أنا وعلي الطنطاوي‫

الشيخ عصام العطار

‫عصام العطار عقب وفاة العالم الأديب الكبيرعلي الطنطاوي في 18.06.1999م قبل 20 سنة

‫‫--------------------

سَمِعْتُ الطنطاوي وسَمِعْتُ به أوَّلَ مَرّة في الجامع الأموي في دمشق وأنا في نحو الثامنة من العمر.

‫مات من كان يلقبونه بالمحدِّث الأكبر في الشام: الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى، فسَعَتْ دمشق إلى الجامع الأمويّ، وسَعَيْنا مع الناس، وكنا تلاميذَ صغاراً في مدرسة ابتدائية تُدعى «مدرسة الحبّال» أغْلَقَتْ في ذلك اليوم أبوابَها كما أغلقتْ دمشقُ أسواقَها للمشاركة في تشييع العالم الجليل.

واكتظَّ الجامعُ الأُمَويّ بالألوف بل بعشراتِ الألوف من الناس الذاهلين أو الباكين أوالمُهَلِّلين المُكَبِّرين، وارتفعَ من أعماقِ المسجد، من على منبره، صوتٌ قويّ مُؤَثِّر، دونَ مُكَبّر، وَصَلَ إلى جَميعِ المَسامع، فسَكَنَ الناس بعضَ السكون، وأنصَتوا لكلامِ الخطيب الذي تحدّث -كما لا أزال أتذكّر- عَنْ فداحَةِ المُصاب بالمُحَدِّثِ الأكبر: الشيخ بدر الدين، وفداحَةِ المُصاب بالعلماء الأعلام عندما يموت العلماء الأعلام، فَنَفَذَ إلى قلوب الناس ومشاعِرِهِمْ، بصِدْقِهِ وعِلْمِهِ وبلاغتِه، وجَمالِ إلقائِهِ وصَفاءِ صوتِه وقوَّتِه، وحَرَّكَها كما يُريد

‫وسَألْتُ:

‫من هذا الخطيب؟

‫قالوا:

‫إنه الشيخ علي الطنطاوي

‫وعلمتُ مِنْ بَعْد أنّ علماءَ البلاد الكبار هم الذين اختاروه وقدَّموه لهذا الموقف.

‫كانَ ذلكَ في سنة 1935م ولَهُ مِنَ العمر زُهاء سِتٍّ وعشرينَ سنة

‫* * *

‫في الثانية عشرة من عمري عرفت «مجلة الرسالة» التي كان أصدرَها أحمد حسن الزيات في القاهرة سنة 1933م، وكان يكتب فيها شيوخ الأدب ورُوّادُهُ الكبار، واشتريت بعض أعدادِها القديمة مِنْ إحْدَى المكتبات، فقرأت فيها الرافعي والزيّات والمازني وطه حسين وأحمد أمين، وعباس محمود العقاد بعْدَ وفاة الرافعي.. رحمهم الله جميعاً.

‫وفي مجلة الرسالة قرأت علي الطنطاوي، وأعجبتُ بهِ وبما قرأتُهُ لهُ

‫أعجبتُ بروحِه العربية والإسلامية الصافية، وحماستِه الصادِقة للدين والفضيلة والمثُل العليا، وحَرْبهِ المُسْتَعِرَة على الفرنسيين والإنجليز والغزو الثقافي والفكريّ، وانتصارِهِ للعرب والمسلمين المستضعفين في كلّ مكان، ودفاعِه عن حقوقِ شعوبنا وأبنائِنا المضطهدين أوالمُسْتَغَلِّين أو المحرومين.. وأُعجبتُ بما كان يَجْلوهُ على قُرّائِه مِنْ صُوَر تاريخِنا العربيّ والإسلاميّ المشرق التي تبهَر العقول، وتُحَرِّك النفوس، وتَحْفِزُها إلى رفضِ الواقع والحاضِر الحقير، والسموِّ بالمطامِحِ والمشاعِر، والأفكار والمآمل، والعلم والعمل، إلى واقع أسْمَى، ومستقبل أفضل

‫كلُّ ذلك بأسلوبٍ جَزْلٍ سليمٍ جميلٍ رائعِ التصوير، بارِعِ التعبير، وإنْ شابَهُ أحياناً شيء من المبالغة والتطويل

