علوم الدين ليست كعلوم الطب والصيدلة ولا الفيزياء ولا الهندسة

إنما هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم

وتفاوضنا في شبابنا ، في حضرة أحد شيوخنا ، بصفة المجتهد المطلق ، وحاجة أمة الإسلام في هذا العصر إليه ، كمّل بعضنا بعضا مرة في استيفاء الشروط ، ورد بعضنا على بعض أخرى ، وظللنا نعدد أبوابا من العلوم والفنون يحتاجها العالم المجتهد ، الذي يحتاجه المسلمون في هذا العصر برأينا، وما يزالون ..

تركنا الشيخ نسترسل ونطيل ، ثم قطع علينا حوارنا أو جدلنا فقال : ولعلكم نسيتم أهم ما يجب أن تذكروا في صفات هذا المجتهد الذي تنتظرون ..

وترك لنا مرة أخرى التذكر والمراجعة وتعداد العلوم والفنون القديم منها والحديث، التي أضافها بعضنا كنوع من استكمال الإحاطة ولكن الشيخ ظل مصرا على أننا ما زلنا نغفل من صفات هذا المجتهد ما يعتبره الأصل المقدم على كل العلوم والفنون مما ذكرنا واستقصينا ، فلما ألقينا منديل العجز بين يديه تبسم لنا بسمة المحب وقال : وأول ما يلزم المجتهد في دين الله : تقوى الله ..

وقال إن تقوى الله هي الواصف الجامع لكل قيم الدين والخير الإيجابية والنابذة لكل ما يقابلها من معاني النقص السلبية . في معنى التقوى نقول : ويجب أن يكون .. ولا يجوز أن يكون ، فليحوز إنسان وصف المتقي يجب أن تتوافر فيه صفات ويجب أن يتنزه عن أخرى في وقت واحد .

ثم أفاض رحمه الله تعالى في الشرح والتفصيل والتنبيه والتحذير وأن دين الله أعلى وأسمى من أن يكون ميدانا لعبث العابثين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الغالين . وأن نصوص الشريعة المقدسة فوق أن تكون لعبة بزل يشكل من نصوصها من شاء من الصور ما يشاء .

ذكرنا الشيخ رحمه الله تعالى يومها بحديث " أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم الناس " وبحديث " ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب "

وكان مما قال علم الشريعة ليس كعلم الطب والصيدلة تتداوى عند الطبيب الذي تريد ، وتصرف الدواء من الصيدلية التي تشاء .

 ذكرني ما نعيشه منذ أيام بجلسة علم مضى عليها قرابة نصف قرن . ولعل أحدنا حين يكون الأمر واضحا في عقله وقلبه يظنه كذلك في عقول وقلوب كل الناس ، حتى إذا اصطدم بغير ذلك أفاق .

إن للعب على النص الشرعي أو بالنص الشرعي لعبة قديمة خاض غمارها الزنادقة في كل زمان . وهل قامت دعوات أهل الأهواء والبدع إلا على حقيقة ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ).

وحكوا أنه ألف فلان للخليفة العباسي المستعين كتابا ما ترك فيه " حراما إلا أحله .." وقرأ الخليفة الكتاب فهاله ما فيه . وعرضه على أحد علمائه الثقات . واطلع العالم الثبت على الكتاب ، ثم رده على الخليفة وقال له : يا أمير المؤمنين نشدتك الله إلا ما غسلته " بمعنى محوته " .. فسأله الخليفة : أكَذَبَ فيه فنحاسبه ؟! فقال الرجل الذي يخاف الله : يا أمير المؤمنين إن هذا الرجل جمع سقطات العلماء وأخطاءهم ثم جعل منها دينا فما ترك من الدين شيئا .

القول في الإسلام والقول في الحديث والقول في العقيدة والقول في الشريعة والقول في الحلال والحرام كل ذلك دين . وإنما يلتمس العطر عند العطار والجوهر عند الجواهري .

وقال رجل لخلف الأحمر إذا رأيت بيت الشعر فأعجبني لا أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك . فأجابه لو وجدت الدينار براقا فأعجبك ، ثم ذهبت إلى الصراف فقال لك : إنه بهرج زائف هل ينفعك أن بريقه أعجبك..؟!!!

يقول أحدهم لشباب الإسلام : اقرؤوا وزنوا بعقولكم واقبلوا أو ردوا حسب معاييركم !!!

وهذا هو فعل من دلّى أبوينا بغرور ( فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ) وهذا هو الغرور الذي يستثمر فيه أعداء الإنسان هذه الأيام . يقولون لإنسان العصر أنت حر ، أنت قادر ، أنت عالم .. لا تطع والديك .. ولا تسمع قول ناصح فأنت ..أنت ..كلمة عريقة في الكفر والضلال .

وهذا أحدنا قد بلغ السبعين ويمسك الباب من أبواب العلم يجد نفسه يتهجاه فلا يحصل منه إلا القليل ويتمنى أن يجد فيه على العلم مساعدا ومعينا !!

وبعض الناس ما زال باسم العلم يبغي ويجعل معياره شهادة المعهد أو الجامعة . وشهادة الجامعة إن وجدت بغير حق لا تنفع ، وإن غابت مع الجد والتشمير لا تضر . وقد قرأ أحد من تخرج من كليتنا ( لم يترك "القطاطيبُ " المنام )، وأعيته المعاجم في البحث عن القطاطيب حتى اتهمها بالقصور والتقصير . وصحّف من جلس على العرندس الكيّس الفطن بكيس القطن وأبدع في شرح التشبيه !!

وإنما يُرد القول في تفصيله من حيث هو لا من حيث قائله . والعلم بالعلم، والبيان بالبيان ، والحجة بالحجة ..ولكل علم مبادئ وقواعد وأصول ومناهج ينضبط بها القول ، وتقوم على أساسها الحجة على منكرها.

وإنما يرد على أهل الشبهات من هم في طبقتهم من أهل البينات، والحجج الدامغات ، والبراهين الساطعات ..ولا يترك ذلك لعامة الناس ، ولا يزجوا فيه من حيث لا يعلمون . ومن زجهم فيه فإنما أراد فتنتهم ,..وإنما الحق في هؤلاء أن يحذروا من أهل الضلالة وأصحاب البدع والفتنة على الجملة . فيقال للواحد منهم : ولا تصاحب أخا الجهل ..وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى ..كريما حين وازاه

وكان من المواطن الستة التي أباح فيها العلماء الغيبة قولهم " وإذا رأيت عاميا يتردد على مبتدع " فالواجب حينها أن يبين حال هذا الضال المبتدع ، ويحذر الناس من أمره بقدر ما ينسد به باب الفتنة وينحسم الشر.

وإن هذا الباب من التحذير من أهل البدع أعم من الحديث عن الجرح والتعديل . فالجرح والتعديل علم خاصة تدور تفاصيله بين الخاصة . والتحذير من الأدعياء الكذبة من أبناء الأفاعي الذين يأكلون الدنيا بالدين هو أمر يجب أن يباشر بقدر الحاجة إليه وبالقدر الذي تنحسم الفتنة فيه . وهذا باب تندرج تحت رايته في هذا العصر أحاديث الدين والسياسة والاجتماع ..

هل من الدين في شيء أن تصبح ثقافة أبنائنا وبناتنا عمن يسمون " نجوم المجتمع " و" نجوم النوادي " أكثر من ثقافتهم عن كل ما هو الحق ؟!!

وردود أهل العلم على أصحاب البدع يجب أن تكون بروية وعلم وتقوى.

وأعود إلى المأثور المحفوظ " إنما هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ".

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 856