مشروع الجماعة لنهضة الأمة (٣ /٩)

الإمام الشهيد حسن البنا

بين "النظر العقلي" و"النظر الشرعي"

ويؤكد د. عمارة أن الأستاذ البنا وقف بـ(التجديد الإسلامي) عند وسطية الإسلام، فقطع باستحالة الخلاف والصدام والتناقض بين "النظر العقلي" و"النظر الشرعي" في الأمور "القطعية".

وإذا كانت "طبيعة المبحث" هي التي تحدد أداة النظر فيه، وهل الأولى أن تكون "العقل" أو "الشرع" فإن اختلافهما إنما يكون في "الظاهر" وفيما هو "ظني" لم يبلغ فيه أحدهما مرتبة "اليقين"، فقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر.

وإذا كان الإسلام قد رفض "غرور العقل" و"انفراده بالنظر" في كل الميادين، ودعا إلى التوازن بين نظره والنظر الشرعي، فإنه على حد قول الإمام البنا: "لم يحجر على الأفكار ولم يحبس على العقول، بل جاء يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع من كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أّنى وجدها فهو أحق الناس بها".

        مرونة الشريعة وانفتاحها

وحتى يكون الباب مفتوحا –حقا– أمام التجديد، جاء الإسلام – في المعاملات، والاجتماعيات، والسياسات– بالكليات؛ فوقفت شريعته –التي هي وضع إلهي ثابت– عند فلسفة التشريع، ولم تأت بتفاصيل التشريعات، وركزت على "القواعد" و"النظريات" و"الكليات" تاركة الباب مفتوحا أمام "الاجتهاد" المحكوم بهذه الكليات والقواعد والفلسفات والنظريات، ومفتوحا –كذلك– أمام التجديد الذي يضع هذه الاجتهادات في الممارسة والتطبيق، فكان هذا المنهاج الإسلامي الذي يواكب كل المستجدات بالحلول الجديدة، والذي تبقى فيه هذه الحلول الجديدة إسلامية دائما وأبدا؛ لأنها فروع وأوراق للجذور والأصول والكليات والثوابت التي لا تغيير فيها ولا تبديل. وعن هذا الموقف الإسلامي من الكليات الثوابت، والجزئيات المتجددة، كتب الأستاذ البنا فقال: (لقد جاء الإسلام للناس فكرة سامية تحدد الأهداف العليا، وتضع القواعد الأساسية، وتتناول المسائل الكلية، ولا تتورط في الجزئيات، تدع بعد ذلك للحوادث الاجتماعية والتطوارت الحيوية أن تفعل فعلها وتتسع لها جميعا ولا تصطدم بشيء منها، ولقد فرق الفقهاء في النظرة التشريعية بين ما هو من قواعد أحكام المعاملات وشؤون الحياة الاجتماعية، فأفسح للنظر والاجتهاد في الثانية ما ليس في الأولى حتى لا يكون على الناس في ذلك حرج ولا مشقة (ُيِريُد اللهُ ِبُكُم اْلُيْسَر َولا ُيِريُد ِبُكُم اْلُعْسَر) [البقرة:185]). وهذا الجديد الذي تفتح له الشريعة صدرها وتفسح أمامه الطريق، كما يكون إبداعا ذاتيا للأمة الإسلامية والعقل المسلم، يكون – أيضا – حكمة– أي صوابا عقليا – يلتقطها العقل المسلم أّنى وجدها، وبصرف النظر عن المواطن الحضارية التي أبدعتها.

وسوم: العدد 871