‫وما زالَ أسلوب علي الطنطاوي يبتعد عن المبالغة والتكلّف، ويغلِبُ عليهِ القَصْدُ والصِّدقُ والطَّبْع، حتى غدا هو الطنطاويَّ نفسَه بلا زيادة ولا نقصان، فإذا قرأتَ الطنطاوي، رأيتَه مِنْ خِلالِ سُطورِهِ وكلماتِهِ كما هو في واقِع الحياة، وهذه مَرْتَبَة لا يبلُغُها إلاّ الأُصَلاءُ البُلَغاءُ المتميّزونَ مِنْ أمراءِ البيان

وإذا أردتَ يا قارئي أن تعرفَ ما هو «السَّهْل المُمْتَنِع» حقيقةً لا وصْفاً، فاقْرَأ علي الطنطاوي أو اسمعْه، فأسلوبُهُ هُوَ السَّهْلُ المُمْتَنِع في صورة من أنْدَرِ صُوَرِه، في سهولتِهِ وسَلاسَتِهِ، وسلامتِهِ وبلاغتِه، وسِحْرِهِ وحَلاوتِه، ودِقَّتِهِ المُدْهشة في التصوير والتعبير، وقدرتِهِ الفائِقة على تيسيرِ العَسير، وتقريبِ البَعيد، والوصول بالأفكار والمشاعِر، والحقائِق والمعارف، بطريقة بسيطة مفهومة مُحْكَمَة مُحَبَّبَة، إلى الكبير والصغير، والمرأة والرجل، والمتعلِّم والعامِّي، مِنْ مُخْتلِف طبقات الناس.

‫ولا أنسى للشيخ علي -كما تعودْنا أن نقول- مقالاتِه الطريفة الساخِرة، التي كانت تحمِل خِفّةَ ظِلِّه، وحلاوةَ فُكاهتِه، ولُطْفَ دُعابته، ولواذِعَ سخريتِه؛ وإنك لَتَقْرَأ إحدى هذه المقالات الساخرة فلا تملك نفسَك مِنَ الابتسام بعد الابتسام، ومِنَ القهقهة مَرَّةً أو مَرّات

‫علي الطنطاوي -دونَ شَكّ- واحد من كبار أمراء البيان في هذا العصر؛ بل إنَّ بعضَ صفحاتِهِ لترفعُهُ مَكاناً عَلِيّاً بينَ أمراء البيان في سائر العصور

‫* * *

‫وفي سنة 1945 أو 46 م افْتُتِحَ المعهد العربي الإسلامي في دمشق، ودَعَتْ إدارَةُ المعهد مَرَّةً الأستاذ الطنطاوي لإلقاءِ درسٍ أو محاضرةٍ أدبية على طلبةِ صفوفِهِ العليا وأساتذتِهِ وضُيوفٍ أخَرين، وحضر الأستاذ الطنطاوي فألقى الدرس أو المحاضرة، ثم طلب إلى الحضور أن يسألوا أو أن يُعَقِّبوا على ما قال، وتكلمتُ كما طلب، وكان لي نظرةٌ غيرُ نظرَتِه، ورأيٌ غيرُ رأيه في بعض ما سمعناه منه، وبعدَ نحو دقيقتين أو ثلاث استوقفني، وطلبَ إلَيَّ أن أقف بدَلَهُ على المنبر، وأن يجلِس بَدَلي على مقعد الدرس، فأبَيْتُ واسْتَحْيَيْت، فأقسم عليّ أن أفعل، وقال لي بحَرارَة وحُبّ: أنتَ أحقُّ بأن يُتَلقّى عنك، ثم التفتَ إلى الحضور وبينهم عَدَدٌ مِنَ الأساتذة وقال: والله لا أدري كيفَ يأتونَ بمثلي وعندَهُم هذا العالمُ الأديب

