يا ابني

الشيخ: علي الطنطاوي

إلى السيد «م.أ» من «الإسماعيلية» بمصر الذي كتب إليّ واستحلفني أن اقرأ كتابه، وأن أردّ عليه لماذا «تكتب إليّ على تردد واستحياء؟ أتحسب أنك أنت وحدك، الذي يحس هذه الوقدة في أعصابه من ضرم الشهوة، وأنك أنت وحدك الذي أختَص بها دون الناس أجمعين؟

لا، يا ابني «هوّن عليك، فليس الذي تشكو داءك وحدك، ولكنه (داء الشباب)، وقد كتبت فيه قديماً وحديثاً، ولولا أني لا أحب الحديث المعاد، ولا أقتني (مع الأسف)، إلا الأقل من مقالاتي القديمة لنقلها إليك، أو لأحلتك عليها. ولئن أرّقك هذا الذي تجد وأنت في السابعة عشرة، لطالما أرّق كثيرين غيرك، صغاراً وكباراً، ولطالما نفى عن عيونهم لذيذ الكرى، ولطالما صرف عن دروسه التلميذ، وعن عمله العامل، وعن تجارته التاجر، وما الحب الذي امتن في وصفه الشعراء، وفي تحليله الأدباء، إلا ما تجده أنت سواء بسواء، ولكنك أخذته مجرداً مكشوفاً، فعرفه الناس فلم يخدعوا عنه، وأخذوه فلفوه بمثل ورق (الشكلاطة) ليخدعوا عن حقيقته الناس، وشربت بفيك من الينبوع بالكأس المذهبة الحواشي، والماء في كأس أبي نواس التي أقام في فرارتها كسرى، كالماء في الساقية، والشهوة في رسالتك كالشهوة في غزل الشعراء، وشعر الغزليين، ولوحات المصورين وألحان المغنين، ولكن الضمير هاهنا بارز ظاهر. والضمير هنالك مستتر خفي، وشر الداء ما خفي واستتر!

إنه ما أشرف على مثل سنك أحد إلا توقد في نفسه شيء كان خامداً، فأحس حرة في أعصابه، وتبدلت في عينه الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، فلم يعد يرى المرأة على حقيقتها إنساناً من لحم ودم، له ما للإنسان من المزايا وما فيه من العيوب، ولكن أملاً فيه تجتمع الآمال كلها، وأمنية فيها تلتقي الأماني، ويلبسها من خيال غريزته ثوباً يخفي عيوبها ويستر نقائصها، ويبرزها تمثالاً للخير المحض والجمال الكامل، ويعمل منها ما يعمل الوثني من الحجر: ينحته بيده صنماً، ثم يعبده بطوعه رباً! أن الصنم للوثني رب من حجر، والمرأة للعاشق وثن من خيال!

كل هذا طبيعي معقول، ولكن الذي لا يكون أبداً طبيعياً ولا معقولاً، أن يحس الفتى بهذا كله في سن خمس عشرة، أو ست عشرة سنة، ثم يضطره أسلوب التعليم إلى البقاء في المدرسة إلى سن العشرين أو خمس وعشرين.

فماذا يصنع في هذه السنوات، وهي أشد سني العمر اضطرام شهوة، واضطراب جسد، وهياجاً وغلياناً؟ ماذا يصنع؟

هذه هي المشكلة!

أما سنة الله، وطبيعة النفس، فتقول له: تزوج.

وأما أوضاع المجتمع وأساليب التعليم فتقول له: اختر إحدى ثلاث كلها شر، ولكن إياك أن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير، وهي الزواج ...

إما أن تنطوي على نفسك، على أوهام غريزتك وأحلام شهوتك، تدأب على التفكير فيها، وتغذيها بالروايات الداعرة، و(الأفلام) الفاجرة، والصور العاهرة، حتى تملأ وحدها نفسك، وتستأثر بسمعك وبصرك، فلا ترى حيثما نظرت إلا صور الغيد الفواتن، تراهن في كتاب الجغرافيا إن فتحته، وفي طلعة البدر إن لمحته، وفي حمرة الشفق وفي سواد الليل، وفي أحلام اليقظة وفي رؤى المنام.

