الزعيم الوطني السوري سعد الله الجابري وسبق رؤية لدور العسكر

 رؤية على قاعدة " ويلي عليك وويلي منك "

وهدفي البعيد من تسجيل هذه الصفحات إيقاد شمعة على طريق الارتقاء بالعقل الوطني الجمعي لعموم السوريين . روايتي لأي حكاية لا يعني أنني صاحب موقف مسبق فيها. أخوف ما أخاف على السوريين من العقل الداعشي ، متأسلما كان أو متعلمنا أو متلبرلا.. فالتدعش عندي وصف لحالة لا علاقة لها بالمضمون الفكري ..

العقل الذي أخاف منه على الدين والدنيا معا هو العقل الذي نصفه بلغتنا المحلية " عقل ترس " و " لسان مقص " لا يأخذ ولا يعطي ، وكل ما يعتقده ويقوله هو الحق ، وكل من خالفه ولو على شطر كلمة كفر أو خان ..

وكانت على أجندتي بالأمس أكثر من عشر صفحات أريد أن أختار أحدها للمعالجة اليوم ، ثم بدأت بتأمل ما يمكن أن يقال في إسقاطاتها ، ولاسيما حين يحاول بعضهم أن يجرها إلى حيث لا أريد ، فاستبعدت واستبعدت واستبعدت حتى شعرت أنني مقيد ضعيف الحيلة ، قليل رأس المال ..أ

كتب كل هذا لأنبه على حقيقة واحدة هي أن هدفي مما أكتب عموما  أن أؤكد للسوريين عموما أن العقل السياسي مرن مفتوح ، يغير موقعه من القضية ثماني مرات ليراها من جهاتها الرئيسية ثم الفرعية ، ليستخلص في حقها حكما وهو يقول : لعلي ولعلني ..وأكتب لأنتزع فيما أكتب مستقبلا محرمة  الأمان ..

وحكايتي اليوم أنقلها من تراث صحف سورية قرأتها في فترة مبكرة في بعض الصحف المطوية في صناديق صاحبها ..

ويوم قرأتها أثارت انتباهي ، وربما دهشتي ، أو استنكاري !! كانت الصحيفة تروي عن جدل يدور في مجلس النواب السوري في الأربعينات بين رئيس أركان الجيش السوري  وبين زعيم من زعماء الكتلة الوطنية ، بل لعله كان رئيسها آنذاك وهو الزعيم الوطني  "سعد الله الجابري "

وإذا تذكرنا أن سعد الله الجابري قد توفي في 1948 فعلينا أن نتصور أن هذا النضج السياسي المبكر قد كان قبل أمرين : قبل نكبتنا في فلسطين ، وقبل الانقلاب الأول الذي قاده حسني الزعيم في 30 / آذار / 1949 ..الأول على مستوى العالم العربي ، وليس الأول على مستوى سورية فقط ...!!

يقف قائد الأركان يومها في مجلس النواب ، فيطالب بالميزانية اللازمة للتسليح والتدريب وكل الذي يحتاجه بحق العسكريون ..

وربما كانت تجربة الساسة الوطنيين حاضرة من يوم معركة ميسلون ، حيث لم يخرج من مرتبات الجيش الحقيقي مع يوسف العظمة إلا قليل . لأن حكومة الملك فيصل قد استجابت لإنذار غورو ، وأعلنت حل الجيش . وكان وزير الدفاع يومها يوسف العظمة قد تمسك بالوفاء لشرف الدفاع ، فخرج إلى المعركة ،بقليل من الجند وكثير من المتطوعين ، وكان الكل : 1500 مدافع عن العرض والأرض ..

ومع أن عشرين سنة تقريبا تفصل واقعة اليوم عن واقعة الأمس إلا أن الجدل ظل حاضرا ، حول دور الجيش يوم ميسلون ، وحول بعض التصرفات والسلوكيات التي لم تكن تروق للشرفاء من الوطنيين . وظلت النخبة الوطنية الصادقة تنظر إلى علاقتها بالجيش على قاعدة : "ويلي عليك وويلي منك " فهؤلاء العسكر بالنسبة لهؤلاء الوطنيين هم الشر الذي لا بد منه ، والذي يجب أن تعرف كيف تقيده وتوظفه وتحتويه!!

لقد مرت سنوات طوال من التضليل الإعلامي حتى خُلع على الجيوش العربية عموما ، والجيش السوري خصوصا " روب القداسة " وأصبحت تقصف باسمه وعلى يده  الأوطان ، وتؤد الحريات ، وتنتهك الحرمات ..ويظل يوصف عند بعضهم بالجيش الوطني !! وكان الشعب السوري قد اختار له بعد حرب السابعة والستين وصف " جيش أبو شحاطة " لأن جنوده كانوا يتخففون من ثيابهم وأحذيتهم العسكرية لسهولة الهرب ، وقياداته يوفرون سياراتهم للعدو كي يغنمها ، ويؤثرون الهرب على الحمير..

أتذكر من سورية أسبوع التسلح عام 1954 - 1955 ، وكيف جاد السوريون وتباروا بالجود لتسليح جيشهم ، بالسلاح الذي ذبحهم وذُبح بعد أبناؤهم وأحفادهم به . ثم أتذكر بعدُ الضريبة التي فرضت على كل معاملة ، ولو معاملة تسجيل وفاة ، تحت عنوان " المجهود الحربي " الذي كان الكثير من السوريين يدفعون رسمه صاغرين ، وهم يعلمون أن ريعه ، سيكون " بور بوار " لسكير صغير ..

الحكاية التي أحكيها ، وأنقلها عن أحد زعماء الوطنية السورية ، والذي أنفق كل ثروته الموروثة عن أبيه وجده على عمله الوطني ، والذي كان يوقع في كل شهر على جدول راتبه ثم يأمر بتوزعيه على العاملين معه من صغار الموظفين ، والذي مات وزجاج غرفة نومه مكسور ، وقد وضع مكان الزجاج قطعة من الكرتون ليقي نفسه شدة البرد..

هذا الزعيم الوطني يقف وسط مجلس النواب ، في فترة مبكرة جدا  ليقول لقائد الأركان تريدون المزيد من الأموال ..ليكون لكم في الشوارع المزيد من العربدات ، ولتصبحونا أو تمسونا كل يوم بانقلاب ..!!

رحمه الله ما كان أبعد نظره ، وأجود قريحته ؟ وما أعظم جرأته وشجاعته ..وحين أتذكر سعدا وقد قرأت عنه وما عرفته أقول كما قالت الأعرابية يوما : أرى الناس يرذلون ..!!

وأذكر أن هذا الكلام قد قيل قبل أي انقلاب ، يشهده العالم العربي ، بل لم يسبقه أي انقلاب غير انقلاب الاتحاديين على السلطان عبد الحميد 1908 ..

كان كلام سعد الله بيك الجابري كما لا أزال أذكره على ورق تلك الصحيفة التي أخنى عليها الزمان ، متوازنا بضرورة تقوية الجيش وبضرورة وضع الضوابط لكي لا يضع الجيش البلاد والعباد تحت  " سلطة العصا "

كلام مهم وخطير تعقبته بعدُ طويلا من كلام زعيم الوطنية السورية فلم أجد له أي أثر،  وكأن سلطة العصا قد نالته فاغتالته حتى على الورق  ، ومن كان عنده منه أثر فأرجوه فيه ثم أرجوه ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 873