كورونا جائحة مثل بقية الجوائح عقاب بما كسبت أيدي الناس

(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) صدق الله العظيم.

على ضوء انتشار جائحة كورونا لتعم العالم بلا استثناء، مصحوبة برعب شديد لدى الأنظمة والحكومات والناس والحيرة في مكافحته، وقد اجتاح الموت الآلاف؛ وأصاب الملايين، وخاصة في البلدان المتقدمة والمتطورة، حتى كاد الأمر يخرج عن السيطرة في تلك البلدان، فهذه إيطاليا وهي من أهم بلدان الاتحاد الأوروبي وقد فتك بأهلها هذا الوباء، وسبقتها الصين التي منها انتشر هذا الوباء في العالم، مما دفع الحكومات إلى وضع معظم سكان بلادهم في حالة حظر، والبقاء في منازلهم وعدم التجول أو الحجر في المستشفيات والمصحات، وهذه الحالة أدت إلى تدهور اقتصاد هذه البلدان، وقد رصدت الحكومات المليارات لتقف بوجه هذا البلاء. 

لقد شدتني المآسي التي تعم بلاد العالم اليوم إلى تقليب صفحات تاريخنا الإسلامي الذي نتغنى بصحافه المجيدة التي خدّرتنا عشرات السنين، دون التوقف عند بعض مآسيه لتكون لنا عبرة نتعظ بها ودرساً نستفيد منه، فوجدت فيه، ويا لهول مما وجدت!!

وجدت مآسي لا يمكن لخيال الإنسان تصورها أو محاكاتها، ولم يدر في خلدي أن في تاريخنا من الويلات والمآسي صورة حية لما أنبأنا به الله عز وجل عن يوم القيامة، (يوم لا ينفع مال ولا بنون)، (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه)، يوم لا يتعرّف الولد على أبيه أو أمه أو أخيه، بل فاق ذلك كله!! فكثيراً ما كان الأب يذبح ولده ليأكله حتى لا يموت جوعاً. لقد وجدت صوراً مؤلمة تعافُ النفس البشرية تصورها، والخيال عن الإحاطة بها.

وتجمّع لدي خلال البحث والتنقيب في بطون كتب التاريخ ما يحكي مآسي حلت بأمتنا الإسلامية على مدى قرون من الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، والتي امتدت من أسوار الصين وحتى تخوم باريس، وما أنزل الله بها من كوارث جراء ما أقدمت عليه من ارتكاب المظالم والفواحش، والابتعاد عن شرعة الله، والانغماس في لهو الدنيا ومتاعها، وتركهم لكتابهم وراء أظهرهم. وكأني بلسان الحال استعير الحكمة التي تقول:

(يداك أوكتا وفوك نفخ). وكان الذي كان، طواعين يتساقط منها الناس صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.

وكان الناس بعد كل جائحة يجأرون إلى الله مستغفرين منيبين إليه، ولكن سرعان ما ينسون في القابل من الأيام ما حدث بالأمس، فيأتي عذاب ربك بغتة وهم لا يشعرون.

طاعون عمواس*

نزل بالمسلمين سنة (18هـ/640م) طاعون(1) وهم في أرض الشام سموه (طاعون عمواس). وعندما بلغ خبره (عمر بن الخطاب) كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: (أن سلام عليك، أما بعد فقد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها فعزمت عليك إذا أنت نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تُقبل إلي). فعرف أبو عبيدة ما أراد عمر، فكتب إليه: يا أمير المؤمنين قد عرفت حاجتك إليّ وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه فحللني من عزيمتك. إنه موقف الأمير الصادق الأمين الذي لا يؤثر نفسه على جنده ورجاله فهو ليس بخير منهم.

فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة؟ فقال: لا وكأن قد. ثم كتب إلى أبي عبيدة قائلا: ليرفعن بالمسلمين من تلك الأرض.

فسار أبو عبيدة امتثالاً لأمر الخليفة عمر-بالناس حتى نزل (الجابية)(2) من بلاد الشام، ثم قام بهم خطيباً فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وأن أبا عبيدة سأل الله أن يقسم له منه حظه. ثم طُعن قبل أن يتم كلامه ومات.

واستخلف الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظهم. فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته ومات. فلما مات معاذ استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام خطيباً في الناس فقال: أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتجبلوا منه في الجبال. وخرج الناس إلى الجبال، ورفعه الله عنهم فلم يكره عمر ذلك.

التراجم

* الطبري-ص (2/507-509) وابن كثير-ص (7/90-92) والترمانيني-ص (1/266)، والذهبي (عهد الخلفاء الراشدين) -ص (169) وابن الأثير-ص (2/388-393).

1-الطاعون: مرض يصيب الحيوانات القارضة كالجرذان وتنتقل عدواه بواسطة لدغ البراغيث التي تعيش متطفلة على هذه الحيوانات. وعمواس كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس.

2-الجابية: قرية من أعمال دمشق من ناحية الجولان قرب مرج الصفر في شمالي حوران.

جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((فناء أمتك بالطعن أو الطاعون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فبالطاعون)).

وسوم: العدد 869