ثم لا تنتهي بك الحال إلا إلى الهوس أو الجنون أو انهيار الأعصاب.

وإما أن تعمد إلى ما يسمونه اليوم (الاستمناء) وقد كان يسمى قديماً غير هذا، وقد تكلم في حكمه الفقهاء، وقال فيه الشعراء، وكان له في كتب الآداب باب، لا أحب أن أدل عليه أو أرشد إليه، وهو وإن كان أقل الثلاثة شراً، وأخفها ضراً)) لكنه إن جاوز حده ركب النفس بالهم، والجسم بالسقم، وجعل صاحبه الشاب كهلاً محطماً، كئيباً، مستوحشاً، يفر من الناس، ويجبن عن لقائهم، ويخاف الحياة ويهرب من تبعاتها، وهذا حكم على المرء بالموت وهو في رباط الحياة.

وإما أن تغرف من حمأة اللذة المحرمة، وتسلك سبل الضلال، وتؤم بيوت الفحش، تبذل صحتك وشبابك ومستقبلك ودينك في لذة عارضة، ومتعة عابرة، فإذا أنت قد خسرت الشهادة التي تسعى إليها و(الوظيفة) التي تحرص عليها، والعلم الذي أملت فيه، ولم يبق لك من قوتك وفتوتك ما تضرب به في لج العمل الحر..

ولا تحسب بعد أنك تشبع، كلا إنك كلما واصلت واحدة زادك الوصال نهماً كشارب الماء الملح لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً، ولو أنك عرفت آلافاً منهن ثم رأيت أخرى متمنعة عليك، معرضة عنك، لرغبت فيها وحدها، وأحسست من الألم لفقدها مثل الذي يحسه من لم يعرف امرأة قط، وهاك (فاروق) مثلاً! وهبك وجدت منهن كل ما طلبت، ووسعك السلطان والمال، فهل يسعك الجسد؟ وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة؟ دون ذلك وتنهار أقوى الأجساد، وكم من رجال كانوا أعاجيب في القوة وكانوا أبطالاً في الربع والصرع والرمي والسبق، ما هي إلا أن استجابوا إلى شهواتهم، وانقادوا إلى غرائزهم، حتى أمسوا

حطاماً..

إن من عجائب حكمة الله، أنه جعل مع الفضيلة ثوابها؛ الصحة والنشاط، وجعل مع الرذيلة عقابها، الانحطاط والمرض، ولرب رجل ما جاوز الثلاثين يبدو مما جار على نفسه كابن ستين، وابن ستين يبدو من العفاف كشاب في الثلاثين، ومن أمثال الافرنج التي سمعناها وهي حق وصدق: من حفظ شبابه حفظ له الشباب شيخوخته.

ولو ترك الرجل لغريزته، ولم تكن هذه المغريات من الصور والروايات والأفلام، وتكشف النساء وشيوع الفاحشة، لما هاجت به الغريزة إلا مرة أو مرتين في الشهر والشهرين، لأن من القواعد الثابتة في العلم أنه كلما ارتقى الحيوان (والإنسان هنا حيوان) في سلم التطور، قل عنده السفاد وطال الحمل، فالديك والدجاجة يتسافدان كل يوم لأن مدة الحمل (بالبيضة) يوم واحد، أما القط (وهو من ذوات الأثداء) فيسافد القطة مرة أو مرتين في السنة لأن حملها مرة في السنة أو مرتان؟ وأظن أن الإنسان أرقى من القط فلماذا يكون للقط موسم واحد، هو عندنا شباط (فبراير) وتكون شهور السنة كلها شباط عند بعض الناس؟ لهذه المغريات!

