الثورة السورية وإحياء الهوية (1-2)

لا تزال الدول الوطنية تدفع ثمن المبضع الاستعماري الذي مزّقها فمزّق تاريخها وجغرافيتها، فكانت حدودها حدود الدم، واستلب بذلك حافزها الأيديولوجي الذي هو العمود الفقري لأي هوية، وسوريا جزء من هذه الظاهرة التي استهدفت الأمة العربية تحديداً، فكان التمزيق لاثنتين وعشرين دولة، ومما أمعن في استلاب هوية سوريا قفز الانقلابيين الطائفيين على عرش، كان بالأمس يتربع عليه خلفاء ملأت الآفاق سمعتهم ومآثرهم، فسعوا إلى خلق هوية طائفية غريبة كل الغرابة عن أيديولوجية البلد وتاريخها وجغرافيتها، بمعاونة مفكرين أدرك بعضهم متأخراً بعد خراب البصرة توظيفه من قبل العصابة، وتمكن هؤلاء الانقلابيون الطائفيون من تقزيم سوريا، التي كانت بالأمس حاكمة لخمسة عشر مليون كيلو متر مربع، أي ثلاثة أضعاف الإمبراطورية الرومانية، فجعلوا من تاريخها وجغرافيتها وأسماء معالمها وشوارعها حكراً على عصابة طائفية، بنت من السجون والمعتقلات بقدر ما هدمته من المساجد، التي تجاوز عددها حتى الآن خمسة آلاف مسجد، فضلاً عن تدميرها لبنى تعليمية وصحية وبيوت، وقتلت المليون وجرحت واعتقلت ما يوازيه، وشردت 12 مليون شخص.

وبمصطلح الجرجاني في تعريفاته، فإن الهوية هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق، فهل ثمة نواة أعظم من الحافز الأيديولوجي، ولذلك رأينا كل الإمبراطوريات على مدى التاريخ والأمم في العصر الحديث، مدفوعة بحافز أيديولوجي قوي إن كانت أميركا وكنيستها، أو بريطانيا وترؤس الملكة للكنيسة، أو روسيا وإحياء دور الكنيسة الأرثوذكسية في عهد بوتن، أو دور البوذية في اليابان، ومعه دور المذهب لدى إيران، ودور الدين في قيام دولة بني صهيون، ولا ننسى دور الهندوسية في الهند، وإطلاق تسمية ابتسم بوذا على قنبلتهم النووية.

فلا هوية بلا ثقافة، ولا ثقافة وهوية بلا حافز أيديولوجي قوي يدفع الأمة والشعب بمغناطيس جذب قوي يجمعها، ومن أهم مكونات الحافز الأيديولوجي رموزه وشخصياته الكبرى على مدى التاريخ، فإن كانت الهوية عبارة عن طبقات من التراكمات المعرفية والثقافية، فإن بني أمية نسخ حياة الشام، ومن بعدهم طبقات بني العباس والسلاجقة والزنكيين وبني عثمان، ومن هنا أتى الحديث عن الهوية بمناسبة تدنيس ضريح الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، على أيدي طائفيين في ريف إدلب الشرقي، وهو ما اعتبره نائب وزير الخارجية التركي تدميراً لتراث سنّي وعثماني.

فالهوية السورية امتداد لهوية إمبراطوريتها التي حكمت العالم لعقود، ولذا ينبغي التذكير دائماً بتلك الأيام المضيئة التي تشد إليها سكان المنطقة، وما دام المفكر المغربي محمد عابد الجابري يرى أن الهوية عبارة عن سيرورة، فهوية الأمة ليست سرمدية برأيه، ولذا فإن ثورة الشام الحالية لحظة تاريخية لا بد أن تلعب دوراً أصيلاً في الهوية، وإن كان البعض قد اعتبر عام 1831م يوم دخول إبراهيم باشا للشام لحظة تاريخية، فإن لحظة الثورة الحالية لا تقارن بتضحياتها ولا بامتدادها الجغرافي والزماني بتلك اللحظة، وعليه فإن من المحتوم أن تطور الشام هويتها المقبلة وفقاً للفسطاط الذي وقف فيه أهلها، إن كان فسطاط الثورة أو فسطاط قتلتها وأعدائها.

إن وضع مرتكزات وأسس لهذه الهوية مهم اليوم، في ظل جريمة تدنيس ضريح رمز من رموز الشام والأمة، وذلك كي لا نُخدع ثانية، يوم استطاع الطاغية المؤسس ونجله تمييع هوية بلد، فتجرأ على استدعاء كل احتلالات الأرض وميليشياته وشبيحته لقتل السوريين دون أي رادع، بينما يتشدق بشعارات مقاومة لا تزال تنطلي على البعض، كل هذا وقع في ظل غياب واستلاب هوية وضياع بوصلة، وحتى لو سلمنا بما يعلنه الطاغية من أن الهوية هي الوطن المحدد بجغرافيا راهنة يدين أهله بالولاء والمحبة والعطاء والدفاع عنه كما يراه، فكيف يصنّف نفسه اليوم من خان وطنه ودمّره ورقص على جراحه، وماذا يقول وهو يبيع أرضه وسماءه وبحره، لقد كانت عاقبة النازيين الذين فعلوا بعدوهم وليس بأنفسهم وشعبهم ما نراه اليوم، فكيف ستكون عاقبة من فعل بسوريا كل هذا على مدى عقود.

وسوم: العدد 882