دولة الاحتلال في سنّ الـ72: الانفجار جرّاء الانتفاخ؟

.. وعلى أعتاب الذكرى الـ72 لاستيلاد دولة الاحتلال الإسرائيلي رسمياً، بمباركة قوى العالم العظمى التي توهمت فيها موطناً لليهود ومحطة للديمقراطية في الشرق الأوسط، يتقدم المدعي العام الإسرائيلي أفيخاي ماندلبيلت بشكوى إلى الشرطة حول رسائل تهديد أغرقت هاتفه الجوّال؛ على نحو بدا منسقاً ومنظماً، خلال ساعات الليل والصباح. وتلك واقعة تُضاف إلى ما تعرّض له من حملات تشهير وتهديد وتعريض من أنصار رئيس الوزراء المكلف بنيامين نتنياهو، على خلفية بيان الاتهام الذي سبق أن أصدره المدعي العام، وتضمن اتهام نتنياهو بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. لا أحد من أولئك الأنصار يتذكر، كما يلوح، أنّ ماندلبليت كان، ذات يوم غير بعيد، سكرتير حكومة ترأسها نتنياهو، وأنّ الأخير كان أيضاً وراء قرار تعيين ماندلبليت في هذا الموقع تحديداً، آملاً أنّ يردّ الجميل فيطوي ملفّ الاتهامات.

وعلى أعتاب الذكرى ذاتها كانت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، التي لا يٌعرف عنها نقص ملحوظ في معدّلات الانحياز إلى دولة الاحتلال، قد نشرت مقالاً بعنوان طريف هو «شعبوية نتنياهو الشرسة 1، سيادة القانون في إسرائيل 0»، وقّعه غيرشوم غورينبرغ؛ وهو صحافي إسرائيلي، وصاحب مؤلفات مثل «تفكيك إسرائيل»، «إمبراطورية بالصدفة: إسرائيل وولادة المستوطنات»، «الأصولية والصراع على الأقصى»، تتمحور عموماً حول نقد سياسات دولة الاحتلال وتشخيص صعود اليمين الديني والمتشدد والعنصري في صفوف اليهود. والـ «1 ــ 0» في مقالته تعني تصويت المحكمة العليا الإسرائيلية بالإجماع، 11 ــ 0 هذه المرّة، لصالح تكليف نتنياهو بتشكيل الحكومة ورئاستها.

وهذا قرار يناقض ما سبق أن توصلت إليه المحكمة العليا ذاتها، في سنة 1993، حول واجب رئيس الحكومة في إقالة وزير خاضع لاتهامات أمام القضاء: صحيح أنّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكنّ مجرّد توجيه الاتهام يكفي لإلقاء الشكوك حول تكامل الوظيفة العامة، وأن يبقى المتهم على رأس عمله أمر «يهدد بإضعاف ثقة الجمهور بالسلطة الحكومية»؛ قالت المحكمة، التي وسّعت نطاق قرارها ليشمل رؤساء البلديات، الذين يتوجب أن يغادروا المنصب عند خضوعهم للاتهام. غير أنها اليوم تقول إنّ ما ينطبق على الوزراء لا ينطبق على رئيس الوزراء نفسه، متغافلة عن حقيقة كبرى ساطعة، قانونية وربما «دستورية»، تشير إلى أنّ الحكومة ليست مشكّلة أصلاً، وأنّ نتنياهو ليس بعدُ رئيس حكومة! في المقابل، يشدد غورينبرغ على مناخات العداء ضدّ المحكمة العليا التي أشاعها أنصار نتنياهو ومجموعات اليمين المتشدد والديني إجمالاً، والتي بلغت الذروة في تسريب صوتي راج مؤخراً يتحدث فيه نتنياهو عن إمكانية خروج الناس إلى الشوارع ومقاطعة انتخابات الكنيست إذا ارتأت المحكمة العليا أنه لا يجوز تكليفه برئاسة الحكومة.

وعلى أعتاب الذكرى، ثالثاً ولكن ليس البتة آخراً، من المقرر أن يكون ليل أمس قد شهد تصويت الكنيست على «حكومة طوارئ وطنيّة» هي وليد اتفاق «الليكود» ونتنياهو مع تحالف «أزرق أبيض» ورئيسه بيني غانتس؛ حيث الطرائف هنا لا تبدأ من اختتام ميلودرامي لاستعصاء دام 18 شهراً، ولا تنتهي عند توزير عدد قياسي سوف يبلغ 36 من ممثلي الأحزاب للمرّة الأولى في تاريخ دولة الاحتلال. هذا فضلاً عن حكاية حظر الحكومة من سنّ تشريعات لا تخصّ فيروس كورونا، وبالتالي عدم السماح للحكومة بالعمل بكلّ طاقتها إلا بعد 500 يوم، وأنّ نتنياهو وغانتس سوف يتمتعان بلقب «رئيس الوزراء البديل” عندما لا يكون أحدهما في المنصب فعلياً، وأنّ عمير بيريتس («النقابي» ذات يوم، والزعيم الأسبق لحزب «العمل») سوف يكون وزيراً للاقتصاد، وأنّ أرييه درعي ممثل «شاس» سوف يحتفظ بحقيبة الداخلية، ويتولى أمير أوحانا حقيبة الأمن العام رغم أنه ثار المخاوف في صفوف كبار ضباط الشرطة لأنه عارض تحقيقاتهم الجنائية ضدّ نتنياهو، ثمّ أن ينهي برافي بيرتس زعيم حزب «يمينا» الديني تمنّعه فيقبل أخيراً بحقيبة… القدس!

