ذكريات عن حلب الجميلة .. في المقارنة بين المدارس الدعوية والعلمية ..

وهذه مقارنة بين تجربتي الشيخين : عبد القادر عيسى ومحمد النبهان رحمها الله تعالى ..

ووعدت تحت الإلحاح أن أفتح بعض الملفات ..

واشترطت على نفسي أن لا أكتب إلا راضيا فأذكر خير ما علمت عن كل من أذكره .وهو شرط يريحني من عناء طالما ألجمني عن الكلام . فليس شرطا في الإنسان أن يتحدث بكل ما علم . ويكفيه حال الصحابي الذي قال : رضيت فقلت خير ما أعلم . أسأل الله أن يملأ قلوبنا بالرضا حتى يفيض على وجوهنا وألسنتنا .

وأدركت الشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله تعالى ، وأنا طالب في الإعدادية ، في مسجد صغير في " ساحة حمد " في قلب باب النيرب ، نصير إليها من ساحة الملح ، ولعلي الآن لا أعرف الطريق إليها .

كنا - ونحن رفقة - نقصد مجلسه عشاء الخميس من ليلة الجمعة ، وكان المجلس يضم العشرات من الناس . وكلهم بأعمار متقدمة . رجال مكتهلون وشيوخ ولم يكن فيهم كثير من الشباب .

ثم انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إلى جامع العادلية وفيها أو منها كان شهرته أكبر ، وكان له مريدون أكثر . وتغيرت طبقة المريدين فأصبح كثير منهم من الشباب ، ومن طلاب الثانويات والجامعات .

في ساحة حمد لم أكن ألحظ إلى جانب الشيخ رحمه الله تعالى كثيرا من الأعوان، وفي العادلية كان إلى جانب الشيخ رحمه الله تعالى رجال مثل الشيخ بشير كرمان ، والشيخ عدنان وهشام السرميني ومن حماة الشيخ أديب الكيلاني وغيرهم . وأحب أن نتوقى ذكر ما كان بين الرجال من خلافات . فتلك أمور تحدث ولا أحب لأحد أن يخوض فيها ..

ومن خلال معايشتي أحب أن أجري مقارنة سريعة بين مريدي الشيخين عبد القادر عيسى ومحمد النبهان رحمهما الله تعالى ، مقارنة للاعتبار ، وليست للمنافرة . وأنا كنت أنزوي في زوايا العادلية والكلتاوية أقتبس ما يتيسر لي من الخير أو ما يفتح الله به علي .. مقارنة نقتنص منها العبرة في معرفة جمهور العالم وأثره في عطائه وأدائه :

كان تلاميذ الشيخ محمد النبهان رحمه الله تعالى على ثلاث طبقات ..

فمجلسه أجمع للعلماء والمشايخ ، وتلامذته منهم أكثر على مستوى المدينة والمحافظة وأريافها . وأستطيع أن أذكر في تلاميذ الشيخ محمد النبهان علماء أجلاء كل واحد منهم مدرسة في ذاته .

وأذكر مرة أنه جاء عالم من العراق اسمه " كذا الخليل " يبايع الشيخ ويأخذ منه إذنا .. وقد حضرت مجلسه ، وسمعت كلامه وأنا فتى في العاشرة وشيء ما .

وهكذا ندرك أن حاشية الشيخ محمد رحمه الله كانت أوسع وأمتن ..

ثانيا - طيف الشيخ محمد النبهان رحمه الله تعالى في طبقة التجار في حلب كانت كذلك أوسع ، وهذا أعانه أولا على تأسيس المدرسة الشرعية الموسومة بالكلتاوية ، والمستقلة في منهجها عن الثانوية الشرعية ، وعن غيرها من المدارس وكان لها حضور قوي في العلوم الشرعية ..وقد سبقت إلى تأسيس روضة للأطفال ، ثم لحقت بتأسيس فرع شرعي لتعليم البنات ,,

ثم أعان وجود طبقة التجار الشيخ على تأسيس جمعية النهضة الإسلامية التي كان لها دور محمود في مساعدة الأسر الأقل حظا ، في المدينة والريف على السواء . ولم يتهيأ مثل هذا للشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله . وأنا أرصد ولا أحلل ولا أبحث عن الأسباب .

ثالثا - وبينما غلب الطيف الطلابي على تلاميذ الشيخ عبد القادر في مرحلة ما كان الشيخ محمد النبهاني يحظى بطبقة أوسع من المريدين من أبناء المدينة والريف . فقد كان لأصول الشيخ محمد النبهان رحمه الله المنحدرة من قرية يقال لها الشجرة في ريف حلب دورها ، في أن يكون للشيخ طبقة غير قليلة من أبناء المنطقة هؤلاء ..

وأذكر حادثة وقعت ربما في أوائل السبعينات في قرية الشجرة لا أعرف عن تفاصيلها كثيرا ، إلا أن جريدة الجماهير ظلت طويلا تدندن حول الحادثة وتندد بتحالف الإقطاع والرجعية ، وعهدي بهم لا يتطاولون على مثل الشيخ محمد رحمه الله ـ ولكنهم في تلك الواقعة قد فعلوا . لا أملك الكثير عن حقيقة ما جرى فسامحوني .

وفي العادلية كان ثمة برنامج علمي للمريدين يعلمون فيه في حلقات مصغرة بعض العلوم الشرعية الأساسية , وقد حضرت بعضها . ولم ألحظ ذلك في تجربة الشيخ محمد النبهان رحم الله الشيخين وأجزل مثوبتهما . وتوفي الشيخ محمد النبهان في حلب 1974 . ولم يشهد ما شهدنا .

هذه الورقة للمقارنة العلمية والتاريخية فقط .

ولمن يريد أن يعرف المشارب فقد كان مشرب الشيخ محمد النبهان نقشبنديا ، ومشرب الشيخ عبد القادر رحمه الله شاذليا ..

وختم للشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله تعالى بهجرة في سبيل الله ، بعد أحداث الثمانينات . وكان أحد العلماء المؤسسين للجبهة الإسلامية في سورية . وقد كتب لي أن أزوره في مهجره أكثر من مرة . وأستمع إليه . ولا سيما حين ترجح لديه أن العودة إلى بلده أجدى على الإسلام والمسلمين ..

وقد أراد الله به كل الخير ، ووفقه إليه ، بعد أو وصل إلى قبرص في طريقه إلى دمشق أو إلى حلب ، وهناك أرسلوا إليه يساومونه فأبى على الشيخ دينه وأبت عليه مروءته وصار إلى جوار سيدنا أبي أيوب رضي الله عنه ، ولم يلبث رحمه الله تعالى طويلا أن توفي في عام 1991 ..

اللهم اغفر لمن ذكرنا وارحمهم وتقبل منهم وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه ..

وللحديث عن الشيخ محمد النبهان رحمه الله تعالى بقية لعل الله ييسر لي العودة إليها .

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 872