فلسطين أولا

ردع عار وخيانة التطبيع يبدأ من فلسطين أولا، قبل أي مكان آخر، فلا مقاطعة تصمد بغير استناد إلى جدار المقاومة الصلب، وعبء المقاومة في لحظة اختلاط الأوراق الراهن، لا ينهض به سوى الشعب الفلسطيني، وهو صاحب الحق الأكثر أصالة في القضية كلها، وهو قلب دائرة وعملية إحياء الاهتمام والتركيز على القضية الفلسطينية، وقد غابت أو كادت تغيب، عن أولويات شعور شعوب الأمة العربية، وأمم العالم الإسلامي، المشغولة بألف مأساة ومأساة، تخصها وتمزقها وتفرقها، وتجرف مكانة الحق الفلسطيني، وتيسر للحكام سبيل الخيانة والتطبيع مع كيان الاحتلال، وعلى حساب التطبيع مع الفلسطينيين وحقوقهم غير القابلة للتصرف.

ولا بأس بعقد اجتماع جديد لأمناء عموم الفصائل الفلسطينية، وقد عقدت قبله اجتماعات مماثلة لعشرات المرات في السنوات الأخيرة، من دون أن تنتهي إلى شيء عملي ملموس وملهم، يستعيد للحركة الوطنية الفلسطينية قواما متماسكا، يرد اعتبار الحق الفلسطيني كقضية تحرير وطني، لا كقضية عوز إنساني منفك الصلة بالطموح الوطني، وهذه كانت خطيئة «أوسلو» الكبرى، التي أوحت للفلسطينيين بنهاية رحلة الكفاح المسلح، والانتقال إلى عهد ما يسمى بالسلطة الوطنية، التي تحملت عن الاحتلال تكاليف، ومعونات إعاشة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وقدّمت لسلطة الكيان هدية دوام الاحتلال بالمجان، ثم تدهورت الأوضاع أكثر مع خروج حركة «حماس» عمليا عن خط العداء لصيغة أوسلو، ومشاركتها في الانتخابات تحت سقف «أوسلو» ثم الصدام الدموي مع سلطة «فتح» في غزة، ونشوء سلطتين بدلا من سلطة واحدة، وتحول الانقسام الرسمي الفلسطيني إلى فالق أرضي وطني، لم تفلح مئات الاجتماعات في رأب صدوعه، رغم صدور بيانات ونشر اتفاقات، لم تنفذ أبدا، وهو ما نأمل أن يكون الاجتماع الفلسطيني الجديد، خاتمة لمتاهاته ومهاناته، لا أن يكون مجرد تكرار لإدانات جهيرة مستحقة تصدر ضد حكام التطبيع العرب.

وبالطبع، فليست المشكلة في الشعب الفلسطيني، ولا أحد بوسعه المزايدة على كفاحه المتصل لنحو مئة سنة مضت، وثباته الباسل على أرضه المقدسة، ومآثر أجياله المقاومة، لكن صورة الشعب الفلسطيني المضيئة، يكاد يطمسها الخلل الظاهر في وضع الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم، وصراعات ومساومات الفصائل، وارتباطات كل منها بدوائر إقليمية متخالفة، وتقديمها لعناوين ممزقة متصادمة على حساب القضية الفلسطينية، فما من قيادة جامعة، وما من خطة واحدة متفق عليها، لا في تعريف حدود الحق الفلسطيني، ولا في سبل كسبه، فثمة من يتمسك بسبيل المقاومة المسلحة، وثمة من طلّق زمن المقاومة ثلاثا، ولا يفتأ يحدثك عن السلام والتسويات، رغم عظات تجربة أوسلو بمقدماتها ونتائجها المستمرة لنحو ثلاثين سنة إلى اليوم، توالت فيها المفاوضات بعد المفاوضات، ومن دون أن تحقق شيئا يذكر، اللهم إلا إتاحة فرصة الهدوء الذهبي لكيان الاحتلال، وتوحش الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية، وتآكل الأرض من تحت أقدام الفلسطينيين، وتباعد هدف وإمكانية قيام الدويلة الفلسطينية على حدود 1967، التي صوروها كحلم قابل للتحقق عام 1999، أي بعد خمس سنوات انتقالية من بدء تطبيق صيغة أوسلو، ثم مضت عشرون سنة بعدها وتزيد، قبل أن يعلن أمراء «أوسلو» فساد طبختها، واستعدادهم للخروج من مستنقعاتها، وإلغاء الاتفاقات كلها، بما فيها خطيئة التنسيق الأمني مع كيان الاحتلال، والقطع الكامل لعلاقات التواصل مع العدو، ومن دون أن يقولوا للشعب الفلسطيني ماذا بعد؟ ولا أن يعلنوا حل السلطة عنوان «أوسلو» ولا أن يفتحوا طريقا جديدا بديلا لانسداد طرق الندامة.

