وكونوا مع الصادقين

لقد غدا " الكذب" سمة الحياة المعاصرة، والبضاعة الرائجة في سوق التعامل، على مستوى الأفراد والحكومات، والشعوب:

- فهذه الصحف والمجلات تملأ الأسواق والمحافل، وتنشر الأكاذيب والخرافات، باسم العلم تارة ، وباسم التقدم والحضارة والثقافة تارة أخرى .

-وهذه الإذاعة والتلفزيون والسينما، ووسائل الإعلام في كل مكان تبلبل الأفكار، وتعبث بالقيم والمقدسات،   و تنتزع من الإنسان أثمن ما يملك من خلق وتفكير ، إنها لا تترك له فرصة ليفكر، فهي تغرقه في طوفان من الكلام، وتغمره بسيول من الدعاية ، وتلاحقه في داخل بيته ، وبين أفراد عائلته ، فإذا تكلم مع الناس ردّد ما سمع ، وقال ما حفظ، من كثرة ما لقن .

- وأصبح إنسان اليوم جهاز استقبال فحسب، لا تتفاعل الأخبار في ذهنه، ولا يستطيع أن يحاكم الأمور محاكمة صحيحة. وكل ما هنالك إنه يرددها دون أن يفقه معناها، وهو يظن أنه ما يزال حيوانا ناطقا، كما تقول فلسفة يونان.

مظاهر الكذب:

ولقد اتسع نطاق الكذب، وانتشرت إشعاعاته تملأ الأفاق، وتشمل عالم الجمادات، بعد الأحياء. فهذه التماثيل البشرية- المنصوبة في الساحات والميادين- والتي تمثل القوة والبطولات. إنما رفعها الناس ونصبوها بعد أن خلت الأرض من الرجال والأبطال، في نوع من الكذب على البطولة، وهي تشويه للقوة التي توارت بالحجاب.

وهذه المسرحيات والأفلام- التي تعرض كل يوم- وهي صور لمعارك قديمة، أو حديثة، يفيء الناس لمشاهدتها، ويأنسون برؤيتها، لأن واقعهم خلا من نصر مؤزر، ومن رأس يرتفع، بعد أن أذل الطغيان الناس، وأذل العدو الطغيان، والناس.

وهذه الزهور الاصطناعية تملأ الأسواق التجارية، في طريقها إلى البيوت لتزيين المجالس، وإشاعة البهجة والسرور، بعد أن توارت زهور الربيع، ورياحين الورود، وشدو العنادل. وغدت الحياة اليوم متحفا أثريا يضم تماثيل البشر والحيوان، بل ويضم تماثيل الزهور والطيور، متحفا أثريا يعج بالتماثيل من كل نوع، ويشيع فيه الصمت صمت القبور.

فلا كلام، ولا شدو، ولا عبير. كل شيء صامت واجم. لقد مسخت الحياة كلها، بعد أن توارى الإنسان   تحت ركام الحضارة، وهجرت البلابل والطيور بستان الصناعة، وانهار البترول، وعبق الجو برائحة المازوت، وتحولت المدينة إلى ماخور كبير، يكثر فيه الحيوان الناطق، وتزينه الدمى البشرية، وتسود الآلات الحاسبة، والعقول الإلكترونية.

أي كذب هذا على الحقيقة؟ أي كفر هذا الذي يطارد الإيمان؟ أي جنون هذا الذي ينازل العقل؟ أي باطل هذا الذي يقاتل دون الحق والهدى؟ بل وأي حيوان هذا الذي يريد أن يطوي الإنسان؟

الكذب ... حتى في المعارك

نعم لقد خسرنا المعركة، معركة حزيران في عالم الواقع، ولكننا ربحناها في عالم الدعاية، والصحف، والإذاعات. لقد ربحت المعركة الإذاعات، ووسائل الإعلام، وخسرتها الأمة والشعب، ولم يستطيع العدو أن يحقق الهدف من العدوان. وانهزمت إسرائيل دون أن تحقق من أهدافها شيئا، وتحطمت على صخرة صمود الأنظمة، التي لم تتمكن من إسقاطها.

فلنحتفل أذن بعيد النصر، ولتملأ الزينة الشوارع والميادين، وليحشر الناس ضحى، وليجمع السحرة، فيوم الزينة قريب. وليسحروا أعين الناس.

فهذه مظاهرات اللاجئين ومخيماتهم في غور الأردن تحتفل بعيد النصر. وصدق الله العظيم: " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون". لقد خدعوا أنفسهم، وخدعوا أمتهم، وخدعوا الحقيقة، وساعدوا عدوهم، حينما قالوا بأنهم أقوياء، وأنهم يملكون القوة والعتاد، وأنهم دخلوا عالم الفضاء والصواريخ، وساروا بسرعتين، لا بسرعة واحدة، ليسابقوا الزمن فيسبقوه. ولكن الزمن يسخر منهم، ومن سيرهم، ويهزأ بهم وبكذبهم وبلههم.   إنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس .

كيف علم القرآن الصدق؟

لقد علمنا قرآننا أن نكون صادقين، فالإيمان في شرعنا هو التصديق، والكفر هو ستر الحقائق بأكاذيب الباطل، ولهذا لا يجتمع إيمان، وكذب في نفس المؤمن: "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون".

" آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أتمن خان" .