‫ووقفتُ على المنبر، ولم أتابع الحديث فيما كنتُ فيه؛ ولكنَّنِي تحدثتُ عن الأستاذ الطنطاوي، وعن آثارِه، وخصائِص أدَبه، حديثَ العارف المُسْتوعِب المُتعَمِّق، وهو ينظرُ إليَّ بدهشة ولا يكادُ يُصَدِّق، فلمّا انتهيت قال لي: مَنْ أنت؟ قلت عصام العطار. قال: هل تعرف الشيخ رضا العطار؟ قلت: هو أبي، وكان أبي أيضاً من رجال القضاء؛ ومنذ ذلك الوقت بَدَأتْ معرفتُنا الشخصية المباشرَة، وأخَذَتْ خُطايَ طريقَها إلى بيتِهِ في الجادة الخامسة في المهاجرين، وخُطاه طريقَها إلى بيتنا في «الزهراء» قرب الجسر الأبيض، واتصَلتْ حِبال الوُدّ بين الأسرتين، الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء، وكان محمد سعيد، الأخ الأصغر لعلي الطنطاوي، أخاً لي عَزيزاً وصديقاً أثيراً، وواللهِ ما رأيتُ، على طولِ ما عِشت، وكثرةِ مَنْ قابلتُ على هذه الأرض أزهدَ مِنْهُ ولا أكرمَ ولا أعْبَد، فألفُ سلامٍ وسلام على أخي الحبيب وصديقي الصدوق محمد سعيد الطنطاوي في شيخوختِه ومرضِه.

‫ولم أذكرْ هنا ما ذكرتُه من حديثي مع الأستاذ الطنطاوي للتفاخرِ به، وليس من عادتي -كما يعلمُ المقربون من أصدقائي- أنْ أتفاخرَ بمثلِ هذه الأمور، وإنما ذكرتُه لأمرين: أوَّلُهُما أن أدُلَّ على أريحِيَّةِ الأستاذ وخلُقِه وكرَمِه، وحِرْصِهِ على تربيةِ المَلَكات، وتفتيحِ الإمكانات، وتشجيعِ مَنْ يُقَدِّرُ فيهم الخير، فأنا لا أعرف أستاذاً له شيء يسير من عِلْم الطنطاوي ومنزلتِه وشُهْرتِه يُمْكِن أن يُعامِلَ تلميذاً لم يَكُن يعرفُه، بمثلِ ما فعلَ الطنطاوي. ثانيهما أن أسَجّلَ اللحظة والمناسبة التي وُلِدَتْ فيها معرفتُنا الشخصية المباشرة، وأخوَّتُنا وصداقتُنا التي نَمَتْ وازدهرَتْ مع الأيام

‫وليسَ بسِرّ أنني والشيخ علي الطنطاوي لم نكن نتفق دوماً في كلّ أمْر، وفي كلّ موقف، وفي تقويمِنا للأشخاص والأوضاع؛ بل ربَّما اختلفنا في بعض ذلك أشدَّ اختلاف؛ ولكنَّ اختلافَنا لم يُضْعِف أخُوَّتَنا ومَحَبَّتَنا، ولم يوهِنْ صَداقتَنا ورابطتَنا، وتعاونَنا الوثيق على البرّ والتقوى في كثيرٍ من الأمور

‫* * *

‫سنة 1947م رَشَّحَ علي الطنطاوي وهو في مصر نفسَه للانتخابات النيابية التي جرت في سورية، ثم حضر متأخراً إلى دمشق. كانت شعبيتُه قوية واسعة؛ ولكِنّ التزويرَ الصّارخ عَمِلَ عَمَلَه في تلك الانتخابات، وكانت هنالك أيضاً ظروف سياسية، وتحالفات حِزبيّة، ومصالح شخصية واقتصادية، جعلتْ عَدَداً من إخوانِه وأصدقائِه يقفون ضِدَّهُ أو يتخلَّوْن عنه.. أشار إلى ذلك بمرارة في ذكرياتِه، ومن ذلك قولُهُ في بعض من خذلوه: “لقد أعرضَ عني أقربُ أصدقائي مِمَّن أسَمّيهِم أصدقاء العمر، وكانوا رفاقي في المدرسة، وكانوا أصحابي في حياتي، نَسُوا ما كان بيني وبينهم...”، ولكنَّهُ ذكر من وَفَوْا له بالخير: “لقد رأيتُ الوفاءَ من جيرانِنا في الحَيْ، ورأيتُ الوفاءَ من تلاميذي وتلاميذِ أبي، حين أقامَ لي الشيخ محمود العقاد رحمة الله عليه حفلةً في مدرستِه «المدرسة التجارية العلمية» جمَعتْ وجوه البلد، وفي هذه الحفلة ظهَرَ خطيب جديد كان يَوْمَئِذٍ شاباً في العشرين، فَبَهَرَ الناسَ بخطبة ارتجلها، وبهرني مع الناس هذا الذي صارَ مِنْ بَعْدُ نابغةَ الخطباء، وهو عصام العطار.”

