"الأزهـــر" في مواجهة الطغــاة

    منذ تأسيسهِ قبل ألف عام؛ لمْ يَسلَم (الأزهـــر) مِن كيْد المستبدّين، ومكْر الجبابرة المتألّهين ... فقد مرَّ خلال رحلته الطويلة بعشرات المِحن؛ فأُغلِقتْ أبوابه، وضُرِبتْ جدرانه بالقنابل، وسَقَطَ في رحابهِ وعند أبوابهِ مئات الشهداء، لكنه بقيَ صامداً أمام أحداث الزمن، وخرج مِن كلِّ مِحنةٍ أشدّ وهَجاً، وأعمق إيماناً، وأعلى هامة!

   إنه "الأزهـر الشريف" الذي خرجت مِن رحابهِ أعظم الثورات في تاريخ مصر، بلْ هو مُوقِد الثورات الشعبية ومُغذِّيها، وقائدها ضد أيّ احتلالٍ مِن الخارج، أوْ ظُلمٍ من الداخل، ولازال التاريخُ يُسطِّر بحروفٍ مِن نور موقف علمائهِ من الحملة الفرنسيّة، ومِن ظُلم الولاة العثمانيين، ومِن طغيان المماليك، والجائرين الذين جاءوا مِن بعدهم!

   في عصورهِ الذهبية؛ كان (الأزهـــر) برلمان الأُمّــة، وكان قولهُ الفصل، وحُكمه العدل، ورأيه المسموع، وأمرهـ المُطاع؛ يُعارِض الملوك، ويَعزل الأمراء، ويَضع التيجان على رؤوس مَن شاء، ويُسقِطها عمَّن أراد، وهو في المُلْكِ زاهد، وعن الإمارةِ راغب، وقد رضِيَ أنْ يكونَ المُوجِّه والمُراقِب والمُشير، والناصح الأمين!

     فمَن ذا الذي يَنسَى شيخَ الأزهر الذي قالت عنه بريطانيا العظمى: هذا الرجل أشدّ علينا من الجيوش والطائرات! ومَن يَنسَى شيخَ الأزهر الذي قاد المظاهرات الشعبية أثناء ثورة 1919م؟ ومَن يَنسَى الشيخَ الذي استقال بعد أقلّ مِن خمسة أشهر؛ اعتراضاً على تدخُّل الملِك فؤاد في إدارة شئون الأزهر! ومَن يَنسَى الشيخَ الذي صاح في وجه رئيس الوزراء قائلاً: أمثلُكَ يُهدِّد شيخَ الأزهر؟! ومَن لمْ يسمع عن الشيخ الذي طالبَ بتغيير البروتوكول؛ كيْ يَتقدَّم شيخُ الأزهر على رئيس الوزراء! أوْ الشيخ الذي تحدَّى علي صبري، ورفضَ أنْ يُنفِّذ القرار الجمهوري! والشيخ الذي هاجم القوانين الاشتراكية، وأعلنَ قطيعته لعبد الناصر! أوْ الشيخ الذي قال للسادات: لا للصُلح مع إسرائيل!!

*   *   *    

   إنه على الرغم مِن هذا التاريخ النّضالي المُشرِّف للأزهـر عبر العصور، وعلى الرغم مِن النجاحات التي حقَّقها في مختلف الميادين؛ إلاَّ أنه لمْ يَسلَم مِن أقلام المُرجفين، ولا مِن ألسنة الحاقدين؛ أحفاد الذين عقروا الناقة، وتلامذة ابن سلول، وبقايا جيش مُسيلَمة؛ المراهنين على تمزيق الأُمَّــةَ وتذويب هُويّتها، ولسانُ حالهم يقول: "لنْ نؤمنَ لكَ حتى نرى اللهَ جهرةً"!

