطبي إلى توثيقه.

أنظر تفسير القرطبي:1ـ5،و كنز العمال:1-45،و سنن الدارمي:2-435-بتحقيق محمد أحمد دهمان،طبعة دمشق،1309 هـ

وسوم: العدد 852