‫لم أصِرْ «نابغة الخطباء» كما ذكر الأستاذ رحمه الله، ولكن -وأقولُها للحقيقة- لم تَكُنْ هذه أوّل خطبة لي، وإن كانت أوّل خطبة سمعها الأستاذ مني، فقد تَعَوَّدْتُ الخطابة وأنا في المدرسة الابتدائية. كانوا في إدارةِ مدرستِنا إذا زارتْنا مدرسة أخرى، وتكلّم بعض أساتذتها، طلبوا إلي، بل ألَحّوا عليّ، أن أرُدَّ -على غير رغبة مني- باسم الإدارة والأساتذة والطلاب جميعاً

‫ذكرتُ الانتخابات وما كتبه الشيخ علي الطنطاوي عَنّي وعن خطبتي، لأبَيّن أنَّ هذه المناسبة وأمثالَها قد زادت الشيخ مَحَبّةً لي، وتقديراً واحتراماً، وجعلتْ صِلَتَنا وصَداقتَنا تقومُ على أساسٍ أرْسَخ من مُجَرَّد الأخوّة أو الحُبّ الأبوي

‫* * *

‫سافرتُ سنة 1951 أو 52م إلى القاهرة مع أخي وصديقي المجاهد الجليل محمد زهير الشاويش، لأسباب منها أنني كنتُ أهاجمُ دكتاتور سورية في ذلك الحين العقيد أديب الشيشكلي في خُطَبي في مسجد الجامعة السورية، وفي مواطن ومحافل أخرى، فألزمَني بعض كبار علمائِنا -ومنهم الأستاذ الطنطاوي- بأن أسافر إلى مصر، لتفادي الصدام، وتخفيف حدة التوتر، ولِقاءِ مَنْ أحِبُّ لِقاءَهُم مِنَ العلَماء وقادَةِ العَمَلِ الإسلامي.

‫وفي غيابي مَرِضَ أبي، واشتدَّ به المرض، ولم يُخْبرْني بذلك أحد. كان -رحمةُ اللهِ عليه- يَسْتَحْلِفُ كلَّ مسافر إلى مصر يزورُه ويعرفُني، ألاّ يُخبرَني بمرضِه، خوفاً عَلَيَّ من بطش الشيشكلي إذا عُدْت؛ ولكن عندما أحَسَّ إخوانُه وإخواني بدُنُوِّ أجَلِه، أبرَق الأستاذ الطنطاوي إلى خالِه العلامة المجاهد الرائد: السيد مُحِبّ الدين الخطيب -رحمه الله تعالى- بأن يتلطَّف بإخباري بمرضِ أبي، وضرورةِ عودتي إلى دمشق، وعدتُ إلى دمشق قبلَ وفاة والدي بأيام.

‫وفي دمشق رأيت حَوْلَ سرير أبي عدداً من الإخوة والأصدقاء، ما فارقوه يوماً من الأيام على امتدادِ شهورِ مرضِه، إخوةٌ وأصدقاء انطبعتْ صُوَرُهُمْ في قلبي، وغَدَوْا عندي كأهلِ بدر: «اعمَلوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم» فكيفَ وهم قد طَوَّقوا مِنْ بَعْدُ بمحبتِهم ووفائِهم وعونِهم عُنُقي، ولم يَكُنْ منهم إلا الجميل من القول والفعل، ومن هؤلاء أخي وصديقي، أستاذُنا، وأستاذُ جيلِنا بل أجيالِنا: علي الطنطاوي

‫وتَوَلَّى الأستاذ الطنطاوي أمرَ الجنازة لتكون بكلّ ما فيها وَفْقَ السنّة المطهّرَة، رغم احتجاج كثير من أهلنا ومن معارفنا، فكانتْ أوَّلَ جنازة في الشام لعالِم من العلماء لا يكون فيها أيُّ بدعة مِنْ بدَعِ الجنائِز، وذلك كلُّه بفضله

‫وفي المقبرة وقف على قبر أبي يَرْثيه، فبكيْتُ بعَيْنَيْه، وأبكيتُ بلسانِه الناس، وتكلم أيضاً الأستاذ الجليل أحمد مظهر العظمة رحمه الله، وتكلم آخرون.. لم أعد أتذكّرُ تماماً كلَّ من تكلّم، فلم أكن مُعْظمَ وقتي خلالَ تشييع أبي ودفنِه ورثائِه في هذه الدنيا