   ففي الحقبة الأخيرة، وفي ظل أجواءٍ بعينها، ولأغراضٍ بعينها، ولصالح جهاتٍ بعينها؛ علاَ ضجيجُ السفهاء مِن الناس؛ الذين أُصِيبوا بمرض إشاعة أجواء الإرهاب الفكري، وإخوانهم -الذين لمْ يستطيعوا الخروج من التابوهات التي صنعوها بأيديهم، وشنقوا أنفسهم بها- لكنَّ اللهَ خيَّبَ مسعاهم، وأضلَّ أعمالهم، وجعلَ كيدهم في تضليل!

لقد راحوا يَلطمونَ الخدود، ويَشقُّونَ الجيوب، ويَدعُونَ بدعوى الجاهلية؛ ويَتّهمونَ الأزهرَ وعلومه بالرجعيّة والتخلُّف ... ألاَ إنهم هم "المتخلِّفون" ولكن لا يَشعرون!

   لقد أغمضوا أعينهم عن شمس الحقيقة، وقالوا: أينَ تلكمُ الشمس الذي تتحدّثونَ عنها؟

   لقد أحزنهُم تَصدِّي الأزهر لرياح الزندقة والإلحاد، وأعياهم صمودهـ في وجه أمواج التغريب والعلمنة، والفلسفات التخريبية التي قذفتْ بها مراحيض الغرب!

لقد آلمهُم مجابهة الأزهر لجحافل الباطل، ومحاربتهِ لجيوش الضلال مِن كتائب الماركسية والعلمانية الذين صاحوا في وجه علمائه: لنُخرجنَّكُم مِن أرضِنا أوْ لتعودنَّ في مِلّتنا !

لقد نسيَ المُغفّلونَ مِن الأعراب؛ أنَّ مجد بلادهم وعِزّتها مِن مجد الأزهــــر وعزّته!

     لقد نَسيَ الجاحدون؛ أنَّ الأزهر حارس لغة الضَّاد، وحامي الوسطيّة الإسلامية!

     لقد نسيَ المُرجِفون؛ شهادة المؤرخين والمفكِّرين والمستشرقين عن الأزهر الشريف!  

   لقد نَسيَ الجاهلون؛ أنَّ الأزهر بيت الوطنية، ومنارة الدعوة إلى التآخي والتسامح بين الناس!

   مِن أسف؛ لقد نَسوا كلّ هذا، وهو ماثلٌ أمامهم، وشاهدٌ على خيانة أعينهم، وما تُخفِي الصدور!

   لقد نسوا كل هذا، وهو واضحٌ وضوح الشمس في ضحاها ... فلماذا نسوه؟!

   نسوهـ؛ لأنهم أرادوا أن يَعيبوا، وأن يتقوَّلوا، وأن يكتموا الشهادة، وأن يغمطوا الحق، وينحرِفوا عن الحقيقة، وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم مِن الإغضاء عنها، لوْ أنهم أرادوها، ولمْ يتعمّدوا نسيانها ... لقد جحدوا بها واستيقنتها أنفسُهم ظُلماً وعُلوًّا.

*   *   *

       وها هو الشيخ "الطيّب" يقف وحيداً كالعلَم في وجه سُلطةٍ كاذبةٍ خاطئة؛ تُريد جرّ الأزهر نحو مستنقع أهوائها. فالسلْطةُ -كما يقول المراقبون- تُخفي غضباً مكتوماً تجاه شيخ الأزهر، وقد ظهر ذلك جليًّا، عندما قال (السيسي) للشيخ الطيّب: "تعبتني معاك يا فضيلة الإمـــام"!

   فقد أدانَ "الطيّبُ" مرتكبي المجازر البشرية بعد انقلاب يونية 2013م، واعترض على مطاردة المعارضة، والزجّ بقادتها في السجون! واعترض –أيضاً- على اقترح السلطة؛ بعدم الاعتداد بالطلاق الشفوى! وأعلن: أنَّ الطلاق الشفهي "مستقرّ عليه منذ عهد النبيّ، ولا يجوز لأحدٍ الالْتفاف حوله. كما رفضَ "الطيّب" مشروع قانون قدّمته الحكومة يُجيز لرئيس الوزراء تغيير شروط الوقْف؛ كيْ تستولي الحكومة على أموال الأوقاف التي تُقدَّر بالمليارات.

