( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) ..

وجيز التفسير :

وأذكر مطلع الآية لأبني على تفسيرها سؤالا : وهل يقتتل المؤمنون ؟! وهل يقتتل المسلمون ؟!

أطرح مطلع الآية فقط ، وشرطها دون جوابه ، ومترتباته وأحكامه لأن كل ذلك مما أفاض به المفسرون والفقهاء فاشتهر وشاع ، بينما بقيت الحقيقة التي أريد بعيدة عن أفهام وتصورات العموم ، معتبرة من المضنون به ، الذي يستأثر به أي الخصوص ، حتى عم بلاء من وراء تواريها وطم ..

وأطرح السؤال من جديد :

هل يقتتل المؤمنون ، ولا أطرحه لأجعل من جوابه مدخلا، لتهوين أو تسهيل أمر القتال بين المؤمنين ، ولا لأصادر بالجواب العلمي والواقعي على حقيقة استعظام القتال بين المؤمنين ، وعلى مثل  قول الرسول صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " . ولا قوله " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار".

نطرح هذا السؤال ونحن نستحضر قول العلماء في الحديث الأول إن قتال المسلم هو من الكفر الذي دون الكفر ، إن لم يكن عن استحلال . وأن القاتل والمقتول في النار ، عندما يكون كل واحد مهما يسعى معتديا باغيا إلى قتل صاحبه . بل الذي يقاتل دفاعا عن حق شهيد مهما تكن هوية الذي يقاتله ..

ونجيب من الآية الكريمة ، ومع الآية الكريمة : أن الأصل أن المؤمنين لا يقتتلون ، ولكن قد يحصل فيقع الاقتتال بين المؤمنين . فيبغي بعضهم على بعض ، ويعدو بعضهم على بعض . وأخذنا قولنا بأن الأصل أن المؤمنين لا يقتتلون ، وأنهم قد يقتتلون ، وقد تفيد في سياقها هذا التقليل ، من قوله تعالى " وإن .." فالعرب تستعمل إن الشرطية في الدلالة على ما يندر وقوعه أو يستبعد . ففي الآية تعبير عن واقع اجتماعي لا تنكر فيه حالات من الخروج والشذوذ عن القاعدة ، ولا يستبعد فيه أن يقتتل المؤمنون ، فردا مع فرد ، وطائفة مع طائفة ، وفرقة مع فرقة ..

ويمكن أن يحصل هذا القتال بين طرفين باغيين عاديين لكل منهم من إرادة الشر والعدوان نصيب ، أو بين باغ ومبغي عليه ، وبين معتد ومدافع عن حق ، أو بين ظالم ومظلوم ..ولكل حالة في كتاب الله ، وفي شرعة الإسلام حكمها وعلاجها .

وكما يحدث في كل المجتمعات ، بين الأفراد والمجموعات أنواع من التجاوز والظلم ، يمكن أن يحدث هذا في المجتمع المسلم . ولماذا نقر بأنه قد يسرق المسلم من المسلم ، وقد يغش المسلمُ المسلمَ ، وقد يخدعه ، وقد يأكل منه الربا أو قد يأخذ منه الرشوة فإذا وصلنا إلى المعصية الكبرى أنكرنا وهي تستحق الإنكار ، واستعظمناها بطريقة تجعل استعظامنا لها مفضيا إلى نفيها ، والصيروة إلى ما هو ما هو أشد نكارة منها ..فينتقل الناس من العدوان على الدم ، باستحلاله بما يسبقه من نفي الدين !!

إن الحق الذي يجب أن يقرر أن المؤمنين قد يقتتلون ، وأنه لا يخرجهم اقتتالهم مع عظم جريرته على المبطلين منهم ، من عقد الإيمان ولا من دائرة الأسلام .

بل نجد في الأحاديث الشريفة ، أحاديث صريحة واضحة تحث المسلم على قتال المجرمين ، دفاعا عن دين وعن حق وعن عرض وعن مال . فورع المسلم ليس دروشة، ولا انهزامية ولا استخذاء ولا ذلة ..

