كلمات ودلالات

رسالة المنبر ٤-١٢-٢٠١٩م

المحاور

????️ لقد تعلم آدم عليه السلام من رب العزة الكلمات ومعانيها، قال تعالى: "‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" (البقرة: ٣١) لكن المفسدين من أبناء آدم عبثوا ببعض الكلمات ومضامينها، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فصار لابد من الوقوف على ذاك القاموس الأعوج وتقويمه، وإلا فإن انحراف اللسان يعني بالضرورة انحراف الإنسان.

????️ ‏لو كان تقويم الألسنة العوجاء ترفاً زائداً باعتبار أنه لا مشاحة في الاصطلاح لما نزل قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة: 104).

????️ لن يسألنا الله تعالى عن الأسماء والعناوين بقدر ما سيسألنا عن الأعمال والمضامين، فلو أنك أقسمت ألف يمين أنك تاجر، وفي حقيقة الأمر انت تمارس الربا، فأنت عند الله مرابٍ "ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" (البقرة: ٢٧٥) .. ولو أنك حلفت أنك شيخ وداعية، وفي حقيقة الأمر أنت تمارس الخداع والتمثيل والتدليس، فأنت عند الله مدلِّس.

????️ شاع العديد من المعاني السلبية لبعض المصطلحات الجميلة الكريمة في ديننا، بل وفي قاموس لغتنا المباركة، ولعل لشيوع هذه المعاني وحَيدة الناس عن المعاني الإيجابية أسباب منها:

١. ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية ضاغطة.

٢. شيوع الكذب والتدليس والنفاق وتبريره لدى كثير من الناس بسبب الضغوط سالفة الذكر.

٣. الغزو الفكري الذي استهدف قاموسنا الجميل فأبقى المصطلحات، وأعطى للمعاني لمساته المادية القبيحة.

٤. ‏ضعف الإيمان وغياب روح الخشية من الله تعالى.

٥. ‏حالة الضعف العام والتبعية المطلقة للآخر.

????️ لقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم من انحراف قاموس المعاني لدى البعض، فكان التقويم النبوي لهم بالمرصاد، ومن نماذج التقويم النبوي للمصطلحات قوله صلى الله عليه وسلم:

١. في بيان المفهوم الصحيح للغنى "ليس الغِنَى عن كثرة العرَض؛ ولكن الغنى غنى النفس" متفق عليه.

٢. وفي بيان المفهوم الصحيح للإفلاس: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" رواه مسلم.

????️ لقد حاول المجرمون إدخال مصطلحات جديدة إلى قاموسنا الجميل، بإضفاء نوع من التجميل لتلك المصطلحات القبيحة المتداولة ومن ذلك:

١. مصطلح العلمانية: حيث أرادوا تجميل فكرة عزل الشريعة عن الحياة، بإضفاء لمسة العلم على تلك الكبيرة، فهم يريدون التخريب ولكن بلطف.

٢. مصطلح العولمة: حيث أرادوا إضفاء الشرعية على الاستبداد الثقافي والسطو الفكري، من خلال إدخال مصطلح مقبول شكلاً، ويحمل معنى تحويل العالم إلى قرية صغيرة، تحتكم إلى ثقافة الأقوياء وليس الأتقياء.

٣. مصطلح الديمقراطية: حيث أرادوا اعتماد رأي الأغلبية في الحكم والتشريع، بدلاً من الشورى التي يدلي فيها الحكماء وأهل الحل والعقد فيها بآرائهم، على ضوء درايتهم بأحكام الدين وفهمهم لمقاصد التشريع.

????️ وأسوأ من ذلك أن عموم الناس قد تعاطوا تعاطياً سلبياً مع بعض المصطلحات الكريمة؛ فحرّفوا معانيها بصورة جعلت أصحاب الفطرة السوية ينفرون منها، ومن تلك المصطلحات الكريمة التي انحرف معناها عند البعض:

١. كلمة الزهد: إذ الأصل في معناها؛ أن تجعل الدنيا في يدك لا في قلبك .. أما المعنى السلبي فهو الانخلاع من الدنيا وبالتالي تركها للفاسدين!!

٢. كلمة الحكمة: إذ الأصل في معناها؛ الموازنة بين الشدة واللين، واختيار التوجه والأسلوب المناسب للظرف والموقف المناسب، ولكل مقام مقال .. أما المعنى السلبي المتداول لها فهي اللين المطلق والسلمية الأبدية، والنفاق والمهادنة والجبن!!

