فتن وقلوب، وقلب أبيض مثل الصفاة لا تضره فتنة ..

عن حُذَيْفَةُ بن اليمان رضي الله عنه : سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ.

رواه الإمام مسلم في صحيحه ..

وأشرح

قوله صلى الله عليه وسلم تعرض ، بمعنى تقدم وتزين وتزخرف وحسب قواعد فن التسويق والتشويق ,,

والفتن : معنى جامع لأنواع من الشرور والآثام ، من كفر أو نفاق أو فسق والعياذ بالله ، ومنها الاعتقادات الباطلة ، والآراء الفاسدة ، والبدع الرائجة ، والشهوات الملقة التي تميل إليها النفوس ، وتصغي إليها الأسماع والقلوب .

كالحصير : تشبيه تمثيلي ، فعملية الافتتان ، والعياذ بالله ، تتم كعملية صناعة الحصير، بما فيها من حرفية ، وأناة ، وفتل بالذروة والغارب . ثم فصل ، فقال ..

عُوْدا .. عُوْدا ، وفي رواية عَوْدا .. عَوْدا ، وفي ثالثة : عَوْذا ..عَوْذا ...

فعلى الروية الأولى : عُوْدا .. عُودا ... تعني الرواية أن مروج الفتنة لا يهجم على المسلم بعقيدة الكفر أو البدعة أو بالدعوة إلى المعصية هجمة واحدة ..

إنه صانع حصير حريص ومحترف ، يقدم له كل ذلك كما ينسج صانع الحصير حصيره ؛ عودا بعد عود ، قليلا قليلا ، جرعة جرعة . وما أكثر المسميات والعناوين ..حتى استحل بعض الناس الكبائر والفواحش ويسمونها بغير أسمائها ..

وعلى الرواية الثانية : عَودا ..عَودا ، يبقى المعنى في إطاره ، فمروج الفتنة لا ييئس ولا يكل ولا يمل بل يظل في عروض إغراءاته مرة بعد مرة عوَدا ..عوَدا وكلما طرده المستهدف بالفتنة أو زجره يعود حتى يتمكن منه ، إن لم يكن في الإعراض عنه جد ..وأسهل أبواب القول في ترويج المعاصي : تذنب ثم تتوب .. والله غفور رحيم

وعلى الرواية الثالثة : عَوْذا ..عَوْذا ..

أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الفتن معاذا فيقول بعد أن أخبر عن تزيين الفتن للقلوب أعوذ بالله عوذا بعد عوذ ..

وعلى المعاني الثلاثة ، ونحن في عصر انتشار الفتن " الملقة " المحببة ، سهلة الابتلاع ، القريبة من النفوس الأمارة ، ما أكثر ما يقع الناس في الفخ المنصوب ..وكان محمد إقبال رحمه الله تعالى يقول : كنت أقع على الفخ أراه ، فألتقط الطعم وأطير . ويقول الرسول الكريم : ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .

ثم يقول الرسول صلى عليه وسلم في حديث الفتن والقلوب فأي قلب أشربها ...

تذكر : وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ..أليست هذه روعة التعبير القرآني : حين يصبح العجل شرابا ، ويصبح الكفر والزيغ والانحراف شرابا .. ليس الحميم والغساق الذي يقطع الأمعاء ، بل الشراب الذي يمتزج بالقلب ..

وحين يشرب القلب الفتنة كرشف القهوة ، شفّة شفّة ، تتمكن فيه وتستحكم ، ومع كل شفة نكتة سوداء ، مثل محل وقع القضيب على التراب ...

وحين يأبى القلب الفتنة ، ويرد الكرة عن مرماه مرة بعد مرة مرة فلا يستطيع مروج الفتنة من شيطان الإنس أو الجن أن يسدد كرة إلى مرماه .. يتم الفرز ..

نصير إلى صيرورة مطلقة ؛ قلب قد استوطنه الكفر والنفاق و الشر والفساد والزغل وأعمل فيه مبضع الفتنة تجريحا وتشويها فهو أسود مرباد ، أسود أربد ، أسود مرهق بقترة وعليه غبرة . بل قالوا أسود أحمر ، أسود مدمى من كثرة ما تناوشته المعاول .. وهو منكوس مختلط في علمه وفي فهمه وفي مقايساته لا يعرف خيرا من شر ولا جميلا من قبيح .. عَوذا ... عَوذا يا الله ..

وأما القلب الأبي الذي أعرض عن كل الإغراءات ، وصمد أمام كل أشكال الترغيب والترهيب ، وتعالى على الانقياد .. فإنه يصبح أبيض مثل الصفاة ..مثل الرخام الأبيض النقي الناعم . وقال بعض أهل الذوق ، والتشبيه بالصفاة ليس المقصود منه فقط البياض والصفاء والنعومة ، بل ينضم إلى ذلك معنى الصلابة الموجود في الصفاة . ومن هنا جاء الترشيح بأنه لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ..

وأسأل الله تعالى أن يرزقنا مثل هذا القلب الصفي النقي الصلب الأبيض ,,,الذي لا تضره فتنة ، ولا يستميله هوى ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 878