السنن الربانية من التعطيل إلى التفعيل

 إن موضوع السنن الربانية من الأهمية بمكان، ورغم خطورته وأهميته وضرورته إلا أنه لم يأخذ من تفكير المسلمين واهتمامهم في القديم أو الحديث إلا النذر اليسير!

وقضية السنن، بمعنى القوانين المطّردة والثابتة والشاملة والتي تحكم حركة الحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتتحكم بالدورات الحضارية، والتي تعتبر معرفتها شرطًا أساسيًا للتبصّر بالعواقب، وتؤهل إلى تسخيرها ومغالبتها وإلى التمكّن من الإنجاز الحضاري. ورغم ما قيل عن أهميتها وضرورة التعامل معها إلا أن رصيدنا حتى اليوم لم يتجاوز الكتابات القليلة لعدد من المفكرين، فلم تتسع دائرتها لتشكل مجرى ثقافيًا عامًا في الأمة[1].

 فإذا كانت آيات القرآن الكريم ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، وآيات الأحكام والمعاملات لا تزيد على خمسمائة آية، فإن المسلمين حصروا أنفسهم -إلا من رحم الله. في هذا الجزء اليسير الذي لا يتجاوز 1/12 من مجموع آيات القرآن الكريم، فدخلوا في فروع الفقه ومسائله وفروع فروعه وتفصيلاته، في الوقت الذي يرون فيه أن القرآن الكريم لم يترك مسألة من مسائل عمارة الأرض وإثارة خيرها والانتفاع بما فيها إلا ولفت إليها وحث عليها وتحدث عنها.

والقرآن الكريم غني بالجوانب الحضارية التي تتكفل بأن تجعل الأمة المسلمة أمة رائدة قائدة تقود الناس إلى طريق الله رب العالمين، ولكن الأزمة الحقيقية لهذه الأمة ليست في غياب المنهج الذي يضبط، ولكن في العقل الذي يدرك، والقلب الذي يعي، والجارحة التي تعمل وتنفذ...

إن الجيل الرائد من أصحاب الرسول r إنما ساد الدنيا، وفتح البلاد وقاد العباد بأمر الله تعالى؛ لأنه استوعب هذه السنن المبثوثة في كتاب الله عزّ وجلّ استيعابا عمليا؛ فكان يتعلم العلم والعمل معا، ومن هنا استطاع أن يؤسّس حضارة ويبني أمة وينشئ جيلًا بل أجيالًا، ولكن عندما تراخت قبضة المسلمين عن مفاهيم دينهم أصبحوا لا يبرزون في دنيا ولا يتعمقون في دين[2]!

إن النظر في السنن الإلهية فريضة وضرورة، فهو فريضة للآيات الكريمة التي تحث على النظر والسير والاعتبار بمن خلوا، والتفكر في آثار الذاهبين؛ فالسعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه. وهو ضرورة للظرف الراهن الذي يمر به المسلمون اليوم.

 ولأمر ما كانت توجيهات القرآن الكريم للمسلمين عقب كل قصة من قصصه في خلاصة نادرة كأنها اختزال للحدث كله وإشارة للاحقين للانتفاع من أحوال السابقين.

فلقد وردت لفظة (السنة) بمشتقاتها ثماني عشرة مرة في تسع سور في إحدى عشرة آية. في السور التالية: آل عمران، والنساء، الأنفال، الحجر، الإسراء، والكهف، وفاطر وغافر والفتح.

إن لفظة (السنة) وردت في السور المكية: كالحجر والإسراء والكهف وفاطر وغافر، وكذلك في السور المدنية: آل عمران والنساء والأنفال والأحزاب والفتح.

وغالب ورود هذه اللفظة كان في القرآن المكي مع أنها ظلّت مصاحبة للقرآن المدني الذي يغلب عليه جانب الأحكام العملية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن استيعاب السنن الربانية شرط أساسي لتطبيق هذه الحكام وتنزيلها على واقع الناس، فالتعامل مع الأحكام الفقهية بعيدًا عن هذه السنن إنما يعود عليها بالنقص أو التعطيل كما نرى في أيامنا هذه كيف تعطلت هذه الحكام!!!

 إن السياق الذي وردت فيه لفظة (السنّة) غالبًا ما يدور حول الصراع بين الحق والباطل والكفر والإيمان، وصدود الكفر أمام نور الإيمان، وأساليب الباطل أمام ضوء الحق الناصع. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن استيعاب السنن شرط أساسي من شروط الشهود الحضاري والنهوض العمراني.

