مكانة السنّة في حياة المسلم 1 + 2

[ باختصار من كتاب: الإسلام على مفترق الطرق. تأليف: محمد أسد (ليو بولد فايس) ]

الحلقة 1/3

إذا تحقق المسلم الضرورة الإيجابية للعمل بسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، أصبح من حقه حينئذ، بل من واجبه، أن ينظر في الدور الذي تقوم به السنة في بناء الإسلام الاجتماعي: ما المعنى الروحي لذلك النظام المفصل من تلك القوانين وآداب السلوك، التي يجب أن تتخلل حياة المسلم منذ ولادته إلى يوم وفاته، والتي يجب أن تعين له سلوكه في أهم نواحي وجوده وفي أقلها أهمية على السواء، أو في تلك التي قد يحسب أنْ ليس لها معنى؟ وما الخير في أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه بأن يفعلوا كل شيء كما كان هو يفعله؟ ما الفرق في أن آكل باليد اليمنى أو باليد اليسرى، إذا كانتا كلتاهما نظيفتين على السواء؟ أليس هذا وأمثاله من الأمور الشكلية الخالصة؟ أوَ لها صلةٌ ما، بتقدم البشر أو بخير المجتمع؟ وإذا لم تكن كذلك فلماذا فُرضتْ علينا؟ هذا هو الوقت المناسب لنا، نحن الذين نعتقد أن رُقيّ الإسلام متعلّق باتّباع السنّة، أن نجيب على هذه الأسئلة.

هنالك، على ما أعلم، ثلاثة أسباب بيّنة على الأقل لإقامة السنّة:

فالسبب الأول تمرين الإنسان بطريقة منظمة على أن يحيا دائماً في حال من الوعي الداخلي واليقظة الشديدة وضبط النفس، فإن الأعمال والعادات التي تقع عفو الساعة تقوم في طريق التقدم الروحي للإنسان كأنها حجارة عثْرة في طريق الجياد المتسابقة.

إن هذه الأعمال والعادات يجب أن تقلّ إلى أقصى حدودها لأنها تُتْلف التوجيه الروحي للفكر، فكل شيء تفعله يجب أن يكون مقدوراً بإرادتنا وخاضعاً لمراقبتنا الروحية. ولكن قبل أن نتوصل إلى ذلك يجب أن نتعلم مراقبة أنفسنا. إن ضرورة ضبط النفس أبداً قد عبّر عنها عمر بن الخطاب أحسن تعبير فقال: "حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا"!. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اعبد ربّك كأنك تراه". من حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

لقد أشرنا من قبل إلى أن الفكرة الإسلامية في العبادة لا تشمل الصلوات فحسب، بل تشمل، فعلاً، حياتنا كلها، أما هدفها فهو جمع ذاتنا الروحية وذاتنا المادية في كيان واحد. من أجل ذلك وجب أن تكون جهودنا موجّهة بوضوح نحو إزالة العوامل التي تنشُط في حياتنا على غير وعي منا وغير خضوع لسيطرتنا، فنزيلها بالقدْر الذي تتحمله طاقة البشر.

إن محاسبة النفس هي أُولى الخطوات في هذا السبيل، وإنّ أوثق الوسائل للتمرين على محاسبة النفس أن تخضع أعمالنا التي تجري في حياتنا اليومية للمراقبة. إنّ هذه "الصغائر" وتلك الأعمال والعادات "القليلة الأهمية" هي في الحقيقة، فيما يتعلق بالمران العقلي الذي نتكلم عليه، أكثر أهميةً من أوجه النشاط "العظمى"، إذ إن الأمور "العظمى" تبقى دائماً باديةً بوضوح وتظلّ غالباً في نطاق وعينا. ولكن تلك الأمور "الصغيرة" تغرب بسهولة عن بالنا وتخدعنا عن مراقبتنا لها. من أجل ذلك كانت تلك الصغائر أشياء أكثر نفعاً لنا في شحذ قوة ضبط النفس فينا.

قد لا يكون من المهم في ذاته أن نأكل بأي اليدين، ولكن إذا اعتبرنا التنظيم فمن أشد الأمور أهمية أن نأتي أعمالنا مقدّرة بنظام. وليس من السهل على الإطلاق أن يبقى الإنسان في تَنَبُّه مستمر لمحاسبة النفس وضبطها، حتى ولو كانت فيه هاتان القوتان مثقفتين غاية التثقيف. إن كسل العقل لا يقل في حقيقته عن كسل الجسم، فإنك إذا سألت رجلاً تعوّد حياة القعود أن يسير مسافة ما، فإنه سرعان ما يتعب ويعجز عن متابعة مسيره، وليس هذا شأن من تعوّد في حياته كلها أن يمشي، بل يجد فيه عملاً جسمانياً مُستطاباً كان قد تعوّده من قبل. فهذا تعليل آخر يرينا لماذا تشمل السنّة كل ناحية من نواحي الحياة الإنسانية تقريباً. فإذا تحتّم علينا أن نُخضع جميع ما نعمل، وجميع ما نترك، لتمييز عقلي معلوم، فإن مقدرتنا على ضبط النفس واستعدادنا لذلك ينموان تدريجياً ثم يصبحان فينا طبيعة ثانية. وما دام هذا التمرين مستمراً يتناقص كسلنا الأدبي حسب ذلك.