صحيح، أن الضمانة الكبرى ظلت صامدة، وهي كفاحية الشعب الفلسطيني، وتسابق أبنائه لتقديم التضحيات الجليلة، من أجل الحق الوطني، كلما أتيحت الفرصة لمقاومة شعبية جماهيرية سلمية، أو برصاص الكفاح المسلح، وعلى طريقة الانتفاضة الكبرى الثانية، التي بدأت أواخر عام 2000، وأرغمت كيان الاحتلال على الجلاء عن غزة، وتفكيك مستوطناته فيها من طرف واحد، فكلما اشتعلت نار المقاومة، استحال على الاحتلال أن يستقر ويدوم، وكل احتلال ينتهي لو زادت تكاليف بقائه على الفوائد، وقد جرى ذلك في الجنوب اللبناني، ثم جرى في غزة، وفي الزمن ذاته الذي روجوا فيه لمقولة السلام ـ إياه ـ كخيار وحيد، ووقعت السلطة الفلسطينية نفسها في هذا الفخ الاستراتيجي، وأهدرت زمنا لا سبيل لاستعادته، بل لاستيعاب درسه على نحو نهائي، وتفكيك القيود المفروضة على حركة الشعب الفلسطيني، وإزاحة تراب أوسلو وما بعدها عن جوهر الحق الفلسطيني، ووقف التعويل البائس على ما يسمى حركة المجتمع الدولي، والرباعية الدولية وغيرها، وعلى نظام عربي منهار، وجامعة دول عربية لا تملك شيئا من أمرها، فلا أحد ينتصر لحقك ما لم تنتصرله أنت أولا، والمطلوب ليس أقل من إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، على أساس فتح الخرائط لا طيها، وإعادة النجوم لمداراتها، واعتبار فلسطين كلها وطنا محتلا، ينبغي السعي لتحريره من النهر إلى البحر، وترك خرافة «حل الدولتين» الذي دفن، والتقدم إلى هدف وحل الدولة الديمقراطية الواحدة على كل أراضي فلسطين التاريخية، ودمج حركة الشعب الفلسطيني كله في سياق نضالي موحد متنوع الموارد، وإقامة منظمة تحرير فلسطينية جديدة موحدة، تمثل الشعب الفلسطيني في الداخل «الإسرائيلي» وفي الضفة وغزة والقدس المحتلة، وفي أوطان الشتات جميعها، وبقوة دفع هائلة، تزيد على 13 مليونا من البشر الفلسطينيين، أكثر من نصفهم الآن راسخون ثابتون فوق أرضهم المقدسة، تطورت ملكاتهم وخبراتهم، وخلقتهم المحنة خلقا جديدا، وصار بوسعهم المشاركة في عمل ومقاومة متعددة الصور، لا تستثني المقاومة المسلحة في جغرافيا غزة والضفة والقدس، ولا تستثني المقاومة الديمقراطية في الداخل «الإسرائيلي» وراء جدار الفصل العنصري، ولا تتوقف عند نشاط دبلوماسي باهت في أروقة المنظمات الدولية، بل ترفده بهبات شعبية سلمية في كل مكان، من حول المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في القدس، وإلى أبعد عواصم الشتات الفلسطيني، تطلب تحرير الشعب الفلسطيني من ربقة الاحتلال الاستيطاني والفصل العنصري، وتستحث أحرار العالم على مساندة الكفاح الفلسطيني ضد العنصرية الفاشية.

قد يكون ما ذهبنا إليه بعيد المدى، وهذا صحيح تماما، فنحن بصدد صراع طويل العمر، ولن يحسم في سنوات قليلة، وإن كان ممكنا حسمه على مراحل، وعلى مدارج عشرات السنوات المقبلة، ربما إلى منتصف القرن الجاري، وقتها يكون الشعب الفلسطيني في وضع الأغلبية السكانية الساحقة على أرضه المقدسة، ولكن ليس كغبار بشري تائه، بل ككتلة حسم واضحة الأهداف، وهذه هي القيمة الكبرى لمخطط الدولة الواحدة، التي ينكمش فيها تمدد المشروع الاستيطاني الإحلالي، وتتغير خرائط التوازنات الدولية، ويتراجع فيها وزن الدور الأمريكي الكوني الضامن لبقاء وسيادة الكيان الاحتلالي العنصري، فساعة نهاية عمر الكيان هي ذاتها ساعة تحلل دور أمريكا الكوني، والارتباط شرطي بين حدود قوة الهيمنة الأمريكية ومقدرة إسرائيل على البقاء ككيان عنصري، وقد كانت تلك واحدة من الأفكار اللامعة لمفكر مصر البارز القومي الشهيد جمال حمدان، طرحها مبكرا في نهاية ستينيات القرن العشرين، فما بين أمريكا وإسرائيل حالة اندماج استراتيجي لا مجرد تحالف، وهو ما قد يصح أن تدركه الحركة الوطنية الفلسطينية من اليوم قبل الغد، وأن تهيئ لنفسها أوضاعا جديدة، تخرج بها من خانات رد الفعل العابر، إلى براح الفعل المؤثر بالتراكم، وقد تكون البداية الواجبة في إنهاء عار الانقسام الداخلي المنهك، وبقرار واحد لا يحتاج إلى بيانات تمهيد، فقضية الشعب الفلسطيني أكبر من «فتح» و»حماس» وأبعد من خيالات حسيرة البصر والبصيرة، وما من بديل عن ترك الخنادق المختنقة، وبعث شعور قومي عربي جديد، من حول قضية فلسطينية متجددة، فقد نمت وتطورت موجة الصعود القومي العربي الأول في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، من حول القضية الفلسطينية بعد نكبة 1948،  وكانت للمرحلة القومية أماراتها ومزاياها ونواقصها، ثم طويت مع الانقلاب عليها في مصر، ثم مع طي الشعور بحرارة الالتفاف حول الفعل الفلسطيني، ثم كان الموات الذي نعيشه عربيا وفلسطينيا، وفي انتظار قيامة جديدة، تبدأ من فلسطين قبل غيرها، وتبدأ من المقاومة التي تستنفر المقاطعة، وتهزم بارونات التسويات وصفقات التطبيع.

وسوم: العدد 893