‫* * *

‫وقد بَلَغَتْ محبةُ علي الطنطاوي لي، وثقتُه بي، وبلغَتْ أخُوَّتُنا وصداقتُنا ذروتَها العالية عندما اختارَني زوجاً لابنتِه «بنان»، وتجاوزتْ هذه الأخوَّةُ والصداقةُ كلَّ ذروة من الذُّرى عندما اسْتُشْهِدَتْ «بنان» الحبيبة في 17/3/1981م في مدينة آخن في ألمانيا، فالتقتْ مِنْهُ ومِنّي إلى الأبَد جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع، وذكرياتٌ بذكريات، ودَعَواتٌ بدعوات

‫ولم تَنْدَمِلْ قَطُّ جراحُ علي الطنطاوي لفقدِ بنان ولم تندَمِلْ جراحي، ولم يَرْقَأْ دَمْعُهُ ولم يَرْقأْ دَمْعي، ولم يَسْكُتْ حُزْنُهُ، ولم يَسْكُتْ حُزْني، إلى أن اختارَه الله إلى جواره.

‫كتبَ في الحلقة «199» من ذكرياته، بعد سنواتٍ من استشهاد ابنته، بمناسبة يوم عيد: “أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنةِ الناس إلاّ التهنئاتُ فيها الأمَلُ الحُلْوُ، وما في قلبي إلا ذكرياتٌ فيها الألمُ المُرّ.. فأنَّى لِيَ الآن، وهذا يومُ عيد، أن أقومَ بهذا الذي كنتُ أراهُ واجباً عَلَيّ؟ كيف أصِلُ إلى القبرينِ اللذيْنِ ضَمّا أحَبَّ اثنين إليّ: أمّي وأبي، وبيني وبينَهُما ما بَيْنَ مكة والشام، وكيفَ أصِلُ إلى القبرِ الثّاوي في مدينةِ آخن في ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمَها، ولا مكانَها؟ ما كان يَخْطرُ في بالي يوماً أن يكونَ في قائمةِ مَن أزورُ أجداثَهم بنتي، ويا لَيْتَني استطعتُ أن أفديَها بنفسي، وأن أكونَ أنا المقتول دونَها، وهل في الدنيا أبٌ لا يفتدي بنفسِه بنتَه؟ إذن لَمُتُّ مَرّةً واحدة ثمّ لم أذُقْ بعدَها الموتَ أبداً، بينما أنا أموتُ الآن كُلَّ يومٍ مَرّة أو مَرَّتين، أموتُ كُلّما خطرتْ ذكراها على قلبي”.

‫وفي أيّامِهِ الأخيرة، وهو في غرفةِ العناية المركّزة بينَ الحضور والغياب، كان يُحِسُّ منْ يَحُفّونَ بسَريرهِ مِنْ بناتِهِ وأصهارِه وخُلَّصِ إخوانِه، أنَّهُ يفتقدُ بينَهم شخصاً لا يَراه، ويَرْمُزُ لهم رَمْزاً واضحاً إلى بنان ولا يُسعفه اللسان، وارتفعَتْ يدُهُ ليُعانِقَ حفيدَهُ «أيمن» ابنَ بنتِه الشهيدة -وقد حضر إليه من ألمانيا- عندما رآه، ثمَّ سَقَطَتِ اليَدُ الواهنةُ على السّرير، وافترَّتْ شفتاهُ عن ابتسامَة حَزينة سعيدة حُلْوة، امتزجَ فيها الحزنُ والسُّرور والشكوَى، ونَطَقَتْ عَيْناهُ وأساريرُ وجهِه بما لا يوصَفُ مِنَ الْحَنانِ والشكرِ والأسَى، مِمّا لا يُعَبِّرُ عنه -كما قالوا- قَلَمٌ ولا لُغَةٌ ولا كَلام

‫* * *

‫لعلك يا قارئي الكريم تكونُ الآنَ وقد مَرَرْتَ بهذه السطور، قد لمحتَ خلالَها لمحةً خاطفةً شيئاً من علي الطنطاوي الخطيب، والكاتب الأديب، والمعلم الفريد، والصديق الوفي، والولد البارّ، والأب النادر بينَ الآباء

رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً واسِعَة، وجَزاه عَنّا أحْسَن الجزاء، فهيهاتَ هيهاتَ أن يَجودَ كَثيراً بأمثالِهِ الزّمان.

وسوم: العدد 884