مواجهات قرآنية

لقد فرض القرآن القتال علينا، ولم يقل لنا أنه عمل سهل مريح ، أو إنه نزهة على شاطئ نهر، أو إنه رحلة ليلية محببة إلى النفس ، يطل فيها القمر، يسامر الكون، ويكلم الناس بلا لسان. وإنما قال:

" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)"-سورة البقرة-

ولقد كان القرآن صادقا مع المؤمنين، ليعلمهم الصدق، ليكونوا على بينة من أمرهم، حتى لا تذهلهم المفاجأة، ويعدوا للأمر عدته، ولا يؤخذوا على حين غرة.

لقد فرض الزكاة على الأغنياء، ولم يقل لهم بأن إخراج الزكاة أمر سهل ميسور، محبب إلى النفس، وإنما قال: " وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " (128) -سورة النساء-

فالبخل والتمسك بالمال شيء حاضر في الفطرة الإنسانية، ولكن":

" وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) "-سورة الحشر-

والزكاة فرضت لتطهير النفس من شح البخل، وتزكيتها من دنس الأثرة، وحب الذات:

" خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) "-التوبة-

ولقد كان على المسلم- في صدر الإسلام- أن يقابل عشرة من المشركين، ولا يجوز له أن يهرب أمامهم:

" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)- سورة الأنفال-

وحينما شعر القرآن بضعفهم وأنهم لا يستطيعون الصمود أمام هذا العدو، لم يورطهم في معركة خاسرة، ولم يخدعهم عن حقيقة قوتهم، وإنما قال لهم:

" الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ " (66)– سورة الأنفال-    

نعم هكذا كان القرآن صادقا مع المؤمنين، ليكون المؤمنون صادقين مع القرآن، صادقين مع عقيدتهم التي تمدهم بأسباب القوة، وأسباب النصر. ولقد خاض المسلمون معارك كثيرة في التاريخ انتصروا في أكثرها وانهزموا في أقلها. ولقد كانت هذه المعارك تجارب عملية، ومدارس تربوية، خرجت أبطالا لا على المسارح والأندية، وإنما على أرض بدر والقاسية واليرموك..ولم ترتفع فيها أصوات المذيعين والمهرجين والبهلوانات،

وإنما جلجلت في سمائها أصوات المكبرين والفاتحين، وهم يركبون الردى، ويسابقون الموت، ويزلزلون الأرض،   ليقدموا للناس الهدى .

صراحة في ميدان المعركة

ولقد سجل القرآن بعض هذه المعارك، وحدّث عنها المؤمنين، وبين لهم أخطاءهم، وأشاد بشجاعتهم، وسجل خطرات نفوسهم، وحديث قلوبهم، وكشف النقاب عن كل شيء، لتتضح الأمور، وتستبين الرؤية، وليعرف المسلمين كيف تكون الحياة، وكيف يكون القتال.

فها هو يحدثهم عن معركة بدر، التي كانوا يرجون فيها الغنيمة، والقافلة، ولكن الله يريد لهم العزة والنصر:

" وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)-سورة الأنفال-

وهو يقول لهم: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) "-سورة محمد-

وها هو قد نصرهم في معركة أحد مصداقا لوعده:

" وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ" "-آل عمران:152

ولكن ها هو ذا يتخلى عنهم حين تطلعت أنفسهم إلى الغنائم وعصوا أوامر رسولهم:

" حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)-سورة آل عمران-

وها هم يتساءلون عن أسباب الهزيمة حينما أصيبوا يوم أحد:

" أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا؟

فكان الجواب: " قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (165)-سورة آل عمران-

إنه الصدق في كل شيء. إن الله لا يحابي المؤمنين على حساب العقيدة، لأنه يريد لهم الخير، يريد لهم الرفعة، يريد لهم السمو. ومن ثم فإذا أخطأوا فلا بد أن يدفعوا الثمن غاليا ، من دمائهم وأرواحهم وأموالهم ، ولابد أن يدفعه معهم رسول الله، ولقد دفعه صلى الله عليه وسلم حيث أصابه ما أصابه مما نعرف يوم أحد .

الصدق..أول طريق النجاة:

إن نقطة البدء في أزمنتنا الراهنة، يجب أن تبدأ من هنا، من الصدق، لابد أن نعود إلى الصدق في كل شيء، إنه الصدق مع أنفسنا، فلا نحابيها على حساب الحقيقة، ولا نخدعها ولا نجاملها على حساب العقيدة، وأن نصدق الله، فلا نخلف وعدنا له، حتى نقضي دون شريعته، أو ننتصر:

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)

-سورة الأحزاب-

وأن نصدق مع أمتنا، فنفتح أبصارها على الحقيقة المرة، ونرفع الغشاوة عن بصيرتها، والدجل والكذب من طريقها، ونصارحها بكل شيء، لتكون على بينة من أمرها، ولتعرف كيف تتصرف وتبرم، وأن نخلي بينها وبين ما تريد. وأن لا نقف عقبة في طريقها، لأن حبل الكذب قصير، ودولة الباطل ساعة. ومن أسس بنيانه على شفى جرف هار، فلا بد أن ينهار به هذا البنيان:

" وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) "-سورة إبراهيم-

ولابد بعد ذلك كله من أن تقوم دولة الصدق، ضاربة جذورها في الأرض، ممتدة فروعها في السماء:

" تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا "-سورة إبراهيم-

وأول خطوة في طريقنا أن نعود صادقين لنكون مؤمنين:

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" (119)-سورة التوبة-