شهر الصيام الأبرك في ظرف الحجر فرصة لحفظ ما تيسر من كتاب الله

شهر الصيام الأبرك في ظرف الحجر فرصة لحفظ ما تيسر من كتاب الله عز وجل لمن فاتهم حفظه أو شغلتهم  عنه المشاغل من قبل  

من المعلوم أن حياة الإنسان المؤمن يتوزعها حالان :  شكر في حال الرخاء  ، وصبر في حال  الشدة  كما جاء بيان ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : "  عجبا لأمر المؤمن كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له " .

و إنه بالفعل أمر مثير للعجب لغرابته ، والعجب  إنما هو روعة تأخذ النفس عند  الانبهار بشيء تستعظمه ، ولا أعظم مما استعظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم  . وهل يوجد أعظم من أمر الإنسان المؤمن بحيث  يكون في جميع أحواله إما شاكرا وإما صبورا حسب طبيعة  تلك الأحوال رخاء أوشدة .

وما دمنا في حجر فرضه ظرف جائحة نزلت بالبشرية، وهي قدر الله عز وجل الذي لا راد له، فإننا  كمؤمنين لا نختلف عن سائر الناس توجسا وفزعا  مما حل بالجميع ، ولكننا  من المفروض بحكم إيماننا بالله عز وجل  أن نتميز عن غيرنا  بالصبر ، وهو تجلد وتحمل دون تبرم أو شكوى، كما أنه حبس النفس عن ذلك مع الرضى  بما قدر الله عز وجل .

ولا شك أن الحجر وهو أمر يقيد حرية الناس ، ويمنعهم مما اعتادوه وألفوه من حركة ونشاط واختلاط فيما بينهم قد ساءهم ، وكلما امتد وقته اشتد على ذلك على النفوس ، وتطلب منها  صبرا وتحملا . ومع ما يسببه  هذا الحجرمن ضجر ، فإنه لا يخلو ككل شيء تضيق من النفوس من  خير يودعه فيه الله عز وجل مع رحمة ينزلها على النفوس المؤمنة إذا ما لزمت الصبر .

والحجر بالنسبة للإنسان المؤمن عبارة عن خلوة  ينفرد فيها بنفسه مع خالقه سبحانه وتعالى لمناجاته بما في قلبه من مشاعر وأسرار . ومن نعم الله عز وجل عليه  نعمة القرآن الكريم ، وهو كلامه سبحانه وتعالى المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله أفضل وسيلة لمناجاته جلا في علاه . ومن أجل تحقيق ذلك، تعبدنا سبحانه وتعالى بتلاوة ما تيسر منه ليهيىء  لنا الظرف المناسب لمناجاته ، وقد أمرنا باستحضار التدبر عند تلاوته  مصداقا لقوله تعالى : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) ،والتدبر كما يقول أهل العلم  هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم  ومراميه البعيدة ، كما قالوا هو تفكر وتأمل القرآن الكريم  من أجل فهمه وإدراك معانيه وحكمه والمراد منه . وعلى قدر تدبر الإنسان، يفتح الله عز وجل عليه بالفهم والإدراك . ويشترط في تحقق الفهم والإدراك أن يسبق بالدعاء ، وسؤال الموالى جل وعلا العون والفتح ، ولا سهل إلا ما سهله سبحانه وتعالى .

ومعلوم أن المؤمن قد يتلو كتاب الله تعالى ، وتلاوته لا تخلو من أجر وبركة، وهي عبادة تعبده بها الله عز وجل ، وقد تمر به  خلال ذلك الكثير من آياته لا يستوقفه ما أودع فيها الله عز وجل من أسرار وعجائب لا تنقضي حتى إذا منّ عليه مولاه بنعمة الكشف عن بعضها، وجد لذاك حلاوة في نفسه لم يكن قد ذاقها من قبل ، وتبعث فيه الرغبة في الاستزادة منها . وعلى قدر ما يفتح الله عز وجل على النفس من تلك الأسرار تتعشق كلامه سبحانه وتعالى ، وتتوطد صلتها به ، وتزداد متانة ، وتراكم تلك الأسرار، فيفضي بعضها إلى بعض ، ويكشف بعضها بعضا  ويفسره ، ويفسح لها أوسع الآفاق في الفهم والإدراك ، وتبلغ بذلك أرقى مراتب السمو الروحي .