الملك اليوم يدعى «بيبي»، والوصيف جنرال متقاعد كان خصماً للملك في ثلاث انتخابات، وحكومته «سَلَطة» مشكّلة؛ إذا كانت تفتقر للطعم، فإنّ علائمها تؤكد عقبى «دولة» تتفجر من داخلها تباعاً، لأنها إنما تنتفخ باضطراد

هذه أمثلة ثلاثة، من كثير وافر متعدد ومتزايد، على حال «الدولة» ذاتها التي شاءت الثقافة السياسية الغربية أن تختار لها تسمية «واحة الديمقراطية» في بيداء الشرق الأوسط؛ وهي حال تسجّل حصيلة ما يتبقى من استيهامات قِيَمية وأخلاقية وراء هذا «الفردوس الموعود»، الذي يواظب على التحوّل إلى نظام أبارتيدي استيطاني عنصري عسكرتاري، إرهابي في مستوى «الدولة» ذاتها أوّلاً، وهمجي وحشي في مستوى غالبية عظمى من أفراد «الدولة» وأبنائها. وهذه الأمثلة تعيد طرح السؤال الدائم، المقيم الذي تتعمق حيثياته يوماً بعد آخر وسنة بعد أخرى: أين يخمد، وأين يتواصل، الاحتقان بين مفهوم «الدولة» عند ساسة من أمثال تيودور هرتزل، دافيد بن غوريون، غولدا مائير، مناحيم بيغن، إسحق شامير، إسحق رابين، أرييل شارون، بنيامين نتنياهو، شمعون بيريس، إيهود باراك، وبيني غانتس؟ أو عند فلاسفة وكتّاب ومؤرّخين من طراز مارتن بوبر، يشعياهو ليبوفيتش، دافيد غروسمان، عاموس عوز، توم سيغيف، أفي شلايم، وإيلان بابيه؟ و«أفواج الحالمين»، كما وصفهم إشعياء في رؤياه، هل سيصمدون طويلاً في ربقة حلم ينتفخ وينتفخ، ولا يكاد ينذر إلا بالانفجار الشديد… جرّاء الانتفاخ الشديد؟

وهي حال راهنة تعيد التذكير بالنقاشات اليهودية ــ اليهودية التي صاحبت، سنة 1997، احتفالات صهاينة العالم بالذكرى المئوية الأولى لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأوّل في مدينة بال السويسرية. آنذاك دارت سجالات نوستالجية حول حلم تيودور هرتزل الذي تحقّق (الدولة اليهودية)، ولكنها لم تكن سجالات خالية من الشجار الحادّ حول الواقع اليهودي الفقهي للدولة/ الحلم؛ أو حول معنى «ما قبل الصهيونية» بالقياس إلى «ما بعد الصهيونية». جرى كلّ ذلك الاحتقان داخل البيت الصهيوني العريض، الذي ساد الظنّ طويلاً أنه بيت واحد متراصّ؛ فاتضح أنه بيوت أمريكية وبولونية وروسية، فالاشية ويمنية، أشكنازية أو سفاردية، أصولية أو أرثوذكسية، يهودية أو نصف ــ يهودية…

الوجدان اليهودي في «أحقاب ما بعد الصهيونية»، حسب صياغة المصطلح التي صارت شائعة اليوم، انخرط في حوار متعدّد مع الذات لإعادة الدولة الصهيونية إلى ما قبل الصهيونية؛ أي إلى حلم واحد طويل مستديم، لا يصحو منه اليهودي إلا لكي يعاقب العالم الخارجي غير اليهودي، عالم الـ «غوييم» بعبارة فقهية أدقّ، على الآثام المقترفة بحقّ الحلم. وإذا كان مطلوباً من العالم أن يسهر على أمن اليهودي وهو يغرق في الحلم المستديم، فإنّ ما كان مطلوباً في المقام الثاني هو وقوف العالم مكتوف الأيدي تماماً أمام انقلاب الحلم ذاته إلى كابوس استعماري استيطاني فاشيّ العسكرة، وانقلاب الغيتو إلى كيبوتز ثمّ إلى مستوطنة، والحالم/ الضحية إلى مستوطن ثمّ جلاّد.

وإذا وقع اختلاف بين حين وآخر، أو حتى إذا دام الاستعصاء 18 شهراً واقتضى الخروج بمسرحية عجفاء اسمها «حكومة طوارئ وطنيّة»؛ فإنّ ما بعد الحلم يتماثل مع ذاك الذي قبله أو أثناءه: 1 لأمثال نتنياهو وغانتس (والأسلاف قبلهما، أجمعين)، مقابل 0 كبيرة واضحة وصارخة تلك القِيَم/ الاستيهامات التي قيل إنها تسيّج الحلم. على غرار ما جرى في أيار (مايو) عام 1997، للراغبين في المقارنة، حين مُني حزب «العمل» بهزيمة تاريخية ماحقة سلّمت السلطة إلى «الليكود» للمرّة الأولى في تاريخ دولة الاحتلال؛ فوقف بيغن أمام جموع حاشدة تهتف «عاش الملك! عاش الملك!».

الملك اليوم يدعى «بيبي»، والوصيف جنرال متقاعد كان خصماً للملك في ثلاث انتخابات، وحكومتهما «سَلَطة» مشكّلة؛ إذا كانت تفتقر للطعم، فإنّ علائمها تؤكد عقبى «دولة» تتفجر من داخلها تباعاً، لأنها إنما تنتفخ باضطراد.

وسوم: العدد 877