عندما يعيد التاريخ نفسه

مهزلة نتنياهو وترامب التي أعلنا عنها يوم 28-1-2020 ما كانت لتحصل لو كان موقف النّظام العربيّ الرّسميّ مختلفا، ومع ذلك فإنّ ما جرى يؤكّد من جديد أنّ قوى التّوحّش العالميّ لا تتعلم ولا تتّعظ من التّاريخ، تماما مثلما هم وكلاؤها في المنطقة العربيّة. فنتنياهو وترامب المتّهمان بالفساد وسوء استعمال السّلطة يكتبان حملتهما الإنتخابيّة بالدّم الفلسطينيّ بشكل خاصّ والعربيّ بشكل عامّ، واستغلّوا الأوضاع العربيّة المأساويّة بطريقة جيّدة. وهذا الوضع يعيدنا إلى القرن الحادي عشر الميلاديّ، حيث حروب الفرنجة على المشرق العربيّ -كما سمّاها المؤرّخون العرب- في حين سمّاها المؤرّخون الأوروبّيّون "الحروب الصّليبيّة". فملوك أوروبّا الطامعون بكنوز الشّرق، رفعوا الصّليب ليغرّروا برعاع شعوبهم بشعارات دينيّة "تحرير القبر المقدّس". واستغلّوا فرصة ملوك الطّوائف في المشرق العربيّ، حيث أقيمت "مملكة عربيّة إسلاميّة" في كلّ مدينة تقريبا، فكانت مملطة أنطاكيا، ومملكة حلب، ومملكة دمشق...إلخ. وعاشت هذه الممالك حروبا طاحنة مع بعضها البعض، وكلّ "ملك" فيها يزعم أنّه يدافع فيها عن العروبة والإسلام! وكلّما اقتربت جيوش الفرنجة من "مملكة" كان ملكها يتحالف معهم لمحاربة المملكة المجاورة، إلى أن احتلوا الممالك كافّة، وأمعنوا قتلا في رعاياها، إلى أن احتلّوا القدس في العام 1099م، وقتلوا جميع سكّانها الذين احتموا بالمسجد الأقصى وكان عددهم سبعين ألفا، بمن الأطفال والنساء والشيوخ. وأقام الفرنجة قلاعهم الحصينة، وبسطوا نفوذهم على المنطقة، حتّى أنّ ملك مدينة الكرك في جنوب الأردنّ عمل على نقل رفات النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم إلى الكرك ليجبر المسلمين على الحجيج إليه ودفع الجزية.

وجاء صلاح الدّين الأيّوبيّ، وجنّد العرب والمسلمين، واجتاح المنطقة إلى أن حرّر القدس في العام 1187م.

وفي عصرنا هذا فإنّ الفرنجة الذين نصّبوا ملوك طوائف العصر في الخليج الذي كان عربيّا، فجيّروا البلاد والعباد لخدمة ملوك فرنجة المرحلة المتمثّلين في ترامب ونتنياهو، وإذا كانت أمريكا تسيطر على منابع البترول في دول الطّوائف، فإن ملوك هذه البلدان وفي محاولة منهم للمحافظة على عروشهم، ارتضوا أن يكونوا جنودا مجنّدة لخدمة أسيادهم الفرنجة، فتخلوا عن الشّجب والإستنكار الذي تسلحوا به، ورفعوا شعار العداء لإيران "الشّيعيّة" ولحماية "الإسلام السّنّي"!، وارتضوا أن يبيعوا فلسطين وأن يدفعوا ثمنها للمشتري! وانهالت المليارات على الخزينة الأمريكيّة. ومن هنا جاءت خطّة نتنياهو التي تبنّاها ترامب وأعلنها كصفقة أمريكيّة بوجود نتنياهو في تجاهل تامّ للنّظام العربيّ الرّسميّ، لأنّه متأكد تماما من موافقة ملوك الطوائف عليه مسبقا، بعد أن سحب منهم سلاح الشّجب والإستنكار، ليتباروا في اليوم التّالي لحثّ الفلسطينيّين على الدّخول في مفاوضات مع إسرائيل لتطبيق صفقة العار.

لكن لا الفرنجة في أمريكا، ولا ذراعهم الإسرائيلي في المنطقة، ولا سدنتهم في بلدان كانت عربيّة يدركون أنّهم يسيرون في طريق نهايتهم، ولن يكون مصيرهم أفضل من فرنجة وملوك طوائف القرنين الحادي عشر والثّاني عشر الميلادي.

وسوم: العدد 862