والذائقة الأدبية تعشق الألوان الشعرية كل حين

رغم أن الذائقة من حواس البدن الى جانب البصر والسمع والشم واللمس، فضلا عن حاسة الحدس او الحاسة السادسة التي لا تعد من الحواس المحسوسة، لها القدرة على تذوق أنواع الأطعمة والأشرب والتمييز بينها، فإن للإنسان ذائقة أخرى من نوع آخر لا تتوفر عند كل إنسان، أو بالاحرى فإن كل فرد له ذائقة أخرى غير ذائقة الطعام والشراب، قد لا نجدها لدى إنسان آخر، وبالمجموع العام فإن كل البشر يشتركون بحاسة الذائقة على أن لكل واحد منهم ذائقة يختص بها.

فالبعض يتذوق رؤية جمال الطبيعة من جبال وهضاب ووديان وبحار وأنهار لا يتذوقها غيره أو ليس لكل إنسان الذائقة نفسها والإندكاك معها روحيا ونفسيا، والبعض يتذوق تصفح وجوه الناس وهو جالس في مقهى أو على ناصية الطريق، وبعضهم يجلس عند مقدمة صالة الوصول في مطار دولي متشوقا الى رؤية الواصلين ومتذوقا لرؤية أشكال السلام والتحية الملقاة بين المسافر ومستقبله فينعش عنده ذائقة البصر والتشوف لعادات الشعوب وطقوسها، وبعض يتجول بين الأزقة والدروب القديمة متذوقا لفن البناء القديم في هذه المدينة العريقة أو تلك، وبعض يتجول في المزارع أو البساتين متحولا بين هذه الوردة أو تلك الزهرة مشبعا عنده ذائقة النظر والشم والتنقل بين الورود والأشجار.

 وبعض يتجول بين دواوين الشعراء قديمهم وحديثهم متذوقا فنون الشعر وأنواعه وأغراضه وألوانه، وكلما تنوع الشعر تفتحت ذائقة المتلقي للقراءة والإستئناس به، وكلما تنوع الشاعر الواحد في نظمه غرضا ولونا كلما كان أقرب الى ذائقة المتلقي الذي يستهويه الشعر قراءة أو سماعا أو حفظا.

الفقيه الأصولي والباحث المحقق والشاعر الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي صاحب المؤلفات الموسوعية والكتابات المتنوعة، له العشرات من الدواوين الشعرية المطبوعة والمخطوطة، جمع جانبا من نظمه المختلف الألوان في ديوان أسماه "ألوان شعرية" صدر نهاية العام 2019م (1440هـ)عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 155 صفحة من القطع الوزيري قدّم له وأقرظه الكاتب المسرحي والشاعر العراقي الأديب رضا كاظم الخفاجي.

فصول وألوان

كما أن اللون يتغير في عين الناظر تبعا لمدى الطول الموجي أو الإشعاع الكهرومغناطيسي ضمن الطيف المرئي، فإن الشعر الفصيح منه والشعبي يتغير لونه في إطار الطيف الشعري فيعطي للشعر رونقا ولذة وذائقة جديدة، واللون الشعري كما يعبر عنه الأديب الكرباسي هو: (التغيير في الأسلوب، فالشعر على سبيل التطبيق له قوانينه وأحكامه وشروطه ومقاييسه إلا أنه قابل للتلون بلون وصبغة معينة كأن يكون فرديا أو ثنائيا أو ثلاثيا أو رباعيا وهكذا)، وكلما كان الشعر مصطبغا بألوان وأشكال وأنماط ضمن المدى الشعري المتسالم عليه كان أقرب الى النفس والى الذائقة التي تهوى جديد الشعر، من هنا يقرر الأديب الكرباسي أن: (الشعر رغم أن فيه البلاغة وأن له تأثيرًا في النفس ويبعث النشوة فيها إلا أنه إن أتى على نسق واحد يصبح عملًا رتيبا يخرجه من حالة الوجد التي ينتعش به الناظم والمتلقي وتستثقله الإذن لرتابته، فمن هنا عمد أرباب الأدب والشعر إلى إيجاد الموشحات وفنون أخرى للشعر لكي يكون أكثر متعة للمتلقي والمستمع).