فهذه السنن التي بثها الله في كتابه هي بمثابة منبهات حضارية من شأنها أن ترشد الحائرين وتوقظ الغافلين وتحرّك القاعدين. قال تعالى: قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104) الأنعام

إن القرآن الكريم ملئ بهذه الخلاصات المعتصرة من تجارب السابقين، اقرأ مثلا قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾القصص83 بعد أن ساقت السورة الكريمة قصة موسى وفرعون وقصة قارون الذي كان من قوم موسى ووقف إلى جانب فرعون حرصا على مصالحه، لتؤكد هذه الخلاصة للمسلم بأن الاستبداد السياسي والحكم الفردي بدعائمه وقوائمه وخيم العاقبة، وأن الغلبة في النهاية للمتقين، فهل انتفع من هذه الخلاصة المسلمون في طريقة حكمهم أم أخذوا من فرعون وقارون أهم الصفات وأخس السمات؟!!!

واقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يوسف90 لترى فيه القانون الثابت في آثار الاستقامة.

واقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ يونس 81،82لنرى باطمئنان أن النصر في النهاية للحق والظفر في الخاتمة للصدق.

 واقرأ ﴿إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ محمد 7، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ آل عمران 126﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ آل عمران 160لنرى بوضوح ملامح قانون النصر، ونرى معه كم أفدنا نحن المسلمين من هذا القانون في تعاملنا مع غيرنا؟!!

 واقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد 11 وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الأنفال 53 لنرى بجلاء لا يساوره غبش، ووضوح لا يعتليه شك ضوابط قانون التغيير، وكم أفدنا نحن المسلمين الراغبين في تغيير أحوالنا وأوضاعنا الراهنة من هذا القانون الإلهي والسنة الماضية.

واقرأ قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ آل عمران 140، وقوله: ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ المائدة 100 وقوله: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾،إبراهيم 7 وقوله: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ النحل 112وقوله عز من قائل: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ سبأ13، وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ الرعد17، وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا﴾ النساء 123.

وهذه النظرة القرآنية هي التي تجعل المسلم قادرًا على الاعتبار الذي يلح عليه القرآن، فأمامنا تجارب القرون الماضية، تجارب كثيرة تظهر فيها سنن الأقوام التي يخضع لها المسلمون أيضًا كأي قوم من الأقوام، وهذا النظر القرآني يجرد الإنسان من ملابساته ويرجعه إلى أصله المجرد الذي يخضع للسنن. فهذه السنن سنن عامة تنطبق على البشر جميعًا، وليست خاصة بطائفة دون طائفة ولا لجيل دون جيل، والذي يؤكد عمومية الموضوع أن الله يقول للرسول: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إلى وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ الأحقاف9.

إن الاجتماع الإنساني لا شك يخضع لهذه السنن التي عرض لها القرآن وأكدها من خلال القصص القرآني وضرب الأمثال وغيرها، فلا بد من إدراك هذه السنن وفهمها والإفادة منها وحسن التعامل معها، فالسنن التي تحكم الكون والحياة قدر من قدر الله تعالى، والتعرف عليها والانضباط بمقتضياتها هو حقيقة التكليف، وحقيقة الإيمان والتوكل... وما هذا الانحسار الحضاري الذي تعيشه الأمة إلا بسبب العدول عن هذه السنن وعدم الانضباط بها، وسوء التعامل معها، فضلًا عن الجهل بها وعدم معرفتها!!!

ومن هنا يقول الإمام البنا - رحمه الله - فيما يشبه الاختزالات العميقة للتجارب البشرية: (لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلاّبة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد)[3].

ولقد رصد الأستاذ الشيخ البنا - رحمه الله - في هذه السطور القليلة حشدًا هائلا من القيم العالية والتوجيهات الرائعة التي هي بحق معالم وملامح لفقه السنن الربانية، ويمكن أن تستخرج من كلامه في فقه التعامل مع السنن الربانية هذه الخطوات:

أولا: عدم المصادمة.

ثانيًا: المغالبة.

ثالثًا: الاستخدام.

رابعًا: التحويل.

خامسًا: الاستعانة ببعض السنن على بعض.

سادسًا: ترقب ساعة النصر. وهذه الخلاصات وغيرها أعقبها الشيخ. رحمه الله بقوله:

(فعلى هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم، وأصلحوا نفوسكم، وركزوا دعوتكم، وقودوا الأمة إلى الخير، والله معكم ولن يتركم أعمالكم).

المصدر

[1] مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، عمر عبيد حسنة ص20 بتصرف كبير من الكاتب.

[2] رمضان خميس غريب مفهوم السنن الربانية ص5

[3] مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، رسالة المؤتمر الخامس ص115

وسوم: العدد 892