بائع البرتقال في حواري حلب : راحة يا يافاوي .. شراب يا صيداوي

وشيء من السياسة المحببة

وهذا كلام في صميم السياسة فلا تشح بوجهك عنه ..

وفي نشأتنا في مطلع الشطر الثاني من القرن العشرين ، كان الباعة المتجولون يذرعون حواري المدن والبلدات جيئة وذهابا . وكان كل واحد منهم يحمل بضاعته على حماره ويجوب الحارات ينادي على ما قسم الله أن يبيع ذلك اليوم .

وكان للباعة المتجولين ثقافة خاصة في الترويج لبضائعهم . ثقافة تستعين بمصادر البضاعة حسب الجودة ، كما تعتمد ازدواج المترادفات والكلمات المموسقة التي لا تنبو عن أذن السامع ، ثم يتفنن كل واحد منهم بما حباه الله من صوت في استمالة الناس إلى الشراء منه .

بائع المقبلات العشبية كان ينادي هكذا : بصال أخضر .. كبوس السلطة .. رشاد .. فجلات شهوة .. وكأنه أهزوجة ترتاح الأذن إلى موسيقاها . وكنا في الصف السابع والثامن نحشرها بكلماتها ولحنها في الصولفيج الغنائي ونحن نرتله في درس الموسيقا .كنوع من عبث الصبيان المحبب .

كان البائع الحلبي ينادي أيام التفاح القصيري ، وهو تفاح صغير الحجم له نكهة خاصة تعود الحلبيون أن يأكلوه مطبوخا مرة باللحم ومرة بالسكر . ومطبوخه يسمى التفاحية . التفاحية باللحم والتفاحية الحلوة .. كان البائع المتجول ينادي عليه : " وكل الفواكه من حلب إلا هلقصيري جلب " . وكلمة جلب تعني مستورد . ومن معانيها  في غير هذا السياق الشيء الردئ في الأصول والمنابت ، حتى يقول العامة : زوان البلد ولاحنطة جلب .

أعود إلى بائع البرتقال وكنا ونحن صغار ويافعين نسمع المنادي ينادي : راحة يا يافاوي راحة .. شراب يا صيداوي ..

فالبرتقال الذي يباع في حلب هو برتقال مجلوب من بيارات يافا الحبية المعروفة على مستوى العالم  ببرتقالها المشهور بنكهته المميزة . أو البرتقال المجلوب من صيدا المشهور بعصيره المتميز والذي كان أهل حلب يفضلونه لصناعة " الشراب " الذي يدخرونه لأيام الصيف الحارة . حيث يكون بعض مرطباتهم وبعض ضيافتهم . وما أكثر ما تغدى الحلبي في حر الهاجرة مع  شراب البرتقال مع الثلج والجبن والخبز المفتوت ؛ لا لحم ولا دهن ولا زيت  ..

أذكر هذا لأذكر بيوم كانت حلب ويافا وصيدا أخوات ، وما حلب ويافا وصيدا إلا رمز لبقية بنات العشيرة ..

يقول لي بعضهم ما شأنك بيافا؟ ..وما شأنك بصيدا ؟! يلومونني على الحب وما لي إلا أن أقول :

هم أرضعوني لبان الحب في صغري ... وعندما تعلقت روحي بهم فطموا

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 856