فالبلاء كلمة من هذه المغريات، من دعاة الشر ورسل إبليس الذين يزينون للمرأة التكشف والتبرج والاختلاط باسم المدنية والتقدمية والنهضة النسائية، وما يُعنون بالمرأة إلا كعناية الجزار بالنعجة: يطعمها ويدفع عنها ويحميها ويسمنها، ولكن للذبح... والذين دأبوا على نشر صور العاريات في مجلاتهم من الممثلات الأجنبيات أولاً، ثم من بنات المدارس بدعوى الرياضة، ونساء السواحل بدعوى الاصطياف، وعملوا على ذلك الدهر الطويل، على خطة مرسومة، وسبل معينة، صابرين محتسبين لوجه إبليس، ولولاهم ولولا مجلاتهم ولولا تلك الروايات من قبل وهاتيك الأفلام من بعد، ولولا الذين تخرجوا بمدرسة الضلال ثم ولوا هم (مع الأسف) أمر أبنائنا وبناتنا في مدارسنا، ما رأينا ولا توهمنا أننا سنرى يوماً، بنات المسلمين يكشفن عن سيقانهن وأفخاذهن، للعبة بكرة السلة، أو لعرض في حفلة الرياضة، أو لاصطياف على الساحل، ولو بعث قاسم أمين ومن شايعه على دعوته، من رؤوس الفتنة، ورأوا إلامّ انتهت إليه المرأة بدعوتهم (التي أرادوا بها غير هذا) لأخذتهم الصعقة!

وأؤكد لك أن (ذلك الأمر) في حقيقته أتفه وأهون ما تظن، وأن الحديث عنه أعظم منه، ووصفه أكبر أثراً في النفس من فعله، ولولا هذا الفن: فن الشعر والقصة والتصوير والغناء، لولا هذا الذي يجمّل المرأة، ويحسّن الحب، لما رأيت لتلك (الصلة الجسمية) في نفسك ولا نفس غيرك من الشباب عشر معشار ما تحسبه اليوم، إنها عملية كالعمليات الطبية كلها، ولكنها قذرة حقاً، لذلك وضع الله لها هذا (البنج) الذي يعمي ويصم، فلا يرى المرء القبح فيها، وهذا البنج هو الشهوة، ولو فكر المرء فيها هادئاً. لو فكر فيها بعقل رأسه لا بعقل أعصابه لما رآها كما أقول.

وهذه المغريات كلها لا تعمل عملها، ولا تؤتي المرَّ من ثمرها، ما لم يوجد رفيق السوء، الذي يدلك على طريق الفاحشة، ويوصلك إلى بابها، إنها كالسيارة الكاملة العدة، وهذا الرفيق كالزناد (المارش)، وليس تمشي السيارة مهما كانت قوتها إلا بالزناد.

وكأني أسمعك تقول، هذا الداء، فما الدواء؟

الدواء أن نعود إلى سنة الله، وطبائع الأشياء التي طبعها عليها، إن الله ما حرم شيئاً إلا أحل شيئاً مكانه، حرم المراباة وأحل التجارة، وحرم الزنا وأحل الزواج، فالدواء هو الزواج.

الزواج وحده طريق الإصلاح، وأنا أقترح على الجمعيات الإسلامية والنوادي الإصلاحية أن تؤسس قسماً جديداً يرغب الشبان في الزواج، ويدعوهم إليه، ويسهله عليهم، ويدل الخاطب على الفتاة التي تصلح له ويصلح لها، ويقرضه المال إن كان معسراً، وهذا الاقتراح تفصيلات وذيول، من استجاب له وأراد العمل به، شرحت له تفصيلاته.

فإذا لم يتيسر لك الزواج، ولم ترد الفاحشة، فليس إلا التسامي، وأنا لا أريد أن أعقد هذا الفصل الذي كتبته ليكن مفهوماً واضحاً، بمصطلحات علم النفس، لذلك أعمد إلى مثال أمثله لك، أترى إلى إبريق الشاي الذي يغلي على النار. إنك إن سددته فأحكمت سدّه، وأوقدت عليه فجَّره البخار المحبوس، وإن خرقته سال ماؤه فاحترق الإبريق، وإن وصلت به ذراعاً كبيراً كذراع القاطرة، أدار لك المصنع وسير القطار، وعمل الأعاجيب.

