تُراثُ الأمّة : بين الترَقّي في الهمّة ، والتوَقّي في المُهمّة !

الهجوم على التراث ، قديم متجدّد .. والتصدّي للهجوم ، قديم متجدّد !

منذ بدايات عهد الاستعمارالحديث ، في بلادنا الإسلامية ، بدأت الأصوات تتعالى ، حول التراث، وحول ضرورة تنقيته من الشوائب ! ثمّ تطوّر الأمر، إلى صيحات تدّعي الإخلاص للأمّة ، تنادي ، بضرورة التخلّص من التراث ، كله ، غثّه وسمينه ، بحجج شتّى ، أهمّها : وجوب الالتحاق ، بركب الغرب المتمدّن ، ونسف العائق ، الذي يحول بين الأمّة ، وبين التمدّن ، الذي جلبه الغرب الاستعماري الصليبي ، إلى بلادنا !

وقد تصدّى عدد غير قليل ، من العلماء والمفكّرين والأدباء ، لهذه الصيحات المنكرة ، وأخمدوا نارها ، لكن جذوتها ماتزال حيّة ، لم تنطفئ !

ونقف عند النصف الأوّل ، من القرن العشرين ، لنرى مفكّرين مخلصين عمالقة ، في مقدّمتهم الأديب الكبير الفذّ ، مصطفى صادق الرافعي ، يتصدّون لهذا الهجوم الشرس ، ضدّ تراث الأمّة، ويُفحمون الخصوم ، ويفنّدون دعاواهم ، بحجج قويّة ، وبراهين ساطعة ، ونفوس حرّة متوثّبة صلبة !

ومن الصيحات المنكَرة ، التي راجت ، في ذلك الحين ، لدى أذناب الغرب ، من المحسوبين على أمّتنا ، صيحة الكتابة بالعامّية ، وصيحة الكتابة بالأحرف اللاتينية ! وهي صيحات واضحة ، سهل على المخلصين الأفذاذ ، الردّ عليها وتفنيدها ! فراجَ ، لاحقاً ، شعار تنقية التراث من الشوائب ، تحت مصطلحات شتّى ، منها ، غربَلة التراث ..!

ونقف ، قليلاً ، عند الرافعي ، لعِظم المهمّة التي حملها ، في الدفاع ، عن الأمّة وتراثها !

ممّا بسطه الرافعي ، في كتابه : المعركة تحت راية القرآن - وهو الجزء الثاني ، من كتابه القيّم، عن تاريخ آداب العرب- أن بعض المؤسّسات العلمية الصليبية ، أغرته إغراءات عظيمة ، ووعدته وعوداً برّاقة ، بالمجد والشهرة ، مقابل تخليه ، عن( الجُملة القرآنية) ! وكان رفضه حاسماً لهذا العرض ! ثمّ كتب كتابه : المعركة تحت راية القرآن .. مبيّنا في مقدّمته ، هذا العرض المغري، ورفضه له !

إلا أن أصداء الصيحة القديمة ، حول تنقية التراث ، ماتزال قائمة ، حتى اليوم ، تتردّد ، بين الفينة والفينة ، فيُخدَع بها مَن يُخدع ، ويروّج لها مَن يروّج ، ويُهملها مَن يُهمل !

وعند الوقوف ، أمام هذه الصيحة وأصدائها ، نرى جهوداً كافية ، بذاتها ، للردّ ، على الصيحة وأصحابها !

