رئاسيات الجزائر ونفايات الدولة العميقة

في رأس كبرى مفارقات، أو بالأحرى: مساخر، ما يُسمّى بـ”الديمقراطية” في عدد من الأنظمة العربية، أنّ الانتخابات ليست مؤشر الاستبداد الأوضح، ومظهرها الأكثر إهانة لمفهوم الاقتراع، فحسب؛ بل هي الأشدّ بغضاً من جانب الجماهير، وأحد أبرز منابع السخرية والتندّر وإلهام النكتة الشعبية. ونسبة الـ99,99 الشهيرة، التي أرساها وكرّسها حافظ الأسد وصحبه هنا وهناك في الدكتاتوريات العربية، صارت بمرور العقود مجازاً بليغاً يختصر طبيعة النظام وطبائعه؛ من دون أن تقترن، البتة، بأيّ “تكنيك” للحياء، أو حتى التذاكي والاستغباء والاستغفال، يصدر عن السلطة في كلّ دورة انتخابية.

أحدث الأمثلة ما يعبّر عنه الشارع الشعبي الجزائري، هذه الأيام، من رفض صريح لانتخابات رئاسية مقبلة تعطي مسبقاً كلّ العلائم على أنها ستكون تنويعاً لمهازل مماثلة اعتادت امتهانها أنظمة شقيقة في الاستبداد والعسف وتأبيد “القائد”. فبعد أن نجح حراك الانتفاضة في إقصاء عبد العزيز بوتفليقة عن دورة انتخاب خامسة، كانت ستُضاف إلى 20 سنة من التربع على سلطة استبداد وفساد؛ وبعد إفشال مخطط أوّل لانتخابات رئاسية زائفة، كان العسكر، وما تبقى من آلة النظام القديم/المقيم، قد قرروا إجراءها في تموز (يوليو) الماضي؛ تُفرض على الشعب الجزائري اليوم انتخابات رئاسية يتبارى فيها مرشحون يجمعهم قاسم مشترك واحد: أنهم أرباب نظام بوتفليقة، سواء من موقع رئاسة الحكومة، أو الوزارة، أو أمانة حزب موالٍ للسلطة.

وكما جرت العادة في كلّ مهزلة مماثلة، تسارع أبواق السلطة إلى التغني بالانتخابات تحت لافتات شتى، أبرزها أنها منجاة للوطن من الانزلاق نحو المجهول والفوضى؛ أو أنّ المعترضين عليها متآمرون يرتبطون بمخططات خارجية، وهم “خونة ومرتزقة ومثليون جنسيا وبقايا استعمار”، حسب الاختزال الجامع المانع الذي خرج به وزير الداخلية صلاح الدين دحمون. أمّا على صعيد شعبي، وضمن مساعٍ هي الأعلى خطورة على وحدة الجزائر الوطنية، فقد نظمت السلطة مسيرات مؤيدة لإجراء الانتخابات وُضعت، عن سابق قصد وتصميم، في مواجهة المسيرات الرافضة لهذه المسرحية، ولأيّ سيناريو آخر يستهدف إعادة إنتاج النظام. وبالطبع، لم يغب عن المنهج خيار الهراوة الغليظة، فشنت السلطة حملة اعتقالات ضدّ الناشطين المعارضين، أوضحت تفاصيلها منظمة “هيومان رايتس وتش” في تقرير خاصّ صدر قبل أيام.

العسكر من جانبهم استأنفوا خطاب ذرّ الرماد في العيون، فأعلن رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح أنّ قيادة الجيش لا تساند أيّ مرشح، و”الشعب هو من يختار، وهو المسؤول عن اختيار الرئيس الجديد القادر على قيادة الجزائر”؛ متجاهلاً أنّ هذا الادعاء قد لا ينطلي حتى على السذّج، وبات واضحاً أنّ دعم الجنرالات ينصبّ على عبد المجيد تبون، ابن النظام الذي تولى كل المناصب، ابتداء من الولاية، مروراً بالوزارة، وانتهاء برئاسة الحكومة. صحيح أنه يقدّم نفسه كواحد من ضحايا مافيا رجال الأعمال التي كان سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس السابق، سندها وضمانتها؛ إلا أنّ تبون، على مدار عقود ومواقع ومناصب، لم يكن البتة طاهر الذيل نظيف السجلّ.

لكنّ الشارع الشعبي، قبل الجنرالات والمرشحين الخمسة، وأكثر منهم بما لا يُقارن في الواقع، يدرك أنّ الجزائر تقع في المرتبة 16 عالمياً على صعيد مخزون النفط، وفي المرتبة 9 على صعيد الغاز الطبيعي؛ وفي المقابل، ثمة معدّل بطالة يتجاوز 12% ويبلغ نسبة أعلى بكثير في أوساط الشباب، ومستوى الأجور يضع الجزائر في المرتبة 13 على الصعيد العربي… ولهذا فإنّ مظاهرات الجمعة الماضية، أي تلك التي تسبق موعد الانتخابات مباشرة، أكدت مجدداً رفض هذا “السيرك” الذي تعتزم الدولة العميقة تنظيمه؛ وأنّ الشارع الشعبي تعلّم، ويواصل تعلّم، دروس الانتفاضات العربية، خاصة في مصر حيث سقط الحاكم ولكنّ النظام أعاد إنتاج ذاته سريعاً، وعلى نحو لا يقلّ ضراوة.

ولم يكن بغير دلالة بليغة، رمزية وفعلية، أنّ أكياس النفايات عُلّقت على صور المرشحين!

وسوم: العدد 854