فالأولى حالة من يحبس نفسه عن شهوته، يفكر فيها ويعكف عليها، والثانية حال من يتبع سبل الضلال، ويؤم مواطن اللذة المحرمة، والثالثة حالة المتسامي.

فالتسامي هو أن تنفس عن نفسك بجهد روحي أو عقلي أو قلبي أو جسدي، يستنفد هذه القدرة المدخرة، ويخرج هذه الطاقة المحبوسة، بالالتجاء إلى الله، والاستغراق في العبادة، أو بالانقطاع إلى العمل والانغماس في البحث، أو بالتفرغ للفن والتعبير عن هذه الصور التي تصورها غريزتك بالألفاظ شعراً أو بالألوان لوحة، أو بالألحان نغماً، أو بالجهد الجسدي والإقبال على الرياضة، والعناية بالتربية البدنية أو بالبطولة الرياضية، والإنسان يا ابني محب لنفسه لا يقدم أحداً عليها، فإذا وقف أمام المرآة ورأى استدارة كتفيه ومتانة صدره، وقوة يديه، كان هذا الجسم الرياضي المتناسق القوي، أحب إليه من كل جسد أنثى، ولم يرض أن يضحي به، ويذهب قوته ويعصر عضلاته، ويعود بها جلداً على عظم، من أجل سواد عيني فتاة، ولا من أجل زرقتهما ...

هذا هو الدواء: الزواج، وهو العلاج الكامل، فان لم يمكن فالتسامي وهو مسكن مؤقت، ولكنه مسكن قوي، ينفع ولا يؤذي.

أما ما يقوله المغفلون، أو المفسدون، من أن دواء هذا الفساد الاجتماعي هو تعويد الجنسين على الاختلاط حتى تنكسر بالاعتياد حدة الشهوة، وفتح (المحلات العمومية) حتى يُقضى بها على البغاء السري، فكلام فارغ، وقد جربت الاختلاط أمم الكفر كلها فيها زادها إلا شهوة وفساداً، أما المحلات العمومية فإننا إذا أقررناها وجب أن نوسعها حتى تكفي الشبان جميعاً، وإذن فينبغي أن يكون في القاهرة أكثر من عشرة آلاف بغي، لأن في القاهرة (من أصل المليونين ونصف المليون من سكانها) مئتا ألف شاب على الأقل... وإذا نحن جوَّزنا للشباب ارتيادها فاستغنوا بذلك عن الزواج، فماذا نصنع بالبنات؟ هل نفتح لهن محلات عمومية فيها (بغايا) من الذكور؟!

كلام فارغ يا ابني والله، وما تقوله عقولهم ولكن غرائزهم، وما يريدون إصلاح الأخلاق ولا تقدم المرأة، ولا نشر المدنية، ولا الروح الرياضية، ولا الحياة الجامعية، إنما هي ألفاظ يتلمظون بها، ويتبدعون كل يوم جديداً فيها يهولون به على الناس، ويروجون به لدعوتهم، وما يريدون إلا أن نخرج لهم بناتنا وأخواتنا، ليستمتعوا برؤية الظاهر والمخفي من أجسادهن، وينالوا الحلال والحرام من المتعة بهن، ويصاحبوهن منفردات في الأسفار، ويراقصوهن متجملات في الحفلات، وينخدع مع ذلك بعض الآباء، فيضحوا بأعراض بناتهن ليقال إنهم من المتمدنين...

وبعد يا ابني فلا تتردد في الكتابة إليّ إن لم يرضك هذا الجواب، ولا تستحي مما تجد من حر هذه الشهوة التي ركبها الله في النفس إنها علامة القوة والأيدْ والشباب، وعليك بالزواج، ولو أنك طالب لا تزال، فإن لم تستطعه فاعتصم بخوف الله، والانغماس في العبادة والدرس، والاشتغال، بالفن وعليك بالرياضة فإنها نعم العلاج.

والحديث طويل، وهذا ما اتسع له مجال المقال، ومن استزادني زدته رسالة إن شاء، أو مقالة إن شاء الناشرون.

وسوم: العدد 859