على مستوى البحوث والدراسات الأكاديمية ، وغيرها، كُتبت بحوث ودراسات ،علمية أكاديمية، بالآلاف ، من رسائل ماجستبر، وأطروحات دكتوراة .. في مؤسّسات جامعية كثيرة ، جدّاً ، حول ألوف الكتب القديمة ، في سائر العلوم التراثية ، من : سنّة نبوية ، وسيرة نبوية ، وتفسير قرأن ، وفقه ، وأصول فقه ..وتاريخ ، وأدب - من شعر ونثر- وتاريخ أدب ، وعلوم لغة ، ومعجَمات جامعة للغة ! ولم يُترك شخص قديم بارز، إلاّ سُلط ضوء كاشف ، عليه ، وعلى مؤلفاته : دراسة وتحقيقاً وتوثيقاً ، ومع الدراسة والتحقيق والتوثيق ، تكون الغربلة والنخل ، وتمييز الصحيح من الزائف ، والثابت من المَنحول! وذلك ، كله، يتمّ بوعي، وأخلاص علمي ؛ لأن الباحث يحرص، على صحّة مايكتبه ، أو يحقّقه ، أو يتحقّق منه ؛ توقّياً لخطأ ، تحاسبه عليه اللجان ، التي تناقشه، في بحثه ، فتمنحه الشهادة ، أو تحجبها عنه ، أو تطلب منه ، إعادة النظر، فيما كتب ! فهو يستنفر همّته ، ليُنجز، بإتقان ، مهمّته ، ويتوقّى من أيّ خطأ ، أوتقصير؛ ليبرئ ذمّته منهما ، أمام فاحصيه .. حتّى لولم يكن حريصاً ، على إبراء ذمّته أمام ربّه ، في هذا الأمر، أوغيره !

ومايزال التراث ، بشتّى علومه ومعارفه ، منهلاً عظيماً ، للباحثين والدارسين ، في المؤسّسات الأكاديمية ، وغيرها ، يغربَل منه ، ويُنخَل ، ويُحقّق .. عشرات الكتب والمصنّفات ، كلّ شهر، أو كلّ أسبوع !  

فهل يطلب المطالبون : بتنقية التراث ، أوتنقيحه ، أو غربلته ، أو نخله .. هل يطلبون ، من جهة محدّدة ، أن تقوم ، وحدها ، بهذه الجهود ، كلها ؛ سواء أكانت : لجنة ، أم هيئة ، أم جامعة ، أم مَجمعا ، أم دولة ..!؟ أم يتصايحون ، لنسف التراث ، من أساسه ، وبسائر علومه ؛ لنسف الأمّة من جذورها ، تحت شعار تنقية التراث !؟ وقد ظهرت نيّاتهم المخبوءة ، في دوَل ، عدّة ، حين دعوا، إلى نسف الأحكام الإسلامية ، في قضايا الأسرة ، من: زواج وطلاق وميراث ، وغيرها،  وجعْل هذه الأحكام ، بَشَرية خالصة ، نابعة ، من عقل فلان الصهيوني، أومزاج فلان الصليبي!

واهاً .. وتَعساً .. وأفّ

يَصيح، وقد أثخنتَه الجراحُ : أغِثني، أغثْ صِبيَتي، ياأخي

فهذا يَصُدّ، وهذا يُصَمّ ، وذلك يَجري ، إلى المَطبَخِ

وهذا يَمُرّ، بغيرِ اكتراثٍ ، وذاك يُزَمجرُ: لا تَصرُخِ

فواهاً لنَذلٍ عَديم المُروءة ،عن صُورةِ الفأرِ مُستَنسَخ

وواهاً لوَغدٍ كَثيرِ الشُموخ، عن الذلّ والهُون لمْ يَشمَخ

وأفٍّ لِبالونِ كِبْرٍ، أُعِدَّ لنَفخٍ ، فطارَولمُ يُنفَخ

وأفٍّ لبَغلٍ شديدِ الجِماحِ ،عن الخير واهيْ القُوى، مُرتَخ

أرى العيشَ صارَ كسمٍّ زُعافٍ ، فلُمْ ، أيّها الدهرُ، أو وَبِّخ

وإلاّ، فأدرِكْ بَقايا نُفوسٍ، بدوّامةِ المَسْخِ ، لمْ تُمسَخ

وأجهِزْ على وَسِخٍ ، مُستَباحِ الكَرامَةِ ، يَعتَزّ بالأوسَخ

ولا تَعفُ عن راسخٍ في الضلالِ، ومَن ضَلَّ،عَمْداً، ولمْ يَرسَخ

وكُنْ غَيمَةً مِن عَذاب أليمٍ، وصُبَّ المَصائبَ ، أو بَخْبِخ

وسوم: العدد 860