من هنا فإن القارئ لديوان "ألوان شعرية" يجده منقسما الى فصول خمسة، وقد تصدر بكلمة الناشر للشاعر اللبناني الأستاذ عبد الحسن راشد دهيني، ومثلها للأديب الكربلائي الأستاذ رضا كاظم الخفاجي الذي أنهى تقديمه للكتاب بقصيدة تقريظية عبّر عن وجهة نظره لصاحب الديوان الذي اشتهر بموسوعته الفريدة (دائرة المعارف الحسينية)، جاء في مطلعها من بحر الطويل:

مسيرةُ إبداعٍ منابعُها دُرُّ *** مؤسسها فذُّ، مآثرُهُ كُثْرُ

تجلَّت صفاتُ البحثِ فيه سجيَّةً *** يُحفِّزُها فكرٌ، خصائصُهُ تِبْرُ

ثم يعرج على الديوان قائلا:

أرادَ بألوان القصيدة، منهجًا *** يُحفِّزُ أهلَ الشعر، كي يرتقي فخرُ

واصفا الألوان باللئالئ إذ يضيف:

لئالؤهُ مقرونةٌ بجمالها *** مفاتنُها سحرُ، نسائمها عطرُ

ترددات شعرية

لما كانت القصيدة العمودية معروفة لدى القاصي والداني ممن له أدنى حظ من مَلَكة الأدب لكونها الجينة الأولى لكل الترددات الشعرية وأساس الشعر العربي القريض القائم على الوزن والقافية الموحدة من صدر وعجز ومطلع ومصرع، فإن الألوان الأخرى تأخذ أسماءَ وأبعادًا مختلفة حسب مبدعها، ومن ذلك الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة أو بتعبير الأديب الكرباسي (قصيدة النثر) التي تعتمد على: (جماليات النبر، أو المقطع اللغوي، والإيقاع المستخلص من تناسق الحروف، وهو نوع من الكتابة عُرف مع منتصف القرن العشرين الميلادي) كما جاء في تلافيف الفصل الأول للتفريق بين "القصيدة العمودية والقصيدة النثرية"، بيد أنَّ للمقدّم الأديب الخفاجي رأيًا آخر إذ يرى: (إن قصيدة النثر العربية تحديدًا مصدرها الرئيس وجذرها الراسخ يتواجد في الصحيفة السجادية وفي دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة، وكذلك في نهج البلاغة ودعاء الجوشن الكبير والصغير وغيرها)

وهنا إشارة إلى أدعية ومناجات الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام، ومن ذلك دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال: "اللهم أنت عدتي إن حزنت، وأنت منتجعي إن حرمت، وبك استغاثتي إن كرثت، وعندك مما فات خلف، ولما فسد صلاح، وفيما أنكرت تغيير، فامنن علي قبل البلاء بالعافية، وقبل الطلب بالجدة وقبل الضلال بالرشاد، واكفني مؤونة معرة العباد، وهب لي أمن يوم المعاد، وامنحني حسن الإرشاد". ومن دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة مناجيًا رب الأرباب سبحانه وتعالى: "كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فى وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ اِلَيْكَ، اَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِىَ الَّتى تُوصِلُ اِلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْد لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصيباً، اِلهى اَمَرْتَ بِالرُّجُوعِ اِلَى الاْثارِ فَاَرْجِعْنى اِلَيْكَ بِكِسْوَةِ الاْنْوارِ، وَهِدايَةِ الاْسْتِبصارِ، حَتّى اَرْجَعَ اِلَيْكَ مِنْها كَما دَخَلْتُ اِلَيْكَ مِنْها، مَصُونَ السِّرِّ عَنِ النَّظَرِ اِلَيْها، وَمَرْفُوعَ الْهِمَّةِ عَنِ الاْعْتِمادِ عَلَيْها، اِنَّكَ عَلى كُلِّ شَىء قَديرٌ". ومن نماذج نهج البلاغة للإمام علي (ع): "وَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً، ومَرَضاً حَابِساً، أَوْ مَوْتاً خَالِساً، فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ، وَمُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ، وَمُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ، زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ وَقِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، وَوَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ، وَتَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ، وَأَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ، وَعَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ، وَتَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ، وَقَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ، فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ، وَاحْتِدَامُ عِلَلِهِ، وَحَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ، وَغَوَاشِي سَكَرَاتِهِ، وَأَلِيمُ إِرْهَاقِهِ، وَدُجُوُّ أَطْبَاقِهِ، وَجُشُوبَةُ مَذَاقِهِ". وغيرها من النماذج الكثيرة التي يشيرها إليها الخفاجي لتأكيد وجهة نظره، وهي وجهة نظر جدُّ مقبولة إذا ما عرفنا أن النثر الشعري أو قصيدة النثر أو الشعر الحر قائم بشكل عام على السجع والتقفية.