ثم لعلنا وجدنا في التشدد في نفي وقوع الاقتتال بين المسلمين أنها استجرت أقواما من عديمي البصيرة والفقه يصيرون إلى " تكفير المسلم " الظالم والباغي والمعتدي كعتبة لاستحلال القتال معه أو قتله . ومن هنا شاعت في عصرنا جريمتان كل واحدة منهما لا تقل عن الأخرى فظاعة تكفير المسلم ، واستحلال دمه وماله وعرضه.  وسهل على بعضهم تكفير المسلم لقتاله أو قتله . وجعله بعضهم التكفير عتبة للتسويغ والتبيرير .

الآية الكريمة تخبرنا أن المؤمنين قد يقتتلون ، وترشدنا إلى  الطريقة القويمة في احتواء هذا القتال ، ووضع الحد له . والأخذ على يد الطرف المعتدي فيه .وهذا ما يمكن أن نلتمسه في كتب التفسير .

وهؤلاء أصحاب رسول الله ، وخير الناس بعده ، اقتتلوا فلم يكفر بعضهم بعضا . وقد رد  سيدنا علي على من جاءه يبشره بأنه قتل سيدنا الزبير ، وكان محاربا له يوم الجمل " بقول الرسول الكريم "  بشر قاتل ابن صفية بالنار " اقتتل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فلم يكفر بعضهم بعضا ، ولم يلعن بعضهم بعضا . لعلكم تذكرون

وليس من غاية هذه القراءة للآية الكريمة تهوين أمر الاقتتال بين المؤمنين . وسنظل متمسكين بتعظيم حرمة الدماء . وأن أعظم الخطايا بعد الشرك بالله أن يلقى المسلمُ ربه بدم حرام نعوذ بالله من الجرأة على الدم الحرام  ..

وإنما الغاية أن نؤكد أن من حق المسلم وأحيانا من واجبه أن يدفع عنه العدوان والظلم بكل الجد والحزم والعزم ..

وأن نؤكد أن التكفير ليس عتبة لاستجازة القتال ، فنحن نقاتل الصائل لصياله وليس لكفره ، ونقاتل الظالم لظلمه وليس لكفره ، ونقاتل المعتدي لعدوانه وليس لكفره ، ونقاتل الباغي لبغيه وليس لكفره ..ولا يجوز أن يستجرنا أي شيء من ذلك إلى مربع التكفير ..

وقد أرهقنا بالسؤال أقوام : أمؤمنون هؤلاء القوم أو كافرون ..؟! ويدورون بالسؤال على أقوام لم تكن معركتنا معهم من أجل عقائدهم بل كانت من أجل إجرامهم وظلمهم وعدوانهم واستكبارهم ..

وسواء كانوا.. أو كانوا ...فإننا الذي يحل لنا قتالهم ، هو رد عدوانهم وبغيهم وظلمهم وتجبرهم وإفسادهم في الأرض وقتلهم للناس ..

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد خذ مالي ..؟

قال : فلا تعطه  مالك .

قال :  أرأيت إن قاتلني ..؟

قال : قاتله ..

قال : أرأيت إن قتلني ؟

قال : فأنت شهيد ..

قال : أرأيت إن قتلته؟

قال : هو في النار ..

رواه الإمام مسلم في صحيحه . وفي الصحيحين أيضا " من قتل دون ماله فهو شهيد " فكيف هو حال من قتل دون نفسه أو عرضه ؟!

القتال بين المؤمنين أمر مستفظع ومستنكر وكريه ، ولكنه باب للشهادة عندما تستحق دواعيه ..والتكفير ليس مدخلا لاستحلال القتال ، كما يظن البعض أو يدعي ، أو ينهج بجهل وبغير علم . و " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " و" إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " وكل هذا لا يتنافى مع قوله " قاتله " وقوله " فأنت شهيد .  ولكل فقه مقام .

ولم يسأل رسول الله عن دين مغتصب المال أمسلم أو كافر هو !! وفي مثل ابن أبيرق نزل ( وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) وفي مضمون الآية دفاع عن يهودي متهم وهو من تهمته تلك بريء .  وعلى مثل هذا الوضوح والنقاء والبصيرة ، يجب أن تربى الأجيال. ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 884