بين أنسنة المواجهة مع الفيروس وبين تسييسها، هذا فقهنا للذين لا يفقهون

كورونا عدو الحياة ، عدو الإنسان والإنسانية ، عدو الحضارة والعمران ، وما لم يتعامل معه البشر جميعا على هذا الأساس ؛ لن ينتصروا عليه بحال .. إلا أن يشاء الله .

وبين أنسنة المواجهة مع الفيروس وبين تسييسها وخندقتها وتمييزها ؛ يكمن سر النجاح أو الإخفاق ، وسر الانتصار أو الهزيمة ، لا قدر الله ..ومع قسوة التحدي ، وخطورة المسارات ؛ فإن حال الإنسانية لا يبشر بخير فيما تخوض من غمرات .

وتبدأ استراتيجية المواجهة مع كورونا - في فقهنا الإنساني - من مستوى الشعور ؛ فتصحيح المشاعر الإنسانية تجاه هذا التهديد الرعيب خطوة أولية ، لمصادرة خطل الفرح بانتصار الوباء على قاعدة تصنيف البشر " متجانسين وغير متجانسين " .. ثم تتدرج هذه الاستراتيجيات من المشاعر الفردية والجماعية إلى ترتيبات السلوك الفردي والسلوك الجماعي ، والسياسات المحلية ،والسياسات العالمية ؛ في سلسلة محكمة مترابطة كلها تضع الحفاظ على الحياة الإنسانية في المقصد الأول . كلها تحفظ من التوراة والإنجيل والقرآن أنه ( مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ..) ومن هذا القتل فرد يصر على الانغماس في الناس وقد نُهي ، وصاحب قرار رمى الناس بالإهمال فأرداهم .

استراتيجية عالمية مركزية شاملة مترابطة

مواجهة فيروس كورونا تحتاج - في تصورنا - إلى غرفة عمليات إنسانية عليا تجعل سلامة الإنسان هي المقصد الأول تقدر وتدبر وتقرر .

 وتحتاج إلى آليات تنفيذية عليا تواجه فيروس كورنا على الساحة العالمية بشمولية وبلا حدود كما يواجه هذا الفيروس العالم شموليا ولا بحدود .

احذروا الثقب في السفينة :

إن مواجهة فيروس كورونا تقتضي سد كل المنافذ والثغرات . والأخذ على يد كل من يسعى إلى إحداث الخروق . إن سكان " المسكونة " اليوم في قارب واحد . ووصول فيروس كورونا القاتل إلى أي فرد في هذه السفينة يعني وصوله إلى الجميع . بين ظهراني البشر حمقى كثيرون ، من البشر مع الأسف حمقى كثيرون ، وما يزالون يظنون ، وما يزالوا لا يبالون ..!!

المصير البشري أمام فيروس كورونا على مفترق طرق ؛ بين تعميم الخوف والمرض وتعظيم المأساة والموت أو تعميم الأمن والسلامة والرجاء واختزال المعاناة والانتصار للحياة ..

( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ )

نعم إن فيروس كورونا جند من جنود الله .

جندي يحمل إلى الإنسانية أجمع رسالة أن تعود إلى إنسانيتها . وأن تستشعر ضعفها ، وأن تخرج من دوامات العداوة والبغضاء .

هو رسالة إلى قابيل أن يكف عن القتل ، ورسالة إلى الذي استغنى أن يشفق . وإلى الذي استأثر أن يعلم أن هذه " المسكونة " أكبر من بيضة ، يتصبح بها صاحب ياقة بيضاء .

نشأنا وفي آذاننا عبارة " الواحد الذي يملك المليون والمليون الذين لا يملكون واحد " وصرنا إلى حكاية الواحد " الذي يملك المليار أو المليارات والمليار الذين لا يملكون واحدا . وأعجبه أن هذا الواحد الذي يملك المليارات من أول أمره إلى آخره موظف عام كل ما يدخل عليه محفوظ معدود .

 إن لتصدي لفيروس كورونا يفرض على البشرية جمعاء ، على مستوى الدول والحكومات ، وعلى مستوى المجتمعات والشعوب ، كما على مستوى الأفراد ؛ وحدة في المواجهة . ففيروس كورونا ليس قنبلة موقوتة ، يدسها إرهابي في صف من يعتبره عدوه ثم يعتد انفجارها وضحاياها انتصارا له وللمتجانسين معه !!