إن استعمال التعبير "تمرين" يقتضي بطبيعة الحال أن تكون قوته الفعالة معتمدة على الوعي في القيام به. وفي اللحظة التي ينحط فيها العمل بالسنّة إلى عمل آلي، تفقد السنة قيمتها المثقفة، وكذلك كان شأن المسلمين في الأعصر الأخيرة. أما الصحابة والتابعون الذين قاموا بكل مسعى لجعل كل دقيقة في حياتهم موافقة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم فعلوا ذلك مع الفهم التام بأنهم أسلموا أنفسهم إلى إرادة هادية تجعل حياتهم مطابقة لروح القرآن الكريم، واستطاعوا أن يستفيدوا من التمرين على العمل بالسنّة أعظم ما يمكن لهم أن يستفيدوا.

مكانة السنّة في حياة المسلم

[ باختصار من كتاب: الإسلام على مفترق الطرق. تأليف: محمد أسد (ليو بولد فايس) ]

الحلقة 2/3

تحدّثنا عن الناحية الأولى والناحية الفردية كما يقال. أما الناحية الثانية فهي الأهمية الاجتماعية والنفع الاجتماعي. يكاد لا يكون ريب في أن أكثر المنازعات الاجتماعية ترجع إلى سوء فهم بعض الناس لأغراض بعضهم الآخر ولمقاصده. وسبب سوء الفهم هذا هو اختلاف الأمزجة والميول في أفراد البيئة الاجتماعية اختلافاً كبيراً، فإن الأمزجة المختلفة تحمل الناس على عادات مختلفة، وهذه العادات المختلفة إذا تبلورت بالمراس سنين طوالاً أصبحت حواجز بين الأفراد. ولكن على عكس ذلك، فإن نفراً إذا اتخذوا في حياتهم كلها عادات معينة ترجَّحَ أن تقوم صِلاتهم المتبادلة على التعاطف، وأن يكون في عقولهم استعداد للتفاهم. من أجل ذلك جعل الإسلام، وهو الحريص على خير الناس الاجتماعي والفردي، من النقاط الجوهرية أن يحمل أفرادَ البيئة الاجتماعية بطريقة منظمة على أن تكون عاداتهم وطباعهم متماثلة مهما كانت أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية متنافرة.

ومع هذا فإن السنّة مع ما فيها من "التشدّد" المزعوم تقوم نحو المجتمع بخدمة أعظم: إنها تجعله متماسكاً مستقراً في شكله، وتَحُول دون تطور العداء والنزاع، كما اتفق في المجتمع العربي، إذ أثار ذلك التطور اضطراباً عظيماً تحت ستار ما يسمونه القضية الاجتماعية. إن مثل هذه القضايا الاجتماعية تنشأ حينما يبدأ الناس في النظر إلى بعض المؤسسات أو العادات على أنها غير كاملة في نفسها، وأنها من أجل ذلك خاضعة للانتقاد والتبدل المستمر. ولكن فيما يتعلق بالمسلمين، أي أولئك الذين يَعُدُّون أنفسهم مقيدين بشريعة القرآن الكريم، وبالتالي بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أحوال المجتمع عندهم يجب أن يكون لها مظهر مستقر لأنهم يرجعون بها إلى أساس مطلق. وما دام هذا الأساس لا يحوم حوله ريب ما، فليس ثمة من حاجة ولا رغبة في تبديل التنظيم الاجتماعي الذي نتج منه. وهكذا فقط نستطيع أن ندرك الإمكان العملي لما يفترضه القرآن الكريم من أن المسلمين يجب أن يكونوا "كالبنيان المرصوص". فلو أنا طبقنا هذا المبدأ تماماً لما كان المجتمع مضطراً إلى أن ينفق جهوداً على أمور فرعية وإصلاح اجتماعي ليس لها، حسب طبيعتها نفسها، سوى قيمة زائلة. فإذا تحرر المجتمع الإنساني من الاضطراب الكلامي (الجدليّ) ثم بُني على قواعد من الشرع الإلهي والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يستطيع حينئذ أن يستغلّ جميع قواه في معالجة مسائل تسبغ على المجتمع رفاهية حقيقية، مادية وعقلية، فتمهد الطريق أمام الفرد للسير في جهوده الروحية. هذا ولا شيء سواه، هو الغرض الديني للتنظيم الاجتماعي في الإسلام.

وسوم: العدد 893