٣. كلمة الذكاء: إذ الأصل في معناها؛ الاستخدام الأمثل للعقل لبلوغ السعادة المنشودة في الدارين .. لكنها أصبحت تعني الخبث والمكر والكيد واستخدام الأساليب الملتوية للوصول إلى الغايات، ومآل ذلك إلى الحزن والشقاء!!

٤. كلمة الانتماء: إذ الأصل في معناها؛ حب ما تنتمي إليه، والعمل على بنائه ورفعته وحمايته، ولو كلفك ذلك فناء مالك وروحك .. لكنها أصبحت تعني الأنانية وعشق الذات، والاستعداد التام لبيع العرض والتاريخ والوطن في سبيل رتبة أو راتب!!

٥. كلمة الجمال: إذ المعنى الصحيح لها هو؛ الُحسن والبهاء الداخلي، وما يظهر في إثر ذلك في الواقع المنظور .. والمعنى المتداول هو ما تضيفه الاكسسوارات التجميلية والحركات التمثيلية من إضافات على المشهد الخارجي، بصرف النظر عن العمق والمضمون!!

٦. كلمة السعادة: إذ هي شعور بالرضا والامتنان للخالق سبحانه، مع فرحة الروح الغامرة من أعماق الأعماق، بسبب حصول نعمة جديدة أو استذكار نعمة موجودة .. والمعنى الشائع هو الغفلة والطيش والتباهي والضحكات الفاجرة، والانتشاء بالإنجاز دون اعتراف بالجميل!!

٧. كلمة الحرية: إذ تعني الانعتاق التام من خضوع العبد لعبد مثله، وإقراره بالخضوع الصادق لسيده؛ النافع الضار، الرافع الخافض، المعز المذل، المحيي المميت، سبحانه وتعالى .. أما المعنى المتداول فهو الانخلاع من كل الضوابط والقوانين الأرضية والسماوية، مع بقاء المرء عبداً لشهوته وهواه وخاضعاً لشياطين الجن والإنس!!

٨. كلمة الشجاعة: إذ تعني قوة القلب والمبادرة في طلب الحق أو دفع الباطل .. وقد أخذت في زماننا معنى العدوان وتجاوز الحدود والقيود وإيذاء الآخرين!!

٩. كلمة القوامة: إذ تعني قيام الرجل على زوجته بما أعطاه الله من قدرات وإمكانات بالمعروف .. لكنها أصبحت لدى البعض تعني الاستبداد والتسلط على الزوجة، وفرض حق الزوج دون قيامه بواجبه نحوها!!

١٠. كلمة الحب: إذ تعني الميل القلبي والارتياح النفسي، والإخلاص والعطاء وتمني الخير لمن تحب وحمايته والدفاع عنه والغيرة عليه .. وأصبحت تعني الميل الشهواني، والرغبة في أخذ كل شيء من الآخر، وتجاوز الحدود والسدود لقضاء شهوات رخيصة ومتعة زائلة!!

١١. كلمة العلم: إذ هي كلمة نبيلة تعني؛ تحصيل المعارف والعلوم، والوصول إلى الحقائق النافية للجهل والنافعة للناس في حياتهم وبعد موتهم .. لكنها أصبحت محض مُدارسة يليها امتحانات لتحصيل شهادة يسعى لها البعض سعيها لبلوغ رتبة أو شهرة أو وظيفة!!

١٢. كلمة المسؤولية: إذ هي ما يُنتخب أو يُزكى أو يُعين لها القوي الأمين لسداد ثغر أو إدارة عمل أو إنجاز مهمة، وهو يدرك أنه سيحاسب على أدائه حسابين في الدنيا والآخرة؛ بأجر كريم وأجرة مباركة، أو بسحت مُهين وعذاب أليم.. لكنها أصبحت مجرد شهوة، يتنافس عليها طلاب المناصب ويوزعونها على مَن حولهم بلا شروط ولا قيود، ويستغلون وجودهم فيها لتحقيق مآربهم، دون التفات للانجاز المطلوب، ولا للسؤال بين يدي علام الغيوب!!

