العودة إلى البديهيات

حين نقول عن مسألة ما إنها بديهية، فهذا يعني أن لا حاجة للنقاش. النقاش يبدأ بعد البديهيات وليس قبلها. فالبديهيات لا تمتلك أدوات نقاش، لأنها حسمت من زمان.

لا جدوى من نقاش بديهية أن الأرض تدور حول الشمس، وحين يأتي شخص ليناقش المسألة، نتعامل معه بصفته خارج الزمن.

لكن للأسف، فإن التاريخ يكرر دورة العودة إلى فرض نقاش أبكم حول البديهيات. ثورة المؤتمر الوطني الإفريقي ضد نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا كانت ثورة بديهية. من العار أن تناقش فكرة التمييز العنصري اليوم، لذا لم يلجأ نيلسون مانديلا إلى نقاش نظري مع النظام العنصري الأبيض، بل حسم النقاش أخلاقياً وبالنضال على الأرض، وحين جاء موعد النقاش رضي أن يناقش مسألة واحدة هي تسليم السلطة.

التحرر الوطني وحق تقرير المصير مسألتان بديهيتان، والثوار الفيتناميون والجزائريون لم يناقشوا المسألة مع المستعمر، المفاوضات التي دارت بينهم وبين المستعمرين لم تكن حول هذين الحقين، بل كانت حول تطبيقهما.

مشكلة الحركة الوطنية الفلسطينية أنها لم تحسم البديهيات كشرط للمفاوضات، وهذا ما قاد إلى مصيدة أوسلو، وإلى تحول المفاوضات إلى وسيلة يستخدمها الاحتلال لتكبيل الفلسطينيين، وجرهم إلى الهاوية.

وإلى آخره…

كنت أعتقد كغيري من الناس الذين يعيشون في زمن أُطلق عليه اسم «ما بعد الاستعمار»، أن مسألة البديهيات قد حُلت، وأن علينا التطلع إلى المستقبل الديموقراطي للشعوب العربية الذي كان يلوح في الأفق. لكننا اكتشفنا أن السلطات في العالم العربي ومعها سلطة الاحتلال الإسرائيلي، تقوم بإعادتنا إلى الصفر، أي إلى ما قبل البديهيات. ما معنى أن يصرخ مواطن سوري «أنا إنسان مو حيوان»، وما معنى أن يشعر مواطن لبناني أن عليه أن يحتمل واقعاً جعله بلا حقوق، وما معنى أن يشعر الفلسطيني أنه مهدد في كل جوانب حياته، وإلى آخره…

منطقة عربية أعيدت بالقهر والمنع إلى زمن ما قبل البديهيات، حيث عليك أن تخوض يومياً نقاشات عقيمة، كتلك النقاشات التي يضج بها لبنان بعد انحسار الموجة الأولى من انتفاضة 17 تشرين.

ما معنى أن نناقش لصاً يحاضر في محاربة الفساد، أو «زمكّا»، يتزعم حزباً سياسياً يخيل إليه أنه يحكم لبنان، في جدوى بهلوانياته، أو حزباً مسلحاً ونحن نعلم أنه لا يملك شيئاً من قراره، أو أن نناقش حاكم مصرف لبنان وظله في جمعية أصحاب المصارف عن كيف طارت الأموال وأين غطت، أو أن ندخل في مناقشة خطاب رئيس الجمهورية حول الشجاعة في سلعاتا وبسري…

العودة إلى مناقشة هذه البديهيات تعني القبول بأننا لا نملك حقوقاً، كما تقودنا إلى الدخول في لعبة الكذب على طريقة حسان دياب ووزيراته ووزرائه الميامين، والرضوخ لمنطق العجز والاستسلام.

أن يتحول الشعب اللبناني إلى شعب من الشحاذين، أو أن يتحول الشعب السوري إلى شعب من اللاجئين، أو أن تصير فلسطين ملعباً لرئيس أمريكي ممتلئ بنفسه بالشراكة مع رئيس حكومة إسرائيلية فاسد؟ هذه الكمية من «الأوات» التي تعطف الفاسد على الفاسد والمبتذل على المبتذل، تشير إلى أننا رُمينا في حفرة العودة إلى مناقشة البديهيات مع عصابات المافيا، وهي مناقشات لا هدف لها سوى جرنا إلى الاعتراف بموت إنسانيتنا.

كم تبدو البديهيات واضحة أمامنا، من البديهي عدم مفاوضة النظام المافيوي اللبناني إلا قبيل سقوطه وفي سياق هذا السقوط، ومن البديهي أن نصرخ ونحتج ونشتم أيضاً، ومن البديهي أن نقاوم بكافة الوسائل. لكن علينا أن نتعلم شيئاً آخر وهو أن إسقاط أنظمة الفاسدين واللصوص ليس بديهياً، وهنا نكتشف أن النقاش الوحيد المجدي هو كيف يبني الناس الأطر والأشكال النضالية الطويلة النَفَس من أجل تحقيق هذا الهدف.

مسألة الأمور البديهية ليست سهلة لأنها تحمل أكثر من وجه.

فإذا كانإاسقاط الطغاة واللصوص مسألة بديهية، فإن البديهية المضادة تقول إن هؤلاء سيردّون على الاحتجاجات الشعبية بالقمع الوحشي واستدراج التدخلات الخارجية. فالأنظمة العربية أسست معادلة أن النظام يساوي الوطن، بل هو أكثر أهمية من الوطن والشعب وكل القيم الأخلاقية.

في لبنان صاغ بيار الجميّل، مؤسس حزب الكتائب، مقولة النظام يساوي الكيان، ولعبت هذه المقولة دوراً أساسياً في إشعال الحرب الأهلية. لكن عرب العسكريتاريا والبترودولار والاستبداد تفوقوا على الجميّل الجد حين حولوا الأوطان إلى ممسحة الأنظمة، وارتفع ذلك الشعار البليغ في وحشيته: «الأسد أو نحرق البلد».

المسألة التي تستحق النقاش وتعيدنا إلى فكرة الثورة هي مناقشة كيف وعبر أية وسائل يجب إسقاط هذه الأنظمة.

هذا هو السؤال الكبير الذي واجهته انتفاضة 17 تشرين، التي تعلمت من انتفاضات الربيع العربي أن العنف المسلح يقود إلى تفكك المجتمع واستدراج التدخل الأجنبي، وأن الانقلاب العسكري على الطريقة المصرية يعني استمرار النظام القديم.

لكن النظام اللبناني الذي هو نظام حرب أهلية دائمة، قرر لحظة إفلاسه أن يقود البلاد إلى التفكك والمجاعة، أي إلى شكل غير مألوف من الحرب، وهذا الشكل الجديد لا يمكن مواجهته بأفكار قديمة. الثورة لم تكن يوماً معادلة جاهزة، ولا لحظة تغيير انقلابية.

الثورة مسار، والمهمة الثورية اليوم هي تأسيس مسار بناء وطن في مواجهة دكاكين الطائفيين والأوليغارشيين واللصوص.

إنها مسار طويل، وعلينا أن ننطلق من افتراض أساسي، وهو أن الثورة فكرة، والفكرة لا تُهزم بالقمع والقتل والجريمة.

المسار الثوري التغييري هو موضوع النقاش الوحيد، وعلى هذا النقاش أن يبدأ كي تتفتح مئة وردة حمراء في لبنان وبلاد العرب.

وسوم: العدد 888