     لذا؛ أطلقت السلطةُ كلابَها تنبح على الأزهر وشيخه، وشنَّوا هجومًا شرسًا على "الطيّب"، وطالبوه بالاستقالة بدعوى فشلهِ فى تجديد الخطاب الدينى، ورفضهِ تكفير الجماعات المتطرّفة! وقد تزامنت تلك الحملة المسعورة مع تقدُّم بعض أوغاد البرلمان بمشروع قانون لإلغاء هيئة كبار العلماء، ووضع معايير أخرى لاختيار شيخ الأزهر وتحجيم اختصاصاته.

لكن (الإمام الأكبر) ظلَّ كالطوْد الشامخ، لمْ يستكِن، ولمْ يَهتزّ لذاك الصياح وذاك النباح، حتى انطفأت نيرانُ المُرتدّين، وانكسرت أقلامُ المنافقين، وارتدُّوا خائبين مدحورين!

   وهكذا؛ سيظلّ "الأزهـــر" عزيز الجانب، موفور الكرامة، شامخ المكانة؛ بشموخ علمائه، ووقوفهم في وجه السلْطة والسلطان، وفي مواجهة الاستبداد والطغيان!

   إنَّ قوة الإمام "أحمد الطيِّب" مُستمدّة مِن ثقتهِ بالله، وثقتهِ بعلمه، ومِن هدوئه الشديد ووقاره ... فلا يرغب في ذَهب المُعزّ ولا يَرهَب سيفه، ولا يُقابِل خصومه بأفعالهم ولا بأقوالهم ... لِعلمهِ أنهم زائلون عمّا قريب!

    وإننا نُطالِب أن تُوفَّر للأزهـر الحريَّة الكاملة في أداء أمانته، وتُطلَق يده في الدعوة والتوجيه، حتى يقول ما يريد لا ما يُراد له، ويُعلِّم ما يُوجِبه الإسلامُ لا ما تفرِضه السلْطاتُ والأنظمة، ويُقدِّم ويؤخِّر حسب مراتب الناس في الدِّين والعِلم!

ومِن حق الأزهـر على الساسة والحكّام: أنْ يُنزّهوا الأزهر عن تقلّبات السياسة، وألاَّ يورّطوه في مشكلاتهم، ويُعرِّضوه للتهمة، ويُسقِطوا من هيبتهِ التي اكتسبها على مر القرون!

*   *   *

 الحقَّ الحقَّ أقول: سيظلُّ "الأزهـــرُ" غُصَّةً في حلوق الجاحدين والمرجِفين، وسيظلُّ عقبةً كئوداً أمام مُخطّطاتهم المكشوفة، ومؤامراتهم الخبيثة، ومحاولاتهم اللئيمة!

   سيظلُّ "الأزهـــرُ" جميلاً كالسماء، عالياً كالسحاب، سامقاً كالنخيل، مُضيئاً كالكوكب الدريّ ... وشاهداً على كلِّ العصور!

     سيظلُّ "الأزهـــرُ" قِبلة المسلمين الثقافية، ومُلتقى السيَّاح والزائرين ما بقيَ الليلُ والنهار!

     سيظلُّ "الأزهـــرُ الشريفُ" شريفاً مَهيباً مِعطاءًا ... ولوْ كــرِهـ المنافقون!

   ولا تزال آمالُ الملايين مُعلّقةً على "شيخ الأزهر" الذي يرونه قدوةً صالحة، كما يَرونَ منصب "المشيخة" أرفع مكانةً وأجلّ قدراً من أيّ منصبٍ آخَر!

   فالدِّينُ وُجِدَ قبل وجود الأوطان، والأنبياء قبل الزعماء، والعلماء فوق الساسة .. والأزهر سيظلُّ حتى بعد هلاك الطغاة والجبابرة ... وأبَصِـــر فسوفَ يُبصِـــرون!

وسوم: العدد 888