ولقد خصنا الله عز وجل هذا العام بنعمة من أكبر النعم، وهي نعمة الحجر في شهر الصيام عكس ما يظنه الكثير من الناس ، وهي في الحقيقة  فرصة خلوة مع الله عز وجل يتعين على كل مؤمن أن يحسن اقتناصها لاستدارك ما فاته من حق كتاب الله عز وجل عليه من تلاوة ،وحفظ، واستظهار، وتدبر، وتخلق .

أما من أكرمه الله عز وجل بنعمة الحفظ من قبل ، فقد يسر له سبل التدبر وطوى له المسافة إلى بلوغه بيسر ، وأما من لم يؤت هذه النعمة لتقصير أو تفريط منه ، فإنه لم يحرم نعمة تلاوته من المصحف ، وقد يطوي له الله عز وجل مسافة التدبر أيضا. ولا شك أن حسن التدبر يساعد على الحفظ ، ذلك أن التدبر يحصل مع الاستئناس ، وبه يرسخ كلام الله عز وجل في الذاكرة وينقش فيها . وإن المؤمن ليسهل عليه حفظ بعض كلام الله عز وجل دون البعض الآخر ، وهو أكثر حفظا لما يستوعبه فهمه الذي مكنه منه تدبره  بتيسير من الله عز وجل .

ولهذا وجب علينا أن نغتم فرصة نعمة  هذا الحجر وهو هبة من الله عز وجل  لتجديد الصلة بمناجاته سبحانه وتعالى بواسطة كلامه إذ لا يحسن أن يناجى بغيره. ولئن خلصت النية في هذه المناجاة ، وقوي العزم على ذلك ، فإن المؤمن سيكبر رصيده من حفظ كتاب الله عز وجل  ويتضاعف ، ويزداد عما كان عليه من قبل ، وسيكتسب عادة الحفظ بعد انتهاء شهر الصيام ، وانتهاء الحجر مع رفع البلاء إن شاء الله تعالى .

وينصح المؤمن بأن يوظف ما حفظ في صلواته ، وهي أفضل لحظات مناجاة الله عز وجل ، وأن يتخلق بما حفظ ، وينتقل بذلك من حال لم يكن راضيا عنه إلى حال يرضاه .

ولقد سهّل  الله تعالى على عباده المؤمنين إذ تعبدهم بتلاوة ما تيسر من كتابه ، وجعل في اليسير منه بركة وأجرا عظيمين كما جاء ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفا من كتاب الله ، فله به حسنة ، والحسنة بعشر امثالها ، لاأقول ألم حرف ، بل ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " وأي خير أعظم من هذا ؟ وأية بركة تعدل هذه البركة ؟ وأي أجر يضاهي هذا الأجر ؟

وفي الأخير نقول إن شهر الصيام، وهو شهر القرآن عبارة عن فرصة ثمينة متاحة للمؤمنين  لفتح حسابات بأرصدة  من الحسنات ، فلا يجب أن تفلت منهم بالانشغال بالترهات وتوافه الأمور من السهر مع الأفلام والمسلسلات ... وغير ذلك مما لا طائل من ورائه  . ولقد من الله عز وجل على الذين كان يشغلهم السهر  من قبل خلال شهر الصيام في المقاهي بإغلاقها  ليفسح لهم المجال كي يناجوه بتلاوة القرآن والقيام  ، فلا يصرفوا الوقت الذي وفره عليهم ربهم وكانوا يضيعونه  من قبل في لغو المقاهي في أشكال أخرى من اللغو واللهو والعبث .

ولا يجب أن يغيب عنا أننا نواجه بلاء ، وأننا نرجو الله عز وجل أن يرفعه عنا ، وأن رفعه يتطلب منا التقرب منه سبحانه وتعالى بصالح الأعمال وخالص الدعاء، وهو ما لا يجب أن يشغلنا عنه لهو أو عبث أو سهر بلا طائل ، فعسى إن أخلصنا التوبة والدعاء والتضرع إليه سبحانه أن يعجل لنا بفرج من عنده ، وما ذلك عليه بعزيز ، وما هو منا ببعيد جودا منه ومنة ونعمة  ورحمة .

اللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان ، وبلغنا رمضان ، وأعنا على حسن صيامه وحسن قيامه ، وحبب إلينا الإنفاق في سبيلك حتى لا يجوع  محاويجنا  .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 873