ومن مقطوعة من الشعر الحر للأديب الكرباسي:

إنَّ عيني بحمده باصرة

نظرتي في مشاهد حائرة

ساد ظلمُ الظلام في دائرة

وَهْمُ قومي بصفقة خاسرة

لو بنفسي سوى غدت كافرة

ويواصل الأديب الكرباسي في الفصل الثاني بيان شعر (الأحاديات من المشطور الى المعشَّر) وضمّ عشرين مقطعا ومقطوعة، فتناول شرحا وأنموذجا بيان: المشطور والوحدانيات، المزدوج والثنائيات، المثلَّث والثلاثيات، المربَّع والرباعيات، المخمَّس والخماسيات، المسدَّس والسداسيات، المسبَّع والسباعيات، المثمَّن والثمانيات، المُتَسَّع والتساعيات، والمعشَّر والعُشاريات.

ومن نماذج الموحد قوله من قصيدة "يا سيدي"، من بحر المنبسط المثلث:

يا سيدي شكوتي في الأثر

فينا فسادٌ علا واستتر

ليل طويلُ كثيرُ البؤر

ظلمُ غزانا ونهجُ خثر

ومن نماذج الوحدانيات، من بحر المُبْهم لدى عروض الفرس:

مَن كان بين الورى كالشمسِ *** يرقى عن الذات من هوى النفسِ

ويواصل في الفصل الثالث (في الرباعي وإخوانه) بيان مفهوم: "التربيع، المربع، المستربع، المربوع، الرباعي، والأبوذية"، مع الإستشهاد بكل نموذج من نظمه، ومن شعر المربّع، من بحر الرجز المجزوء المذيل:

حافظ على حسن الجوارِ *** إن كنت تسعى للحوارِ

كُن صادقًا عند اختيارِ *** لا تعذِرَن حتى بِعارِ

ويواصل في الفصل الرابع (في التخميس وإخوانه) بيان مفهوم: "التخميس، المُخَمَّس، المستخمس، المخماسي، الخماسي، المُخْمَس، الخميس، التخَمُّس، المخامسة، والخميسي" والإستشهاد بكل واحد بمقطع، ومن ذلك التخميس التالي:

يا ليتني قَدَرَ المعروفِ أَملِكُهُ *** أمشي إلى قَتَمِ الأيامِ أُهلِكُهُ

نفسي على أفقِ الأجداد أسلُكُهُ

ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يُدْرِكُهُ *** تجري الرياحُ بما لا تشتهي السُّفُنُ

فالأشطر الثلاثة الأولى من نظم الشاعر الكرباسي والشطران الرابع والخامس صدر بيت وعجز للشاعر أبي الطيب المتنبي المتوفى سنة 354هـ.

وينتهي الأديب الكرباسي في الفصل الخامس والأخير بنماذج متنوعة من الشعر، من ذلك الحكمة التالية من بحر المتئد التام:

لا تُمَنِّ النفسَ خيراً عبر الهوى *** دون هجرانِ الهوى لم تحظَ التقى

في الواقع أن الألوان الشعرية مثلها مثل البستان كما يصفها الأديب الدهيني في مقدمة الناشر إذ: (إنَّ الوالج إلى هذا الديوان متجولا ومتنقلا بين صفحاته، كالوالج إلى بستان متجولا بين جنباته وممراته، أنى التفت رأى أشجارًا وورودًا، في كل خطوة يخطوها يرى أشجارًا ثمارها تختلف عن ثمار غيرها، كلها مما لذَّ وطاب، يمد يده أنى شاء ليقطف من تلك الثمار ما تشتهي نفسه، وفي كل خطوة يخطوها يتنشق أريجًا غير الأريج الذي تنشقه من قبل، فيا له من بستان تعبت الأيدي في زرع شجيراته ووروده والإعتناء بها، بل يا له من ديوان كأنَّ المتامل فيه يتأمل لوحة فنية رائعة مزجت بين الفكرة المعبرة والألوان الكثيرة الجذابة).

وسوم: العدد 870