١٣. كلمة الموت: إذ هو يحكي انتهاء أجل الإنسان المقرر له في المرحلة الثانية من عمره، بعد المرحلة الأولى في بطن أمه، وقبل ذهابه إلى المرحلة الثالثة والرابعة والتي يمضيهما المرء في قبره ثم بعثه لحسابه على ما قدم في حياته .. في حين أصبح الموت يعني لدى البعض نهاية حزينة لا قيامة بعدها!!

١٤. كلمة الشهادة: إذ هي أمنية يتمنى المسلم أن يختم الله أجله بها، كيف لا وهي تحكي موتاً وفناء روح ابتغاء مرضات الله في ميدان دفاع عن دين الله .. لكنها في زماننا أصبحت انتحاراً وإلقاءً بالنفس إلى التهلكة!!

????️ إن على عاتق كل مسلم صادق واجب رد الأمور إلى نصابها، وإعادة المسميات والمضامين إلى أسمائها وعناوينها، وهذا يتطلب جهداً تشاركياً تتعاضد فيه منابر الدعوة والإعلام والتعليم والتوجيه المختلفة كلها، وإلا فنحن نخدع أنفسنا، ونلبس ثياب زور، ولن يصح إلا الصحيح، والكل أصبح يعرف العملة المزورة من الحقيقية ويميز بين الذهب والنحاس، ومن أجل تحقيق هذه الغاية النبيلة نقترح وسائل محددة منها:

١. مراجعة عموم المتداول من المصطلحات وتحرير معانيها ونشر الصواب وكشف الخطأ.

٢. محاكمة الناس ومحاسبتهم على المعاني الأصيلة وليس الدخيلة، عند إجراء حوار ونقاش معهم، فلا نعترف بالمفهوم الرائج للحرية، ونبقى على المعنى الأصيل لها.

٣. الحذر الشديد وتحذير مَن حولنا مِن المعاني السلبية الموجهة لبعض الكلمات .. ومن تلك الكلمات التي ينبغي الانتباه عند تداولها:

أ. كلمة الإرهاب؛ فهي كلمة تعني وفق قاموس أعدائنا؛ التفجير والتدمير والتكفير الذي يقوم به مسلم لمن يخالفه في الرأي .. وهي في الحقيقية تعني مجرد التخويف لمن تحبه كي لا يقع في الخطأ، ولمن تكرهه كي يرعوي ولا يتمادى في العدوان، لأجل ذلك جاء الترهيب في مقابل الترغيب في الدعوة، وجاء الإرهاب مقترناً بالإعداد في الجهاد.

ب. كلمة التطرف؛ وهي كلمة مترادفة مع كلمة الإرهاب وفق قاموس أعدائنا، وأمتهم فيهما نحن المسلمون .. ولكنها في الحقيقية تحتمل معنى ترك التوسط إفراطاً أو تشدداً (تطرف يميني) .. وتفريطاً أو تمييعاً (تطرف يساري).

????️ إن من واجب المسلم العناية باللغات واللهجات مع ضرورة الانتباه إلى خطورة تحريف المعاني عند الترجمة، فيوقعنا ذلك بحرج كبير في عالم السياسة والاقتصاد وغيرها من مجالات الحياة .. مثلما ينبغي علينا الاعتناء بترجمة معاني ودلالات كلماتنا إلى مختلف اللغات، لاسيما إذا كانت النصوص التي نترجمها نصوصاً دينية، لأن بعض فساد دلالات الكلمات يأتي بسبب أخطاء غير مقصودة أو لحن جليٍّ في الترجمة، واللغة العربية لغة عميقة ذات دلالات تتفاوت في التعبير عن حالتنا الشعورية ومواقفنا وأعمالنا اليومية.

????وختاماً????

إن خشيتنا من ظهور أجيال لا تعرف المضامين الصحيحة لبعض الكلمات المتداولة، يزيد من تعقيد دورنا في التربية، وهذا بالتالي ما يزيد من واجبنا كلنا نحو قاموسنا المبارك، وإيقاف الهدر والنزيف الذي تعرضت له الكثير من الكلمات، وهذا يحتاج منا إلى مزيد من الاقتراب من أبنائنا وإخواننا، ومزيد من الشرح المستفيض لهم، كي يبقى لبعض الكلمات نصوعها وجمالها، ونرى حينئذ أثرها وثمارها .. فالحرية (المنضبطة) مثلاً؛ معروف ندعو له ونتبناه، والحرية (المنفلتة) منكر ننهى عنه وننساه.

وسوم: العدد 854