لا يمكن للفرد أن يقول أنا أتحمل مسئولية قراري ، سواء كان أميا أو مثقفا أو أميرا أو رئيسا ، إن صاحب هذا المنطق هو ثقب السفينة الذي يتهدد بالقتل سكان الأرض جميعا .

وفيروس كورونا لا يميز بين الرئيس والغفير . وهو دائما لخفائه قادر على أن يصل إلى حيث يريد. وفيروس كورونا لا يميز بين الطبيب والمريض ، ولا بين السجين والسجان ، ولا بين الأبيض والأسود والأحمر ، ولا بين وبين وبين ... مهما تكن خلفية البينيات التي زرعها البشر بين ظهرانيهم . فيروس كورونا تحد علوي ، تحد خارج الإرادة البشرية يفرض نفسه هذه الأيام على البشر أجمعين . ويقول للبشر جميعا هدفي : بنو آدم أجمعون ..فهل ننادي : يا بني آدم اتحدوا ..

وحقيقة استراتيجية أخرى في مواجهة الفيروس القاتل ..

ثم إن مواجهة كورونا لا تكون انتقائية ..

وتقديم المساعدة للمصابين به لا يكون انتقائيا ، وهو كلام سمعناه مع الأسف ، من ساسة ، لم يقدروا الكلمات التي يتلفظون بها حق قدرها . نقول إن قدر هلاك من تحب قد تكون بسبب إهمالك لمن تكره أو لمن لا تبالي ..لا يمكن في علاج فيروس كورونا أن يُقدم إنسان ذو أمل في الشفاء على آخر ، ولا عنصر بسبب لونه ، ولا غني بسبب غناه ..وما أدراكم من أين تخرق السفينة ، ثم ما أدراكم من أين تخرق السفينة ؛ وهل خرق السفينة إلا تماد في الظلم ، وتجاوز في الطغيان !! وكان أمر الله قدرا مقدورا .

ثم .. وثم .. وثم

حين يقرر بعض المسلطين أو المتسلطين على بني البشر أن يحاصروا كورونا في سجن ، أو في مخيم ، أو في جغرافيا ...فإن فيروس كورونا سيكون عادلا ؛ وسيخترق رغم أنوف الجميع كل الأسوار ..وكل السدود .

 لم يصبح العالم قرية صغيرة لتأمين انسيابية بيع البرغر والكولا فقط بل ولانتشار ما لا نحبه ولا نحب انسيابيته بحال !!

وحين سيتمسك بعض القابضين على أعناق البشر على كل خطوط الطول والعرض باستراتيجيات التمييز والعزل ، واعتبار كورونا مسننا في مطحنتهم التي يطحنون بها القيم والبشر ، ويتخففون به من كل ما يظنونه حمولة زائدة ، أو أناسا غير متجانسين ، فإن سحر كورونا ما أسرع ما ينقلب على الساحر مثلما نرى وترون !!

ينادي فيروس كورونا على الإنسانية المؤمنة جميعا أيها الناس عودوا إلى ربكم .

ينادي فيروس كورونا على كل المدعين والمغرورين أن كفوا عن ادعائكم وغروركم فلا قبل لكم بجنودي ، إن لم تكونوا بشرا أسوياء كما خلقكم خالقكم ( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ).. والأرقام المروعة تنذر عداداتها مع كل صباح ومساء .

ينادي فيروس كورونا على كل الذين يستهدفهم بالسوية أن أعيدوا نظرا فيما أنتم فيه . فإن التحدي الذي أفرضه عليكم جميعا جد وليس بالهزل

فهل يوحد فيروس كورونا في مواجهته الإنسانية والعالم والمجتمعات ..؟!

هل تصادر الحرب على فيروس كورونا كل الصراعات والحروب الظالمة القاطعة المروعة ..؟!

مواجهة فيروس كورونا ، تحتاج إلى عقول جديدة ، وقلوب جديدة ، ونسأل الله أن يرزق العلم للذين لا يعلمون ..

وأن يفتح للإنسان بابا من العلم يحيط به عما يحتاج في هذه المواجهة إليه . نوقن أن علاج فيروس كورونا موجود وقريب . وكل الذي تحتاجه البشرية اليوم : الإذن العلوي للوصول إلى ما تترقبه مع الصباح والمساء . هكذا نفهم ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ..).

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 869